صحيفة المثقف

فانتازيا النص والسردية الحكائية..

سعد الساعديقراءة في رواية باغاتِل للكاتبة العراقية سلاهب الغرابي

من خلال ادراج تنسيقي واضح انطلقت الكاتبة  سلاهب طالب الغرابي بروايتها باغاتل الصادرة مؤخراً عن دار المتن لتكتب مالا يمكن حصوله قطعاً، وأبداً لن يتحقق، باستعمال خيالها التي اشتغلت به على منطلقة من الواقع، المكان بشخوصه، والزمان بتوقيتاته .

العالم الخيالي تمحور بالحديث مع الموتى التي أسمتهم الهامسون، ومصاحبتهم لترسم الصور المختارة لكل حالة وشخصية تريدها البطلة باغاتل، والتي هي في الحقيقة الشخصيات المعدة من قبل الكاتبة سلفاً التي عرفتنا بمعنى الاسم باغاتل بعد سبع وأربعين صفحة من السرد المتسلسل لسيرة حياة البطلة وذكرياتها وهي ترويها لنا بعد موتها، وهو معنى الرواية .

باغاتل لم تعرف اسمها إلاّ بعد ان زارتها جدتها لأمها، المرأة المحببة لها، والتي عاشت معها كثيراً؛ سناء الجدة، التي تأتيهم بزيارات متتابعة وتمكث لشهور، تعلقت بها الطفلة الصغيرة باغاتل لكنها لم تسألها لماذا اسموها بهذا الاسم الذي هي من اختارته لها إلاّ حين زارتها ذات ليلة حضورياً بعد موتها، وليس حلماً أو من خلال خيال مصطنع، هناك عرّفتها الجدة بمعنى الاسم بعد ان روت حلم لها رأته، وهو قصة اسطورية يونانية عن تل (الكافيتيوس) في اثينا وسيدة بملابس الفرسان مع سيفها حيث حوصرت الجدة من ذئاب قرب كنيسة هناك، ما كان المنقذ غير تلك الفارسة التي عرّفتها بانها باغاتل المقاتلة من أجل السلام، وأن باغاتل تعني : هدية الرب، لذا اخبرتها بانها سترزق حفيدة قريباً تحمل نفس رسالتها .

نجد هنا الفكرة الفانتازية التوظيفية جاءت منسجمة لتفسير الاسم الذي هو معنى اسم الرواية أصلاً، لكن السرد السابق طيلة صفحات طويلة لم يبين لنا المستوى الفكري والثقافي للجدة سناء، وأين درست التاريخ، وكيف عرفت تل (الكافيتيوس) في حين والدة باغاتل هي ربة بيت لم نعرف عنها اي مؤهل دراسي تحمل، وهذا ما ورد في الصفحة الخامسة والأربعين: (لذلك كانت منشغلة بإدارة أعمال البيت كإعداد الطعام، والتنظيف من دون أن تطلب أي مساعدة  مني أو من أختي..) . ولم نعرف مستواها العلمي، ما يعني تاكيداً أن تكون الجدة أكثر علما من الابنة الشابة المتعلمة فعلا لانها كانت تساعد بنتيها في دراستهما أحيانا أو هو محض تفسير وضعته الكاتبة ونسيت التعريف بتلك الجدة وثقافتها ما لم نعرفه ربما ..!

هذا التفسير خرج عن السياق العقلاني للمتوقع والمتصور للسرد الحكائي ما يجعل القارئ يتساءل عن السبب، فمن لا يعرف معنى اسمه الغريب لماذا لم يتساءل عنه من أحد، مع ما أوقع باغاتل بإحراجات كثيرة لانها لغاية الرابعة او الخامسة عشر من عمرها لم تعرفه، وهو في ذاته خلل جزئي هنا غير مقصود قطعاً ..!

يضاف الى ذلك ما ذكرته الكاتبة في الصفحة الثامنة عشر والتاسعة عشر والعشرين والصفحة اللاحقة والصفحة الثالثة والثلاثين وما لحقها عن الحرب الاهلية اللبنانية بالمتن والهوامش جاء من نقل نصوص حرفياً من محرك البحث گوگل موسوعة (الوكيبيديا) تحت عنوان الحرب الأهلية اللبنانية، والحرب اللبنانية عام ٢٠٠٦ كان ينبغي الاشارة اليه، لان الهوامش جُعلت للشرح والتوضيح وذكر المصادر ويا حبذا لو فعلت حينما اشارت الى شريعتي وهي تقطف احدى مقولاته وكما فعلت في ديوانها الشعري هاجس النجاة والأنا؛ اضافة الى سرد آخر مستلة معلوماته من الانترنت وهذا ما نشاهده  حالياً لدى الكثير من الروائيين وهم بين حالتين من اما التناص، أو النسخ، اضافة الى سيرهم نحو شيء آخر، وهو رسم صورة الحبيبين العاشقين وهما ينشئان الاسرة السعيدة المثالية والخالية من الاخطاء بسيرة ملائكية كأنهما للابد في جنة . .

فالقارئ العابر لأول وهلة، ومن لم تمرّ عليه معلومات موثقة مطلع عليها مسبقا يظنها من فعل الكاتب وانتاجه وجهده رغم جهود الكاتبة  الحقيقية الواضحة في البحث من أجل جمع المعلومات المطلوبة، وهذا يبدو بوضح على سلاهب الغرابي وكم تعبت في جمع واقتناص المعلومة لتوظيفها في روايتها تشكر عليها كمعلومات تاريخية علمية حقيقية عامة ومفيدة في ذات الوقت، كل ذلك الذي تذكّرته باغاتل روته لنا وهي بعمر السادسة، من تفاصيل، وأرقام، وإحصائيات وتواريخ..!

تعود الكاتبة من جديد للولوج بنمط آخر من توسيع رقعة الخيال، وتدخل  مع البطلة لتسيح في ميتافيزيقيا خاصة وأيضاً في ما تعارف عليه من علم الباراسايكولوجي حين تقوم باغاتل بالتخاطر مع زميلاتها واقاربها وهي في سن الخامسة عشر: (وكنت اتمكن من معرفة ما بداخلهم تجاهي، أو معرفة ما يحتاجوه مني، وكنت أسعى لتلبية حاجات بعض زميلاتي) ص ٤٩

أغدقت الكاتبة على بطلة روايتها الروح المثالية المستقيمة لكنها كانت تأبى لبس الحجاب ولم ترتدهِ إلا في السنة الثانية من الكلية مع أنها تصلي ومن عائلة محافظة مبررة ذلك بأن العبادة سموّ روحاني لا يقتصر على المظهر وحسب .. في حين كانت باغاتل تعد اقاربها بانها ستلبس الحجاب وتقول مع نفسها) أظن بداخلي أني أكذب عليهم لان هذا اليوم لن يأتي)..ص٤٦

رسمت الكاتبة حروفها على الورق لتؤكد فنتازيا نصها السردي حين ذكرت الجن، ومخلوقات  مثل الطائر برأس انسان، والكلب برأس الافعى وهم يتجولون في بيت الجدة سناء ويسخرون من باغاتل أو يشدّونها من شعرها .

لم تغادر الرواية مصطلحات كثيرة في علم النفس مثل الشيزوفرينيا والاكتئاب والهوس وغيرها نتيجة الصراع النفسي لبطلة الرواية وما انتابها من قلق وتوتر وانفعال وأرق سلب منها النوم طيلة سنوات وهي ترى الموتى عياناً وجهاً لوجه لتخفف من معاناتها بالدعاء والصلاة وتلاوة القران والأذكار لتقع أخيراً في حب آدم استاذ القانون وجارهم من غير دينها في رؤيا من أحلامها قبل التعرف عليه عند وصوله من العراق مدرساً في جامعة بيروت . من هذا يتبين لنا بوضوح مدى استفادة  الدكتورة سلاهب الغرابي من تخصصها العلمي في علم النفس، لتضع أفكارها وبعض المعالجات للمرضى النفسانيين منهية بذلك السرد الحكائي بموت آدم في ليلة عرسهما الذي أسلم سراً قبل معرفة باغاتل، وهو من احبته بصدق وعنفوان،  بعد ان تحل العتمة  ويثقل سمعها ويعم المكان السكون بتصوير الموت كبؤرة للحدث، والبناء وانه النهاية الحتمية، لكنه كان اجمل شيء لآدم وباغاتل يتمنيانه وينتظرانه .

مع باغاتل البطلة المثالية الطيبة والمؤمنة بالله والتي تصوم لشهور أحياناً وتصلي مع الفرائض مستحبات كثيرة من صلاة للشكر وطلب الحاجة وكثرة اذكار وادعية وتلاوة قران، كان هناك بطل ثانٍ، هو ناصور رمز الشر، وهو من يهيئ للموت وأسبابه، وكأنه القوة المسيطرة على الدنيا متناسيه خالق الكون وجبروته كونها مؤمنة، والتي تخشاه (ناصور) دائماً باغاتل وتتشاءم منه حين يأتيها من العالم الآخر، ومع كثرة الهامسين معها كل ساعة لكن ناصور هو الأقوى، كما لو أنه رتب أمر الانفجار بين الحرمين في كربلاء اثناء رؤيتها له بدقائق قبل موتها شهيدة ممسكة بيد آدم الميت قبلها، وهذه اشارة من الكاتبة الى قوة الشر المسيطرة منذ آلاف السنين على العالم  وأن الخير، والحق والعدل ما زال ينتظر وقت ظهور سطوته الأبدية لنشر السلام .

جاءت لغة الروية سهلة واضحة بعيداً عن التزويق والتضخيم، وأحيانا بلغة الخواطر الشعرية وفقت كثيراً بها الكاتبة مع وجود اخطاء املائية ونحوية هنا وهناك تحسب عليها لكنها لغة إقناعية رصينة البناء واضحة المعالم قوّت وعززت السرد وحبكة القصة بلا فلسفة يختارها البعض في مثل هكذا روايات . كما لا يخفى التذكير بأن ما كتبته سلاهب الغرابي ينبئ عن مستقبل واعد لروائية قديرة جديرة بالاهتمام نظراً لخلفيتها الثقافية الواسعة، وعلميتها في تخصص مهم يسمح لها بالانطلاق بعيداً في الابداع .

 

سعد الساعدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم