صحيفة المثقف

الحقبة الزروالية والبوتفليقية تحت المجهر

933 عبدالحميد عباسي (في قراءة وتقديم لكتاب الدكتور عبد الحميد عباسي تحت عنوان: استقلال لم يكتمل )

يرى الدكتور علي بن محمد وزير التربية الوطنية الأسبق في الجزائر أن البعد اللغوي في أية هوية هو الإسمنت الذي يجمع بين عناصرها، كيفما كان تنوعها وتعددها، ولذا فهو يرى أنه على النخبة أن تعكف على دراسة حالة الجزائر التي حباها الله لغة، بأنها من أرقى لغات الأرض، الجاهزة للتطور والتلاِؤم مع أدق الأوضاع العلمية وتاريخُها الزاهر شاهد على ذلك وهو الذي يرشحها اليوم بقوة، لاستعادة مكانتها العالمية، التي كانت لها في السابق، حين كانت الأداةَ العالمية الأولى للتعبير عـن أرقـى العلوم الـبشرية، وأعْـقد المفاهيم الفلسفية، ولكن الشواذ من أبنائها المزعومين، ما فَـتِـئُوا يرمونها بالعاهات التي هي أصلا في نـفوسهم، يذكر ان الوزير السبق علي بن محمد كان من أشد المعارضين لمشروع فرنسة المنظومة التربوية في الجزائر

هي قراءة أجراها وقدمها الدكتور علي بن محمد وزير التربية الوطنية السابق، لكتاب صدر حديثا للباحث الدكتور عبد الحميد عباسي، تحت عنوان: "استقلال لم يكتمل" أو حين تتمادى فرنسا في فرض وصايتها الأبدية على الجزائر، حيث كانت قراءته شبه دراسة تاريخية، خاصة وأنها جاءت تحت عنوان: "نوفمبر..والهوية"، قال فيها أن نوفمبر هو الأصل وما عداه طارئ، واستـثنائيّ، وعابر، ولا يمكن أن تغيب قِـيَم نوفمبر، ودلالاته الرمزية، عـن معظم المقالات التي أوردها الأستاذ عـبد الحميد عباسي ومع ذلك، نراه أبى إلا أن يخُصّ سيد الـشهـور كما يسميه، بـمقـالـة أخرى، في المحور السابق نفسه، وقد جعل عنوانها "دروس من ملحمة نوفمبر"، وهي صادرة في أجواء نوفمبـر 1997، وهـو يبدو فـيها طافح الأمل، متوثب النشاط، يغمره التفاؤل بما يحمله نوفمبر، ذلك العام، للشعب الجزائري الذي بـدا له، أنه "بـعـد انقضاء أكثر من أربعة عـقود على اندلاع الثورة المباركة، ما زال يرى في وَهَـج نوفمبر، ومبادئ نوفمـبـر، وأفكار نوفمـبر، وفي المخلصين من رجـال نوفمبر، ما يجمع شمله، (شمل الشعب)، ويفرّج كُرْبَـتَه، ويوحِّد كلمته، ويُـقَوي عزيمته"، ويدافع علي بن محمد في مقدمة هذا الكتاب عن مواقف اليامين زروال بعد تجميد "قـانـون تعميم استـعـمال اللغة العربية"، حيث وصفها بالنكسة، وما أصاب التيار الوطني ـ القومي من إحباط بانتصار الأقلية التغريـبـية فـي إحدى معارك الهوية الحاسمة، وهو ما قد يفسر الاهتمام المتزايد بالدفاع عن الهوية والذاكرة التاريخية.

ويثمن علي بن محمد فترة الرئيس زروال، بحيث يرى أنها لم تشهد أية حرب على ثوابت الهوية، ولم تقع فيها أية ردة من النوع الذي ستعرفه الحقب اللاحقة، وإن كانت قد لاحت في الآفاق المدرسية، مُـنْـذُئِـذٍ، زَوْبَعةٌ لم يَـقرأ الحكام طبيعتها، وتبعاتها، قراءة صحيحة، وظنوها "سحابةَ صَيْفٍ عنْ قريـبٍ تَـقَـشَّعُ"، وقد تنبأ العارفـون بأحوالها، منذ عَجاجـها الأول، بما في بطنها من أفاع. وجَـزَمُوا بأن العجاجة المقبلة لن تَضْعُـفَ ولن تَـخِفَّ وحذّروا، مُـبَكّـرًا، من أن المُبَرْمَج لها، برعاية خبراء العواصف، هو أن تَغـدوَ، ذات يوم، إعصارا عاتيا، يقتلع الجذور، فإذا كان خارجا عن موضوع هذه الفقرات أن نُفَـصِّل كثيرا في مدلولات هذه المقالات التي توقف القارئ عند خريطتها الزمنية، فإننا نريد أن نقـف عند أهم ملامح ما نُشر منها في فـترة الرئيس لمين زروال؛ ثم في فترة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وقد توقفنا عند ظاهرة تَخُص معظم مقالات الحقبة الزروالية بمحور الهوية والذاكرة الثورية بكل وضوح، بينما كانت مقالات الحقبة البوتفليقية يسيطر عليها محور السلم والمصالحة، وتلك ظاهرة لابد أن تَـسْتَـلْفِت القارئ المتأني. فإنّ الَّلغَط الأكبر حول الهوية واللغة العربية إنما وقع زمنَ بوتفليقة.

وباسلوب التعميم يقدم علي بن محمد قراءته على أن المؤلف يُـصِرّ على فكرة أن الـشعب الجزائري، ما زال يرى في وَهَـج نوفمبر، وأفكاره ومبادئه وفي المخلصين من رجال نوفمبر، ما يجمع شمله الخ..." ثم يـؤكد هـذا اليقين الذي لديه، في عمومية الإيمان وشُموليته، باستمرارِ الانحـيازِ الشعبيّ الصريح إلـى ما سماه" وَهجَ نوفـمبر". ويؤكده بكل قوة حين يَجْزِم، بثـقـةٍ عالية، "أنـه لا (يـَـ)عْـتـقـد أنه يوجد، في الجزائر اليوم، من يرى في نوفمبر غير هذا الرأي..."! ثم يشعر بأنه في حاجة ماسة إلى تخفيف ذلك الحكم الـصارم، فيورد بعضا من عناصر المعاني الكفيلة بتعديله، وإدخال شيء من النسبيَّة فيه، فيقول: "صحيح أن رسالة نوفمبر لم تكتمل بعد، وأن تحقيق الكثير من أهداف الثورة ومكتسباتها مازال في بداية الطريق،، خصوصا، ونحن نرى اليوم، أن بعض هذه المكتسبات التي تحـقـقـت بفـضل نوفمبر قد أضحت هـدفا لسهام أعداء نوفمبر، وخلاصة القول في هذه النقطة، يرى علي بن محمد أن البعد اللغوي في أية هوية هو الإسمنت الذي يربط في ما بين أجزائها، ويجمع بين عناصرها، كيفما كان تنوعها وتعددها، ولذا على النخبة أن تعكف على دراسة حالة الجزائر التي حباها الله لغة، وتعمّق في فهم أساليبها، بأنها من أرقى لغات الأرض، المكتملة العُدّة، الجاهزة للتطور والتلاِؤم مع أدق الأوضاع العلمية. وتاريخُها الزاهر شاهد على ذلك وهو الذي يرشحها اليوم بقوة، وبجدارة، لاستعادة مكانتها العالمية، التي كانت لها في السابق، حين كانت الأداةَ العالمية الأولى للتعبير عـن أرقـى العلوم الـبشرية وأدق المشاعر الإنسانية، وأعْـقد المفاهيم الفلسفية، ولكن الشواذ من أبنائها المزعومين، ما فَـتِـئُوا يرمونها بالعاهات التي هي أصلا في نـفوسهم.

و في هذا المضمار يستشهد علي بن محمد بموقف الرئيس الفرنسي (فرانسوا هولند) حينما أخبر شعبه بأنه لن يترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة، واغتنم الفرصة لتقديم حصيلة أولية لما أنْجِـز في عهده، فـشـده القولُ في مَعرِض كلامه عما اتخذه من الإجراءات، والتدابير القانونية، لمحاربة الإرهاب، قال موضحا علة تلك التدابير: "سندافع عن ثقافتنا، وعن نمط حياتنا الذي لن نغيره"، وعندنا، في الجزائر المحروسة، نسمع من المتنطعين، والمتطفلين على الإعلام، والساعين إلى هدم أسس وحدة البلاد، بكل ما أوتُوا من جهد، وفي خضم هذه القراءة يضع علي بن محمد نظرية القابلية للإستعمار لمالك بن نبي تحت المجهر إذ يقول : حيث ما يوجد استعمار، توجد قابلية الحُكّام لقبوله، والعمل معه، والسماح له بالتدخل والهيمنة؛ لا بل تَـدعـوه صراحةً لبسط النفوذ، والتدخل في أخص أمورها بها، لأن مصالح الحكام كثيرا ما تندرج، بل تذوب، في مصالح أولئك المهيمنين، ومِـنْ هنا تتحقق نظرية مالك بن نبي. وأحرى بالذين يَألـمُون من هيمنة الأجنبي عليهم، ويَضِجّون من صَوْلته في وطنهم، أن يحاربوا، بجـدية، ما في نفوس، وما في عقول نُخَبهم المستلبة، من بذور "قابلية الاستعمار"، النامية لديهم، الضاربة بجذورها فيهم. فهم، في كل بلد، لْقَطاءُ الوطن، أيتامُ ثقافتهم الوطنية. أفئدتهم مخازنُ الـوَباء القاتل.

عباسي يصف المرحلة البوتفليقية بالسوداء

و بالعودة إلى مضمون الكتاب يلاحظ أن الدكتور عبد الحميد عباسي وهو برلماني سابق وأستاذ محاضر بجامعة بومرداس .الجزائر، يقيم بالجزائر العاصمة، وشارك وحاضر في العديد من الملتقيات الثقافية والتاريخية الوطنية..، حيث تحدث عن خلفيات الإستيطان الفرنسي في الجزائر وما تميز به من ظلم واستعباد وتعذيب وقتل لكن الشعب تمكن من تحقيق الإستقلال، غير أنه ير أن هذا الاستقلال غير مكتمل في الكثير من مضامينه ومعانيه، ففرنسا حين تأكد لها أنها خسرت الحرب، وأن الجزائر ستخرج من قبضتها لا محالة تركت وراءها عملاء كونتهم ودربتهم وربطت مصيرهم بمصيرها ليحلوا محلها ويحفظوا مصالحها ويكونوا عيونا لها في الجزائر، ما مكنها من الإستمرار في فرض وصايتها على الجزائر، الكتاب يضم خمسة محاور هي عبارة عن مقالات جمعها الكاتب، وركز فيها على أهمية اللغة والهوية الوطنية ودور الجامعة والمنظومة التربويىة، واضاف له محورا خاصا من خلاله سلط الضوء على الوضع الإقتصادي والإجتماعي في البلاد، ويلاحظ أنه انتقد وبشدة المرحلة التي قضاها الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة طيلة عهداته الأربعة، اتسمت كما قال هو باتساع مساحة التدخل الفرنسي في شؤون الجزائر الداخلية خاصة في السنوات الأخيرة من حكمه، ومست جوانب ومجالات عديدة، لم تكن متاحا لها في التدخل واللعب فيها من قبل، وتوطدت هذه العلاقات أكثر منذ زيارة الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الجزائر، ولكن في السنوات الأخيرة شهدت الساحة السياسية ترهل مؤسسات الدولة وتعدد مصادر القرار فيها، وزاد الوضع تعقيدا بعد سقوط الرئيس أسير المرض وغيابه أو تغييبه عن تسيير شؤون البلاد لفترة طويلة، نتيجة لذلك يضيف صاحب الكتاب تحول الكثير من المثقفين والأكاديميين الذين من أشد الناس دعما وتأييداو مساندة للرئيس بوتفليقة سنة 1999 تأثرا بوهج المرحلة البومديينية التي كان أحد أبرز رجالها، وتعلقا بأي أمل طلبا للخلاص من محرقة العشر العجاف إلى اشد الناس اختلافا معه ومعارضة له ولنهجه أيضا، بل شطّوا في مخالفته.

لقد حاولت الطبقة المثقفة رفع الصوت عاليا في وجهه وليُّ العصا في يده بعد ذلك حين تأكد لهم الإنحراف، وراوا بأم أعينهم انحيازه الوضاح والفاضح قولا وفعلا لفرنسا وللوبي الفرانكفوني الموالي لها، بل مغازلتها والتودد لها لكسب رضاها وإرضائها وخدمتها وتحقيق مصالحها الثقافية والإقتصادية على حساب مصالح الجزائر وتاريخها وسيادتها وحرية قرارها، حتى وعوده بإجراء إصلاحات كبرى في هياكل الدولة لم تتحقق، وظلت مجرد كلام وأوهام، وفهم من كلام لكاتب أن الرئيس بوتفليقة كان يبيع للشعب الأوهام ويخاطبهم بالكلام المعسل البعيد عن الواقع، وقد قارن لكاتب بين ما كان قائما قبل 1999 وحال البلاد اليوم، مثمنا في ذلك جهود الحيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني والشهداء الأبرار المؤتمن الفعلي على صون وحماية البلاد، وبقيامه في المدة الأخيرة بخطوات مزية مهمة باعثة على الثقة والإطمئنان والإرتياح لتسلل اليأس إلى العزائم والنفوس.

و قد استعرض الكاتب في مقدمة كتابه الأحداث التي مرت بها الجزائر مر كزا على أحداث أكتوبر 1988 واختلاف الدارسين والمحللين بشأن تقييم الأحداث التي جرت في ذلك اليوم الخريفي الكئيب. فمنهم من اعتبرها انتفاضة شعبية هدفها إسقاط النظام وتغييره،أو محاولة إصلاحه على الأقل،كما هو الحال بالنسبة للتيارات الراديكالية عامة، من اليمين إلى اليسار، بما في ذلك القوى ذات النزعة التغريبية،ومنهم من اعتبرها انتكاسةً مدمِّرة، ونقطة تحول حالكة السواد،ومشروعا تآمريا خطيرا،هدفه ضرب التوجه الوطني للبلاد ،وترسيخ سياسة الإقصاء والإلغاء، والقضاء على مبادئ وقيم ثورة نوفمبر 54 .. وأن " الذين خططوا لأحداث الخامس من أكتوبر،فعلوا ذلك حتى يجرِّدوا ثورة نوفمبر من نبلها وقداستها" كما هو الحال لدى جمهور التيار الوطني، وفي طليعته أبناء الأسرة الثورية، حسب الكاتب كانت هذه الأحداث الموجهة والمخطط لها بعناية ورعاية من قبل مستعمر الأمس،إما بطرق مباشرة، أو عبر وكلائه وممثليه في الداخل - بداية لمراجعة كل شيء،والتراجع عن كل شيء، ومؤشراً واضح الدلالة على دخول البلاد دوامة الانحراف والفوضى والتسيب وعدم الاستقرار .

 وباعتباره واحدا ممن عايشوا تلك المرحلة وكان من ضمن الشباب المتحمس الحالم باستكمال حرية بلده واستقلاله وسيادته الرافض  لأي مظهر من مظاهر الوصاية والهيمنة والنفوذ والتدخل من جانب فرنسا في أي شأن من شؤوننا ، فقد وجد أن الضمير الحر،والواجب الوطني،يدعوانه إلى الانخراط في أتون هذه المعركة الشرسة والمقدسة في الوقت ذاته، وخوض غمارها بقلمه،على جبهات عدة،تحت سقف دستور البلاد وقوانينها السارية، وفاء منه لرسالة الشهداء الأبرار حيث رأيى كما رأى غيره، أن قلاع الوطن وحصون مناعته واستقراره واستمراره، مستهدفة بمكر وخبث وسوء نية من قبل أعداء الجزائر في الخارج ووكلائهم ولقطائهم في الداخل، إذ يرى أن السكوت والتقاعس، أو غض الطرف إزاء ما يجري أمر غير مقبول، بل إن تجاهله والتغاضي عنه يشكّل خيانة عظمى وطعنة نجلاء تسدد لهذا الوطن، ولرسالة الشهداء الأبرار .

 

قراءة علجية عيش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم