صحيفة المثقف

عقدة الخوف في كتابة التاريخ

949 جهاد كرملا يندرج كتاب (بعثيون من العراق) للكاتب جهاد كرم، ضمن كتب التاريخ السياسي العراقي، إذا ما توخينا من التاريخ أن يكون مفتاحاً للمعرفة المضافة، والتعرف على الأحداث بقيمتها وأفكارها ودروسها، ومن هذه المسلّمة يمكن أن نعدّ كتاب كرم، مصدراً ببلوغرافياً لاغير، لشخصيات قيادية عراقية على الأغلب في حزب البعث، دوّنها الكاتب وفق رؤاه، وإعتماداً على ذاكرته الشخصية، غابت عنها منهجية الكتابة، والعودة للمصادر التاريخية في توثيق ما ذهب اليه .

جهاد كرم اللبناني الجنسية، أحد قياديي البعث، مثّل العراق دبلوماسياً لمدة ثلاث عشرة سنة، وشغل موقع سفيره في أكثر من بلد ما بعد تموز 1968، حاول كما زعم في مقدمة كتابه، تسليط الضوء على التجربة البعثية وينقلها (بكل أمانة ودقة وصدق!)، إلا ان ما توخاه وما قصده كرم وفق ما أشار، للتعريف بالشخصيات البعثية التي إختارها، وقدمها للقارىء، جاء متناقضاً للأسف الشديد مع أهم شرط في التوثيق، وهو (الأمانة التاريخية في كتابة التاريخ)، على الرغم من أن الكاتب مدّنا بمعلومات شخصية واسعة عن قيادات حزب البعث، تبدو جديدة لقارىء من جيل لم يعاصر تلك الأحداث .

يقول الكاتب (أندريه جيد): إن الإنسان هو تاريخ الحقائق التي يُطلق سراحها، هل إستطاع جهاد كرم أن يطلق سراح الحقائق الملحّة لتجربة البعث في العراق؟ وإلى أي مدى يمكن أن تكون الشخصيات التي تناولها محوراً لإعادة النظر في التجربة بكاملها؟ أم ان عقدة الخوف ظلت تلازمه، وعقدت لسانه؟ حتى وهو يوثق لمرحلة غابت عنها سلطة الحزب، وسلطة الفرد الدكتاتور، منذ ما يقارب العقدين من الزمن .هذه العقدة، هي التي قادت جهاد كرم إلى تحريف الحقائق في حادث مقتل فؤاد الركابي في سجن بعقوبة عام 1969، وهو حادث معروف لسنا بصدد الخوض في تفاصيله، إذ يقول عنه : مات فؤاد في ظروف غامضة خلال خروجه من السجن بعد أن صدر أمر الإفراج عنه !!(ص18)، هذه الرواية المتقاطعة مع كل الروايات التي أثبتت الدوافع والأسباب وراء مقتل الركابي داخل السجن، بتهمة ملفّقة، مدبروها ومنفذوها معروفون .

وحينما تواجه القارىء رواية بهذه الهشاشة، منذ الصفحات الأولى من الكتاب، وهو يتابع القراءة، عليه ان يكون شديد الحذر في التعامل مع الروايات الأخرى في فصول الكتاب اللاحقة .

إن فاصلاً زمنيا طويلاً بين صدور الكتاب (2010)، وبين إنهيار النظام في العراق إثر الإحتلال الأمريكي عام 2003، ان هذه السنوات السبع كافية بتقديري لكي يتحرر جهاد كرم من سطوة الخوف، ليكتب بيد مسترخية لا مرتعشة، إلا انه ظل اسيراً لتلك الأشباح التي تطارده، وتسكن عقله، فكرّست عزوفه عن ذكر الحقائق بتجرد وحرية، وبما يدعونا للتساؤل الأكثر إلحاحاً : ما قيمة أن يدلي الكاتب أو السياسي بشهادات ناقصة ؟ فهناك أكثر من سؤال يظل مفتوحاً !!لذلك جاءت النتائج مغايرة للتوقعات، وظل الإنتفاع من الكتاب محدوداً، لايقدم إضافة نوعية رصينة ضمن رؤية صادقة ومعمّقة، إنما برؤية أحادية وسواسة .

إلا ان الهامش الأهم في الكتاب بإعتقادي، يقودنا إلى مناقشة (إشكالية) كتابة التاريخ السياسي، إذ لا تقتصر هذه الإشكالية على حزب البعث، إنما تمتد إلى تجارب الأحزاب السياسية الأخرى في العراق والمنطقة معاً، فإذا ما توخينا الجدّ في كتابة التاريخ، علينا مطالبة هذه الأحزاب بدراسة ومراجعة تجاربها، فما صدر عنها، وإن كان متأخرا، يغلب عليه التعميم والمطلق، بإستثناء بعض المراجعات والمذكرات الشخصية التي ظلت مبتسرة، فأنها لم تساعد على حل ألغاز الماضي .

إن الوعي بالتاريخ غير قراءته، والإنتقال من العقد المغلقة إلى رحابة الفكر الفسيح يحتاج إلى شجاعة سياسية وفكرية، وحدها القادرة على كشف الملتبس في تجارب تلك الأحزاب بوعي نقدي جديد، وعقلانية تعتمد الجدل المعرفي، وتتقبل الصراع باشكاله، لأنهما عنوان يقظتنا الجديدة .ولكي يستقيم الوعي لابد من مفاهيم مرنة وواضحة، تكشف أسباب الخسارات والإنكسارات العميقة في تجارب الأحزاب، مع أدوات فهمية لاتتردد في مواجهة الفشل السياسي، بعيداً عن سلطة الإكراه .

إن المواقف الداعية لغلق الأبواب بوجه محاولات التجديد، بدوافع وتبريرات مختلفة، منها ذات طابع إنعزالي، أو فردية وجمود فكري، بعيداً عن جدل الحاضر وآفاق المستقبل، تتطلب على الدوام إعادة وفحص ومراجعة التاريخ، والأحزاب بما تمتلك من خزين معرفي تاريخي وعميق، وأصالة في التجربة، بما يمكنها من الإرتقاء إلى مستوى متميز في الحوار مع الآخر المختلف، وبما يوفر الضمانات والمقومات التي تكفل فيها الحياة، والنمو في عالم يزدحم بالآراء والمؤثرات والتناقضات.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم