صحيفة المثقف

خيانة الأمانة في المهن وأماكن العمل

محمد العباسيهم كثيرون ممن حولنا، سواء الدول المتحضرة أو تلك المحسوبة من باقة العالم الثالث، ممن نجدهم لا يبالون في أداء أعمالهم الموكلة لهم بصدق وأمانة.. فهم يتعاملون مع وظائفهم بكثير من اللامبالاة أحياناً، أو بإضاعة الوقت وتعطيل مصالح الناس، بقصد أو بدون قصد.. وأمثال هؤلاء لا يستحقون رواتبهم ولا مراكزهم ولا مسمياتهم الوظيفية لأنهم (في نظري) مجرد لصوص ويستحقون الفصل من مراكزهم، بل وحتى مقاضاتهم والمطالبة باسترجاع كل معاشاتهم التي تقاضوهم مقابل أعمال منقوصة ولا حق لهم فيها.. ومن بين هؤلاء نجد المدرسين والأطباء وحتى النيابيين والسياسيين الذين قد نصوت لهم ليمثلونا في المجالس النيابية ومجالس الأمة والشعب.. وقد نجد هذه الظاهرة حتى بين المعنيين بالأمن وحراس السجون والمحاميين والقضاة ممن تلوثت أياديهم وضمائرهم.. إنها خيانة عظيمة وقد يتضرر بسببها الأبرياء بشتى الأشكال، وتكون الخسائر فادحة ومضارها وخيمة ولا يُحمد عقباها! وأمثال هؤلاء ينتشرون في كافة دول العالم من حولنا.. فقط لأنهم لا يرون في أفعالهم نقيصة ويعرفون معنى "شرف المهنة" وأن العمل "عبادة"!! 

فالطبيب كمثال يجب أن يتحمل وزر أخطائه بسبب الإهمال، ولكن نادراً ما نجد في دول العالم من يحاسبه.. وكلنا نعلم أن بعض أطباء المستشفيات لدينا يمارسون هذه المهنة لما تتمتع به من مزايا مادية رفيعة، وليس بالضرورة لما المفروض أن تتمتع به من شرف علاج المبتلين بالأمراض.. فمن المعلوم أن المريض إذا تلقى العلاج الناجع من أول زيارة سينقطع عن تكرار الزيارة، وهكذا ينقطع عن الطبيب مصدر دخل ثابت ومتكرر.. فالطبيب يعتمد على مرض الآخرين وتكرار زيارتهم وتكرار الدفع وتحمل المصاريف.. فالارتباط يصبح شَرطياً بين "عدم الشفاء العاجل" وكون المريض مصدراً للربح لا ينضب.. والأدهى أن يلجأ بعض الأطباء لتحويل مرضاهم من المستشفيات العامة إلى عياداتهم الخاصة، ويوهمونهم بتلقي رعاية خاصة ومزيد من الاهتمام.. وفي أحيان أخرى يرسلون نفس هؤلاء المرضى تارة أخرى إلى ذات المستشفيات العامة التي يعملون فيها لإجراء بعض العمليات الجراحية على حساب الدولة، بينما يتقاضون من المرضى تكاليف العمليات المكفولة من الدولة أساساً، ضمن تكاليف عياداتهم الخاصة.. بل وربما ينصحون بعض مرضاهم بإجراء عمليات جراحية ليست ضرورية فقط لأن من ورائها مكاسب مادية أعلى. 

وهنالك العشرات من الدراسات حول العالم تؤكد أن بعض الأطباء يتعمدون إرسال مرضاهم إلى مختبرات خاصة خارج المستشفيات لعمل التحاليل و"الأشعات" السينية والمقطعية والملونة وبالرنين المغناطيسي لدي المختبرات الخاصة، المكلفة جداً، بعذر أنهم لا يثقون بالمختبرات الحكومية.. ويرسلون مرضاهم لاقتناء أدوية معينة من صيدليات محددة فقط لأنهم يتقاضون من تلك المختبرات والصيدليات وبعض شركات الأدوية نسبة مادية مقابل تلك الخدمات والعلاجات التي ربما لا تكون ضرورية وناجعة أصلاً.. مع أن المريض نفسه قد يقبل من طبيبه هكذا أفعال حيث لا يشعره طبيبه بالرعاية والاهتمام في زياراته للمراكز الصحية والمستشفيات الحكومية.. هنالك برامج تلفزيونية كثيرة تتعرض لهذه الممارسات وتنسب لشركات الأدوية العملاقة بدفع رشاوى مادية وعينية للمستشفيات والعيادات والأطباء والصيدليات لوصف أدويتهم المكلفة عوضاً عن الأدوية الأقل تكلفة من أجل حماية مصالحها ومكاسبها فقط!

و كذلك قد نجد الإهمال من جانب المدرسين في المدارس والمحاضرين في الجامعات.. ممن يتعاملون مع هذه المهنة العظيمة على أنها مجرد وظيفة يتلقون من ورائها رواتب ومعاشات ثابتة في آخر الشهر.. فلا يبدون أي اهتمام بالطالب وبحاجاته ولا يراعون العملية التعليمة حق مراعاتها.. وشكاوى الطلبة كثيرة من أمثال هؤلاء المحسوبين علينا "معلمين" وهم في الأساس جهلاء بأهمية دورهم في بناء المجتمع.. فنجد من بين المدرسين من لا يهتمون بمدى إفادتهم لطلبتهم، بل ينظرون لكل فصل دراسي كمكان عمل عقيم، يقضون في الفصل ساعة من الزمان ولا يستفيد من علمهم أحد.. وغيرهم ممن يمتدحهم الغافلون من طلبتهم، ليس لجهودهم المشهودة وتفانيهم، بل لمجرد أنهم يمررون الدرجات لطلبتهم فقط لكسب رضاهم والسكوت عن نواقصهم.. ومن بين هؤلاء المحسوبين علينا كمعلمين من يغششون طلبتهم لينالوا درجات النجاح في مواد ربما لم يكتسبوا منها شيئاً غير إضاعة الوقت والجهد.. ومن المدرسين من يبيعون أسئلة الامتحانات، ويبيعون البحوث الجاهزة عبر مكتبات الترجمة والبحوث المنتشرة دون رقابة.. والبحوث الجاهزة تُباع في هذه المكتبات دون وازع من ضمير.

ومن المصائب المرتبطة بسوء التعليم أن يفرض المدرس على طلبته تلقي دروس خصوصية بذريعة أن التعليم الحكومي غير كافٍ، في حين يتعمد هذا المدرس الإهمال في عمله حتى يفتح لنفسه مصادر للرزق خارج أسوار المدرسة.. ويضطر أولياء الأمور المغلوبين على أمرهم الخضوع مُجبرين على مسايرة الوضع خوفاً على أبنائهم من الرسوب.. إنها بكل وضوح عملية ابتزاز مكتملة الأركان.. وهذه جريمة يرتكبها الجانبين، وتستمر الظاهرة في التفاقم طالما لا يزال العاملين في مهنة التعليم يشعرون بدونية وظائفهم وضعف مواردهم، بينما في دول أخرى من العالم المتحضر نجد أن للمدرسين مكانة اجتماعية رفيعة.. وفي دولة مثل "كندا" يتحصل المدرس مزايا ورواتب تفوق أغلب المهن الأخرى.. فالمعلم هو المسئول عن تنشئة أجيال المستقبل.

ولكم أن تتخيلوا المخاطر الأمنية الناتجة عن تقصير رجال الأمن مثلاً في القيام بواجباتهم.. ونجد كماً من البرامج الوثائقية والأفلام الأمريكية كثيراً ما تتعرض لمشكلة تقاضي رجال الأمن والقضاة للرشاوى مقابل التغاضي عن جرائم العصابات والمافيات.. وهكذا تنتشر في المجتمعات كافة أنواع المخدرات وعصابات نشر الدعارة والإتجار بالبشر والجريمة المنظمة تحت سمع ومرأى رجال الأمن.. ولكم أن تتخيلوا خيانة الأمانة لدى حراس السجون ممن يمررون الهواتف النقالة الممنوعة داخل السجون، ويبيعون المخدرات للمساجين، ويقومون بتسريب المراسلات الخاصة والأموال وحتى الأسلحة إلى داخل السجون، ويتعمدون الإهمال لأدوارهم الرقابية مقابل رشاوى وخدمات يتلقونها أهالي الموقوفين والجهات الخارجة على القانون.. والأمثلة كثيرة في الواقع، ونتائجها وخيمة ولأضرارها انعكاسات تشمل الأمن العام للمجتمع والدولة وسيادة العدالة في تطبيق القانون.

وقد نجد مسئولاً في جهة خدمية يتقاضى الرشاوى لتمرير خدمات لجهات معينة دون سواها، وإن كانت تفتقر للجودة المفروضة.. وقد يوافق على استيراد مواد غير مناسبة لبعض الخدمات، وتظل تلك الجهات تعاني لسنوات بسبب طمع أفراد وتقصيرهم المتعمد في مهامهم.. كما قد تفعل بعض الشركات باستبدال قطع الغيار الأصلية بأخرى تجارية رخيصة لأجل المكسب من فارق التسعيرة.. ونجد برامج كثيرة تتكلم عن مؤسسات معروفة تقوم بتزوير تواريخ انتهاء الصلاحية على منتجاتها أو كمثال تنتج علب أصلية وتضع بداخلها عطوراً أو أدوية مزيفة.. وقد نجد مديراً يوزع المزايا والترقيات على موظفين غير أسوياء وتحرم المستحقين من حقوقهم لأجل مصالح ما أو للتغطية على نواقصهم وسوء إدارتهم هم.

والمشاكل الأمنية قد تشمل رجال الجمارك ممن يتغاضون عن عمليات التهريب براً وجواً وبحراً.. وتشمل الجنود حول العالم ممن يتعاملون مع العصابات والإرهابيين والمخربين، والأمثلة كثيرة لجنود حول العالم يبيعون أسلحتهم الخاصة للمجرمين.. وكذلك الوضع مع حراس البنوك والمرافئ والمطارات والمخازن العامة والخاصة ممن يسربون البضائع المخزونة ويسرقون منها بلا هوادة.. وحتى رجال البريد المتقاعسين، قد تؤدي أفعالهم إلى أضرار لأصحاب المصالح عند تأخر مراسلاتهم وطرودهم.. والعاملين في نقل "العفش" والحقائب في المطارات ممن يسرقون من حقائب المسافرين.. وخيانة الأمانة والسرقة تشمل أيضاً ذاك الموظف الذي يختلس من مكان عمله رزم الأوراق والكراسات والأدوات المكتبية ليستعملها أولاده بدلاً من شرائها من السوق..  بل وحتى الذين يكنسون الشوارع والطرقات قد يتسببون بمضار جمة عند تقاعسهم عن أداء مهامهم الموكلة لهم.. ولكم أن تتخيلوا مدي الضرر إذا أهمل العاملين في المطاعم فيما يخص النظافة والجودة.. وإذا أهملت الخادمة في المنزل وإذا أهملت المربية في رعايتها لمن في عهدتها من الأطفال!

خيانة الأمانة تنطبق على كل موظف لا يقوم بعمله على أكمل وجه في أية جهة كان يعمل فيها.. ولا يوجد استثناء أو عذر.. فكل تقصير وإهمال سيؤدي بالضرورة لضرر لجهة ما.. وأي أجر يحصل هذا المقصر عليه مقابل عمله غير مُستحق ويدخل في خانة السرقة والجرم وخيانة الأمانة.. فالأجور هي في الأساس تقدير مادي للإنجاز والأمانة في العمل وتقديم خدمات محددة على أكمل وجه، لذا لا يمكن استحقاقها عند عدم الإنجاز التام للمهام الموكلة بكل أمانة.. فالأمانة في تعريفها العام؛ أداء الحقوق والمحافظة عليها وهي خلق نبيل من أخلاق المجتمعات الراقية.. والأمانة ليس لها حدود ولا ترتبط بعمل دون عمل أو مهنة دون أخرى ولا بوقت دون وقت، وليس بشخص دون آخر.. ولا يُستثني منها أحد، سواء كان حاكماً أو قاضياً أو سياسياً أو أكاديمياً أو موظفاً صغيراً أو عاملاً بسيطاً أو خادماً في منزل، أو حتى طالباً لم يزل في المدرسة.  لكل شخص مسئولية تجاه نفسه ومجتمعه لأنها فطرة إنسانية يتحلى بها أصحاب النفوس الطيبة.. ويفتقدها أصحاب النفوس المريضة.. وقد قال الله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" (سورة النساء.)

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم