صحيفة المثقف

السياسات القذرة..عالم الشر

مهدي الصافيعندما يذكر العالم ان الحياة هي الصراع او الصدام الدائم بين الحضارات، هو بالطبع مايقصد به الصراع التاريخي الازلي بين الخير والشر (تجسد كما يقال في بداية الخلق بقصة هابيل وقابيل)، وهو بالحقيقة ايضا صراع بين الحاكم والمحكوم، بين السياسة القذرة التي تمارس وتنتهج عمدا وتتبع كل السبل الوضيعة والانحرافات الرخيصة والاختراقات والمراوغات والتعميات والتغطيات والالاعيب من اجل المنافع الذاتية (الشخصية) لمنظومة الطبقة او الاسرة او المجاميع الحاكمة تجاه الطبقات المحكومة..

من هو الحاكم؟:

هو يبدأ من قمة هرم السلطة السياسية ثم تنزل الى المستويات السيادية الادنى، تحت سلطة المسؤول او المدير او الرئيس او رب العمل، وتبدأ ايضا تلك الظاهرة بالدوران في الفضاءات او في بقية السلطات المتداخلة، كالسلطات الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية او التجارية الخ.

ففي كل تلك المجالات هناك حاكم ومحكوم، رئيس ومرؤوس، مدير وموظف، تاجر وكاسب، اقطاعي وفلاح، معلم او استاذ وطالب او تلميذ، غني وفقير، مجرم وضحية، سيد وعبد، قائد ومقود او مقاد، الخ.

هذه السلطات الاستبداية التاريخية التي تمثل كما نعتقد جوهرعالم محور الشر، هي سلطات تتفاوت نسبة تأثيراتها القذرة تبعا للظروف والبيئة والموروث واحيانا الاديان، وكذلك تزداد وتتسع دائرتها وحجمها وفقا للطبيعة الثقافية والمستويات العلمية للامم والشعوب المختلفة، ولكن ان ترى ان في الحضارة الغربية العلمانية (فضلا عن بقية دول العالم) انتشار كبير للمصالح التجارية والاقتصادية التي تديرها العوائل والاسر الثرية او المتوسطة الدخل، فهذا يعني ان النزعة السلطوية الاستبدادية في الميدان التجاري كبيرة جدا ومتزايدة، بل وفي اوج مستوياتها، تدفع بالناس ان تبتعد عن تلك الضغوطات والمسؤوليات والاملاءات والرقابة الروتينية المقرفة لاصحاب المصالح الرأسمالية الكبيرة تجاه الطبقة العاملة، وكأنه مجتمع حيتان واسماك بشرية ضعيفة، وهي اكبر دليل على حالة الحرب المستمرة بين قوى الشر والخير (اي الحاكم والمحكوم) ...

من هو المحكوم؟:

كما ذكرنا سابقا هم ادوات ومادة والات وعجلات ووسائل ووسائط بشرية تستغلها السلطات الحاكمة نحو اهدافها الخاصة، هم غالبية المجتمعات الانسانية، بدأت تلك القصص منذ اساطير الحضارات القديمة، وتفاعلت بقوة مع ماجاءت به الاديان جميعها، هي رسالة متوارثة متجذرة عن اساليب الطاعة والخضوع والاستسلام التام من قبل المحكوم تجاه الحاكم (الاله في الحضارات القديمة، الخالق عزوجل الذي حولته الاديان الى اله ارضي بعد ان تجاوزت عظم وكبر المسافة الهائلة بين الخالق الحقيقي والاله البشري)، اي ان المشكلة الاكبر المتوارثة التي واجهتها البشرية منذ القدم ولازالت هو سلطة الحاكم (الاله او الامبراطور او الملك او الرئيس او المسؤول الخ.) الارضي المستبد، الذي لايتوقف ولايحده حد من استخدام واستحضار اية حجج واعذار واساليب شرعية او غير شرعية، اخلاقية او غير اخلاقية، منطقية انسانية علمية او العكس، لبسط النفوذ والهيمنة والاستحواذ المطلق على مقدرات ومصائر الشعوب والعالم برمته، لاهم لهم سوى ان تتسلط قوى الشر وان تمر افكار الحاكم الكوني المطلق فوق رؤوس المحكومين (المجتمعات البشرية)، بما فيها المجتمعات المتحضرة الحديثة.

لازالت اللغات والاساليب والاهداف والصراعات والمحاولات الاستبدادية هي النموذج العالمي المطبق في حركة المجتمعات والدول الحديثة...

قد يطرح سؤال مهم عن الحلول العلمية الواقعية التي يمكن لها ان تجد مخرجا جوهريا لمثل هكذه اشكالية معقدة لازالة تلك الافة الكونية المستحكمة، هل يمكن ان تتخلى الدول والمجتمعات الانسانية عن فكرة الحاكم والمحكوم، والتي عادة ماترد بمثل شائع "وهل يمكن للسفينة ان تبحر دون قائد او قبطان"، الجواب نعم ولا...

اذا نحن نبحث عن منطقة الوسط بين محور الخير والشر، التي تعد مرحلة التغيير والانطلاقة الحديثة لتعريف ووضع مفاهيم اخلاقية واقعية جظيدة تسيطر على اليات عمل السلطة، وتفضح او تحارب قوى الهيمنة والاستبدادا، في منطقة حدود الانقاذ الانساني، تأخذ بيد البشرية بعيدا عن محور الشر، قريبا من محور الخير، ولكن كيف يمكن ان تطبق تلك النظرية او الطريقة الانسانية الاخلاقية وسط تلك الجذور الاستبدادية التاريخية المتوارثة، وماهي السبل الكفيلة والقادرة على قطع او تقليل امتداد اذرع شبكات الاستعلاء الطبقي الرأسمالي المدمر، لاشك ان اولى تلك الخطوات هي تمر عبر وسائل تقليل اساليب الهيمنة الشبه مطلقة في السياسة والتجارة والاقتصاد والتربية والتعليم والانظمة والقوانين المحلية والدولية (كألغاء هيمنة النقد الدولي اي الدولار والبنوك الراسمالية على اقتصاد الدول الناشئة او النامية، عبر عولمة الاقتصاد بطرق اخلاقية انسانية وليست عبر اساليب لي االاذرع وطرق الحرب والمنافسة والصراع السوداء) الخ.

من المفترض ان اوربا وامريكا تمثل النماذج القدوة في مجال ردم الهوة بين الحاكم والمحكوم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية او الحرب الباردة، لكنها شهدت تراجعا ملحوظا بعد ان اصبحت تلك الفجوة الطبقية الهائلة في المجتمع الرأسمالي (الاثرياء المتحالفين مع الديمقراطية الرأسمالية اي مع الطبقة السياسية) بين الاثرياء والطبقات الاجتماعية الاخرى واسعة جدا، فقد سجلت ووصلت ثروات بعض اثرياء العالم ارقاما فلكية غير مسبوقة في تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة، وكأنها عودة تدريجية لطبيعة حياة المجتمعات في القرون الوسطى، امبراطور وامبراطورية كنسية يدور حولها الحرس والرعايا والخدم...

مما تسبب بشكل واضح بعودة الثقافة العنصرية للمجتمعات المتحضرة نسبيا، وكذلك صعود المد اليميني المتطرف، الذي يصور على انه الوسيلة الوحيدة لمواجهة تلك الظواهر السلبية المؤثرة، فتصرف الانظار عن حقيقة المشكلة الرئيسية والازمة المالية الخانقة والصراع بين الاثرياء والفقراء، بالتضخيم والترويج لمشاكل جانبية ثانوية، وجعلها مادة للتصعيد الاعلامي الكبير (الاسلامفوبيا، او كعلاقة المهاجرين بالامن والاقتصاد، واذكر حتى ايران تلك الدولة المتوسطة الحجم على المستوى الدولي كانت ترمي اعباء الحصار والفشل الاقتصاظي والفساد المالي على رقاب المهاجرين الفقراء من الافغان والعراقيين المقيمين لديها، الذين لايأخذون من خزينة الدولة تومان واحد، فالافغان يعملون في مهن منقرضة، واما العراقيين فهم يعيشون على الحقوق الشرعية، والحوالات والمساعدات المالية التي تأتي لهم من الخارج، وكلاهما مصدر بسيط لكنه مؤثر في تعزيز الاقتصاد الايراني المحاصر وليس العكس)، او العمل من خلال الاعلام (الميديا) لاثارة قصص وقضايا ومناسبات كبيرة لشغل الراي العام وحرف مسار وعيه واحتياجاته الطبيعية، هذا التفاوت الطبقي بات يهدد الانظمة الديمقراطية العريقة، ويحعلها مجرد روتين دوري يهيمن عليه اصحاب القرار الرئيسي في ادارة تلك اللعبة، لعبة السياسة والمال،

ولهذا بات يسمع ان ضغط العمل يسبب الكثير من الامراض النفسية للموظفين والعمال، مما ادى بالتالي لتحريك المختصين في منظمة الصحة العالمية لاضافة مرض ضغط العمل اي الارهاق الوظيفي او المهني الى قائمة الامراض الدولية (تعرف بأنها متلازمة ناتجة عن الاجهاد المزمن في مكان العمل لم يتم التعامل معها بنجاح..منظمة الصحة العالمية)، وهو نوع من حالة الاستعباد الرأسمالي للموظفين والعمال المهرة بغية زيادة نسبة مؤشر الارباح المستمرة...

الرأسمالية الامبريالية (تحالف السياسة والمال) هي الطاغوت الحقيقي في العصر الحديث، تجرف كل شيء يقع امامها، بشر وحجر وثروات، لم تعد الاخلاق والقيم والمبادئ الانسانية معيار وهدف الامم والشعوب الحية، حروب وازمات وفتن تدار بالوكالة، ومشاهد وصور  جثث الاطفال والضحايا المنتشرة فوق سطح الارض والبحر لايمكنها ان توقض ضمير الانسانية العالمي الذي اماتته او حجبته الارادة السياسية القذرة لطواغيت العصر...

لماذا لايمكن ان يعيش الانسان خارج دائرة مفهوم الحاكم والمحكوم؟ لان الثقافة او ايديولوجيا الحكم والموروث والاديان لاتسمح لاية ثورة معرفية اخلاقية انسانية ان ترى النور، او ان تنقذ البشرية من قيود الحاكم المطلق (النظام السياسي، الاعراف العادات والتقاليد، الرأسماليين، الانظمة الادارية والقوانين التشريعية الخ.) العالمي او المحلي،

من هنا تجد ان تلك الظواهر الاجتماعية المخفية او الذائبة في الحياة العامة (لانها تمثل الظاهرة المصطنعة العامة التي لايمكن الانفكاك منها لعدم القدرة على ايجاد البديل) تتجدد وتتطور وتنتج بأستمرار، اي حتى داخل منظومة الطبقات المحكومة تتولد فيها ظاهرة الحاكم والمحكوم، لكن بالطبع تكون بدرجات متفاوتة اقل نفوذ واضعف قوة واصغر مساحة، هي نتاج كما قلنا الثقافة الانسانية العامة...

يجري الحديث احيانا عن وجود منظمات وجماعات سرية تمثل طبقة اثرياء العالم الغربي (وامريكا)، هي المتحكمة بالماكنة التكنولوجية والاعلامية والاقتصادية اوالمالية، بأنها هي من يقف وراء عالم الشر، تدير كافة الصفقات التجارية والتحولات او الانقلابات والتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية الكبيرة، تحت نظرية الاستحكام او التحكم الحديدي بمقدرات وحياة المجتمعات البشرية ومستقبل الاجيال القادمة، وفق قناعة رأسمالية وضيعة تعتبر ان اصحاب الثروات هم عباقرة العالم، سواء كان ذلك يتم بعقولهم الذاتية او عبر تسخير المال لشراء العقول المفكرة والعلمية والاكاديمية، وهناك بالفعل مساحة كبيرة متاحة لهم بالتبرع والدعم المالي لمراكزالبحوث والاستطلاع والدراسات وكذلك بعض والجامعات والمؤسسات العلمية تحت نظام الاعفاء من دفع الضرائب السنوية، تثبت لهم خيوط التحكم عن بعد بما يحدث او يخطط له لتنفيذه تبعا لمراحل مختلفة وفقا لبرامج مسبقة، هذه القدرات الهائلة التي تمتلكها القوى الرأسمالية تسمح لهم بالسيطرة والتحكم بطريقة الكترونية قانونية سهلة وسريعة جدا على جميع شعوب العالم وليست بلدانهم فحسب (البنوك والمصارف والمؤسسات المالية والتجارية الدولية)، من هنا يرى الناس كثرة خروج الاساطيل والقواعد العسكرية للقوى العظمى من اراضيها او موانئها، والتجول في بحار ومحيطات واجواء الدول الاخرى، والضغط بأستمرار على اقامة قواعد دائمة لها في نقاط محددة، تسمح لهم بحرية الحركة والمراقبة والابتزاز او الاعتداء...

هكذا سياسات قذرة تنظر الى الامم والشعوب والحضارات والثقافات والحدود والثروات والاجواء والبحار والمحيطات والسيادات الدولية مجرد ارقام وهوامش تقع في مرمى نيران القوى الرأسمالية الامبراطورية، ادت بالنتيجة الى مانطلق عليه بالتراجع الحضاري الانساني، اذ كيف يسمح في اوربا وامريكا اشاعة ثقافة الكراهية الهمجية، (وصعود المد اليميني المتطرف)، وان يصبح الشارع مليء بالجهلة المتخلفين، وتبعد عنه لغة وثقافة التسامح والتعايش السلمي المشترك، وسياسة قبول الاخر، الخ.

بالطبع ستكون هناك عقبات كثيرة وكبيرة امام اية محاولات جماهيرية عالمية تخرج لرفض هذا التراجع اللامعقول والغير منطقي للحضارة مع تقدم العلوم والتكنولوجيا الحديثة، في هذه القرية الكونية او عالم التواصل الالكتروني الحضاري، الذي وحد البشرية في النظرة الاخلاقية الانسانية للعالم، ولكن على اقل تقدير انها تعرف العدو الحقيقي الذي يتربص بها، ويحاربها في كل تفاصيل حياتها اليومية، وهي جزء مهم من مشروع او مقترح الحلول المتاحة امامه، والتي لابد ان تتبناه النخب الانسانية المفكرة والمثقفة والمبدعة، وكذلك جميع الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة، وكأنهم في ساحة حرب كونية اخلاقية انسانية، تعيد الحقوق الى تلك الطبقات المظلومة التي سخرتها القوى الرأسمالية البشعة لمصالحها ومنافعها ورفاهيتها، الموغلة في الاسراف والبذخ والتبذير، ليس على غرار النظرية الاشتراكية التقليدية، انما على اساس العدالة الاجتماعية بين جميع طبقات المجتمع، وان تبقى الدولة ومؤسساتها واجهزتها الحكومية الديمقراطية هي الاب او الراعي العام او الدستور الاعلى للدولة والمجتمع والقطاع العام...

لا يمكن التخلص من ثقافة الحاكم والمحكوم الا بالديمقراطية الدستورية التنموية النخبوية المؤسساتية، وباشراك الشعب في القرارات والمشاريع المصيرية التي تخص سياسة واقتصاد وامن الدولة والمجتمع (الحروب، نظام الضريبة، التجارة الحرة، القطاع الخاص، التعليم، عولمة الاقتصاد، الخ.)، وبتطبيق اسلوب او نظرية اقتصادية جديدة تضع حدا لثروات الاثرياء، بحيث انها لاتصبح بمقدار موازنة او خزينة دولة او ولاية او محافظة كاملة، الخ.

كن حاكما ومحكوما في نفس الوقت، عندها ستشعر حتما ان جميع مؤسسات واجهزة الدولة هي بالفعل في خدمة المجتمع وليس في خدمة المسؤول او صاحب رأس المال...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم