صحيفة المثقف

بين محبي الكتاب

عامر كامل السامرائيللكاتب التشيكي: هاشيك ياروسلاف

ترجمها عن المجرية: عامر كامل السامرائي

***

أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان، هو أن يقع بين براثن سيدة تحب الأدب، والتي تدعو عشاق الكتاب إلى صالة بيتها ليتجمهروا حولها، وتقيم لهم لقاءات أدبية يتم خلالها تقديم الشاي وقطعتين من الكعك هي نصيب كل صديق للكتاب.

حقاً، ما كان ينبغي عليَّ الذهاب إلى دار السيدة - هرزانوفا - لحضور حفلة الشاي الأدبية لكنني رغبت في تلبية دعوة صديقي، الذي أقنعته مرة بأنني أملك في بيتي نسخة أصلية من ديوان الشاعر الفارسي حافظ مجلدة بجلد بشر. فقام صديقي بنشر هذا الخبر بين محبي الأدب وراعيتهم السيدة هرزانوفا التي عبرت عن رغبتها بتقديمي لها للتعارف.

في الصالة وجدت 12 وجهاً متحمساً، كنت أرى في بعضها الأدب العالمي نفسه يحملق بي. كان مجيئي موضع ترحيب وسرور واضح. وفي رأيي أن صاحب كتاب كهذا مغلف بجلد بشر للشاعر حافظ يستحق بجدارة أن يكون من نصيبه أربع قطع من الكعك. فعليه التقطت من الصحن أربع قطع من الكعك، بحيث لم يبقَ للآنسة صاحبة النظارات الجالسة بعدي شيء، فبلغت بها الحسرة بسبب ذلك إلى الحد الذي جعلها تتحدث عن غوته وكيفية اختيار الأقارب.

جلس أمامي شاب يبدو وكأنه مؤرخ أدب، وبشكل مفاجئ وجه لي سؤالاً على النحو التالي:

- هل جنابكم تعرفون غوته بالكامل؟

فأجبته بجدية:

- من رأسه حتى أخمص قدميه.

كان الشاب يحتذي حذاءً أصفرَ ذا شرائط وعلى رأسه قبعة بُنية اللون من جلد الماعز، ويعمل رقيباً للضرائب في دائرة جمارك الأغذية، ويسكن في شارع الراهبات في غرفة بإيجارٍ شهري.

نظر إليَّ أصدقاء الكتاب بشيءٍ من الأسف والامتعاض، ولكي تُغشي السيدة المضيفة على هذا الحَرَجْ سألت:

- حضرتك أيضاً من المهتمين بالأدب جداً اليس كذلك؟

فـأجبتها:

- سيدتي الموقرة، في وقت ما قرأت العديد من الكتب منها: الفرسان الثلاثة، وقناع الحب، وكلب بيشكرفيلي، وروايات أخرى، وقد كان جاري يحتفظ لي وبشكل مستمر بالروايات الست السياسية المسلسلة لكي أقرأها كلها مرة واحدة أسبوعياً. كنت مهتماً بالقراءة بشكل غير معتاد، وكنت أتوق دائماً لمعرفة هل ستقبل الكونتيسة ليونا بالزواج من القزم ريتشارد الذي لأجله قتلت والدها، والذي بدوره أطلق الرصاص على خطيب ليونا وأرداه قتيلاً بسبب الغيرة. نعم، فعلاً للكتاب سطوة عجيبة. وعندما ساءت أحوالي، قرأت شاب ميسينا. ذلك الشاب المسكين الذي صار لصاً وهو لا يزال في التاسعة عشر من عمره. وكان يُدعى لورينسو. بالتأكيد، قرأت الكثير، ولكن ما عدت أقرأ. لا تهمني الكتب مطلقاً.

امتقعت وجوه أصدقاء الكتاب تماماً، فسألني شخص طويل القامة ذو عينين شائكتين، بحزم وبصوت جارح وكأنه قاضي تحقيق:

- هل تهتم بأميل زولا؟

- لا أعرف عنه سوى القليل – قلت – ولكنني سمعت أنه سقط في حصار باريس أثناء الحرب الفرنسية -الألمانية.

- تعرف من هو موباسان؟ - سألني ذات الشخص غاضباً.

- قرأت له كتاب لمحات عن سيبيريا.

- أخطأت حضرتك! – تأوهت بها الآنسة صاحبة النظارات التي تجلس بقربي:

- حكايات عن سيبيريا كتبها كورولينكو و سيروسيفسكي، و موباسان كاتب فرنسي!

- ظننته هولندياً – قلتها بهدوء. – ولكن ما دامه فرنسياً فلربما هو الذي ترجم قصص سيبيريا تلك للغة الفرنسية.

- ولكنك تعرف تولستوي اليس كذلك؟ - سألت السيدة صاحبة الدعوة.

- شاهدت تشييعه في السينما. ولكن من وجهة نظري، شخص بهذه الشهرة مثل تولستوي الذي اكتشف عنصر الراديوم، كان يستحق تشييعاً أكثر بهاءاً.

خيم الصمت في الصالة لعدة لحظات. مؤرخ الأدب الذي يجلس قبالتي، شخصني بعينين محمرتين وسألني بصوت لاذع:

- غير أنك بالتأكيد تعرف الأدب التشيكي جيداً؟

- ببيتي تستطيع أن تجد في دولاب ملابسي الداخلية كتاب الأدغال، أظن هذا يكفي – قلتها بشموخ.

- ولكن كيبلينغ كاتب إنكليزي! – قالها باكياً ودفن وجهه بين كفيه سيد غلب عليه الصمت طوال الوقت.

- لم أتكلم عن كيبلينغ! – صرخت شاعراً بالإهانة.

- أتحدث عن توجيك مؤلف كتاب الأدغال.

سمعت رجلين وقورين يهمسان، بأنني حيوان، هاذان الشخصان المجهولان كانا يهمسان بصوت عالٍ لكي يُسمعاني ما يقولان.

توجه نحوي شاب طويل الشعر شاحب الوجه شابك يديه وكأنه يُصَلّي.

- حضرتك لا تفقه من جمالية الأدب شيئاً، ولستَ قادراً على تقييم الأسلوب، ولا على معرفة الترتيب الرائع للجُمَل، بل حتى الشِعر لا يثير حماسك. هل سمعت بتلك القصيدة العاطفية للشاعر ليلينكرون، التي يستشعر بها جمال الطبيعة: "يسير الغمام عالياً، الغمام الأزرق يحلق فوق الجبال وفوق الهضاب، وفوق حزام الغابات غامقة الخضرة"؟

وأكمل رافعاً صوته ومتكئاً على كتف صديق الأدب الجالس بقربه:

- وماذا تقول في نار دانونزيو؟ ليتك قرأت احتفالات البندقية، إنها تمثيل جميل ومعبّر للحب الذي يدور في خلفية الرواية...

نظر إلى مصباح الغاز، ومسح على جبينه منتظراً بماذا سأجيب. فقلت:

- بالفعل لم أفهم تماماً لماذا أضرم النار دانونزيو هذا في أوقات الأعياد؟ بِكَم حُكِمَ عليه؟

- دانونزيو أشهر شاعر إيطالي – أوضحت لي بلا كلل الآنسة صاحبة النظارات.

- غريب – قلتها ببراءة ملائكية.

- ما الغريب في هذا؟ سأل صارخاً أحد السادة الذين لم يتفوه ولو بكلمة يتيمة لحد تلك اللحظة. – وأضاف، هل حضرتك تعرف ولو شاعراً واحداً من شعراء إيطاليا على الإطلاق؟!

أجبته بشكل مهيب:

- بالطبع. روبنسون كروسو!

نظرت حولي مثل قائد حرب منتصر.

أما محبي الأدب الاثنا عشر وأصدقاء الكتاب فقد شابت رؤوسهم في تلك اللحظة، فحملني محبي الأدب وأصدقاء الكتب أولئك الاثنا عشر الذي شابوا بوقت مبكر وقذفوا بي جميعهم وبقوة من نافذة غرفة الطابق الأرضي إلى الشارع.

 

.................

نبذة عن الكاتب:

ياروسلاف هاشَك : كاتب تشيكي ولد في 30 أبريل عام 1883 وتوفي في 3 يناير عام 1923.

كان صحفياً وكاتباً فكاهي وبويهيمي فوضوي. اشتهر بروايته " The Good Soldier Švejk"، وهي مجموعة غير منتهية من الحوادث الهزلية حول جندي في الحرب العالمية الأولى وهجاء لاذع لشخصيات السلطة عديمي الكفاءة. تمت ترجمة تلك الرواية إلى حوالي 60 لغة، مما يجعلها الرواية الأكثر ترجمة في الأدب التشيكي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم