صحيفة المثقف

الفجوات النصية.. لعبة الغياب والحضور

رحيم زاير الغانمفي شعر عبد الحسين بريسم.. مجموعة قرط النعاس اختيارا

لا يمكننا عدّ إنتاج نص شعري غاية ما لم يفضِ إلى إنتاج معنى، فالمعنى غاية ميتا النص، وهل للنص قيمة من انتاج نص شعري ذي معنى، ولا نجد قارئا نموذجيا يسبر غور النص مفككا شفراته ومستنطقا لبناه العميقة، عبر آليات التحليل الفني ودلالته التأويلية المتقنة باعتبارها أداة تستخدم في هكذا إجراء، مع الحرص على تقديم رؤية واعية تمكننا من استنطاق بنياته النصية المفتوحة، مع الأخذ بالحسبان ان الشاعر قارئ مثالي في الأصل، عارف بخلجات القارئ ابتداء، فلا غرابة ان احتاط مسبقا لترصين نصه، بترك مساحة للقارئ لملئ فجوات النص الشعري، في فسح المجال للعبة الغياب والحضور، يمكننا تلخيصه بغياب الناص يحضر القارئ لملئ فجوة غياب ما تمّ تركه عن قصد، لا عن سهو أو خلل اعترى نسيج النص، وعندما يغيب القارئ يتحقق الحضور التام للناص، بقصدية الناص القارئ، الذي يعي أهمية غياب القارئ، ليتحقق كسر أفق توقع هنا وآخر هناك، لعبة تناغم، لخلق توازن تغييب وحضور القارئ والناص، يعيد لنا معنى مرتحل، عبر تأويل ما سكت النص عن التصريح به، متخذا من إيحاءاته وأبعاده ومدلولاته سبيلا إلى ذلك، وبذا لا يعد النص المغلق محل اهتمام فلا يتم تناوله نقديا لأن مُنشئ النص ملئ فراغاته، ولم يترك مساحة بيضاء حتى للمؤول، إذا في هذه القراءة النقدية سنضع مجسنا النقدي على النص، بالضبط عند أدق السلطات حساسية إلا وهي سلطة القارئ و الباث، كل هذا سيتم تناوله في مجموعة (قرط النعاس)* للشاعر عبد الحسين بريسم.

(أفتح قميصي فتطير حمامات/ فراشات /شموس/ أما الأقمار فتنزوي خجلا مني

 أفتح قميصي/ فتدخل حروب/ ومقابر/ وأغنيات سود )

ان تأويل الفجوة النصية لا يتحقق لنا إلا عبر قراءة نموذجية يمكننا عبرها، من فك شفرات النص وإحكام الطوق عما سكت النص عنه، عندها يتجلى لنا معناه، الذي

يتيح لنا رسم صورة جديدة لخارطة النص، محققين فهما أوليا للنص في استحضار لمعنى أول، على اعتبار إلا تأويل نهائي للنص، ان ما حققه فتح القميص من إيذانٍ إلى بداية الشروع بالأمل/ فتطير حمامات وفراشات وشموس، بما تحمل هذه الكلمات من تعدد لفظي لكنها اجتمعت كونها دال على الحرية، يرافق هذا الفتح فتح آخر للقميص، لكنه نكوص، حيث دخول الحروب وما تنتجه من خراب وأغنيات سود، وقد سكت النص عن التصريح بمدلوله، أي عن سبب انزواء الأقمار خجلا، لأنها لم تدم من زخم الحرية والأمل اللذين انبعثا من فتح القميص، لم تقف حائلا من فتحه الثاني الذي أودى بتقويض سلطته/ أي القمر، مصدر الضياء الساكن، يقابله/ الأغلبية الصامتة في الواقع، ليترك المجال لتمدد سلطة الحرب.

(أمرر كرة النسيان لخصمي/ وأقف أتفرج/... من يفوز/ سيخسر بعد حين

أما أنا فقد اكتفيت من الخسارات)

قد نصل إلى فهم النص الشعري من خلال كشف أسراره، ويتحقق لنا من فكّ شفراته في الطبيعة/ العالم،والذي قد يؤدي إلى تأويل فراغات النص الشعري والتي قد تتماشى ونسق النص العام، ولا تخرج عن تراتبيته السياقية، وليس بغريب ان أفضت نسقية النص عن متوالية خسران متامثلة، كون خسران الخصم/ الآخر، نتيجة لخسارات المتكلم/ الذات، وكلما استمر بالتمرير استمرت الخسارات، في خلق جو ضاغط على سياق النص العام، عبر خلق منظومة تفاعلية، من متبنياتها إنهاك الطاقة الايجابية لديه وتفريغها نهائيا، وهو انعكاس لصورة الواقع المعاش الذي اثر على الجو العام للنص، والذي يتماهى مع العينة النصية المختارة أو ما سيتم تناوله لاحقا من نصوص، وبهذا يمكن لنا التصريح بما سكت عنه النص، إلا وهو الرفض لتكرار الخسارات، ومجِّها لا التعايش معها وهو عكس ما قد يراه البعض من تصريح، وهذا الفهم لا يتحقق إلا من وجود قارئ خبير يعي طبيعة الواقع الذي عاشه الناص، والقيود الايدولوجية والاجتماعية التي فرضت سطوتها هي الأخرى، غير متناسين نوعية الخطاب الذي أنتجته ضرورات المرحلة، وقد نؤول الخصم/ الآخر، هنا صراع ذات الشاعر، وهو صراع قائم بحسب الضغوطات النفسية الهائلة، لذا صار لزاما التنبه لتاريخ استجابة القارئ للنص ونوعية القارئ أيضا.

(هؤلاء/ الواقفون على الموت/ يَرقصون/ ويُرقصون المنايا/ والأمنيات

صبية آمنوا/ بالوطن/ وكفروا بالرصاص )

ان النص الشعري دائما ما يجاري الواقع من الناحية التفاعلية خصوصا لكنه يترقى إلى ما وراء الواقع، لما للشاعر من رؤى عن العالم، ولكي يدرك الما وراء، يحب التنبه لجمهور المتلقين/ واخص منهم عينة القراء، هل توافق فهمهم للنص لتاريخ إنشائه، وما السياق العام الذي بُثَّ فيه النص، كرسالة لمتلقيه ؟ نعرف بذلك ما الجدوى من استدعاء الرقص من قبل الواقفين على الموت أو ترقيص المنايا والأمنيات، من قبل صبية مؤمنة، إذا ترقيص الموت هو الاستخفاف بقوة العدو وردم ما تهاوى من معنويات، علها تنتج الثبات في سوح القتال، لذا من الأهمية بمكان ان يدور النص ضمن فلك النصوص الحماسية التي تعيش وقتا ما، وبعدها تركن إلى الأرشيف، لكن المفارقة حدثت، لما أوحت به جملة، ( وكفروا بالرصاص)، إلا تنكرا للموت المجاني، الذي يعاد مرارا، ايمائة أخرجت النص من نسق الخرس، لما سُكت عنه إلى فضاء النطق، فمع ما حققوا من ثبات وأيمان بالوطن، عبر قضيتهم العادلة، لضرورة ديمومة الحياة، ليفضي النص عن ان الصبية ليسوا بطلاب حرب بقدر كونهم رسل سلام، لم يسعفهم القدر بتحقيق الأمنيات، بقدر معانقة السواتر وما كفرهم بالرصاص إلا حجة تصريح بأحقية فوزهم ببلد امن.

(هؤلاءِ/ جنود صغار/ لم تشبع الأمهات بعد/ من قبلاتهم

جنود صغار/ أخذتهم الحربُ/ أم أزلية / لا تؤمن بالقبلات)

قد يتطابق معنى النص مع المعنى الذي فهمه القارئ، كون القارئ كما أسلفنا هو المستهدف من وراء إنشاء الناص، والنص والقارئ، هما اللذان يحققان ديمومة الدينامية التفاعلية التي أُنشِئ من اجلها، أي ان النص يحيا في فضاء مفتوح لا تحده حدود، يفضي إلى إنتاج معنى، ولا يعني هذا توقفه عن استحضار معنى جديد، وإلا نكون قد قوضنا النص وأفرغناه من دلالاته العميقة ،ورؤاه المتوالية، لذا من المفيد الكشف عن مكنونات النص الشعري، كي لا ينسحب سلبا على تقويض ما تعدد من فجواته النصية، فلا نص شعري من دون فراغات، فهي من تمنح القارئ فسحة للتأويل، يمكنه من خلالها طرح رؤاه وأفكاره وتصوراته عن النص والعالم، ولما هذا من تكريس للعبة الغياب والحضور التي يتبادل الأدوار فيها القارئ والكاتب، ويمكن لنا زعم تحققه في النص الآنف فما تشي به جملة (هؤلاء/ جنود صغار)، لا تتوقف عند الاعتراض على الحرب، بل أنها تنسحب إلى الاعتراض على العسكرة التي أوصلتنا إلى تبني فئات عمرية صغيرة، مادامت الحرب أم أزلية، أم تؤمن بالموت والفناء، ولا تؤمن بالقبلات أم ليس لها قلب ينفطر، لما تأخذه الحرب، مما ينتج معنى الاعتراض على مشروع محو النشء، فالنص سكت عن ذكر فئة الرجال بشقيها الشيب والشباب، واتجه إلى الصغار، في إدانة لهذه الشهية التي لا تتوقف عند عمر محدد أو جنس ما وهنا تتجلى أهمية تناول الفجوات النصية.

 

 الناقد رحيم زاير الغانم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم