صحيفة المثقف

فلسفة مبسطة: من فلسفة كارل بوبر السياسية

نبيل عودةكارل بوبر (1902 – 1994) فيلسوف نمساوي استقر به المقام في انكلترا وحصل على مرتبة شرف (سير). يعتبر من اهم فلاسفة القرن العشرين ومن أبرز نقاد الفكر الماركسي، كان جل اهتمامه يتركز بفلسفة العلوم والفلسفة السياسية والاجتماعية. من كتبه الهامة كتاب "المجتمع المنفتح واعدائه" كتبه اثناء الحرب العالمية الثانية وصدر عام (1945). يشير في كتابه الى الفيلسوف الاغريقي افلاطون بصفته الأب للنزعة العسكرية الحديثة، وهي النزعة التي ميزت الأنظمة النازية في المانيا والفاشية في ايطاليا والعسكرية في اليابان، والنظام السوفييتي في فترة ستالين.

قال عنه الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل ان كتابه عن "المجتمع المنفتح واعدائه" له اهمية كبيرة جدا ويستحق ان يقرأه الكثيرين، بسبب نقده لأعداء الديموقراطية في الماضي والحاضر. وأضاف أن نقد بوبر لأفلاطون هو نقد صادق تماما، وانه نجح بتشريح ماركس الى اجزاء واعطاه الوزن الذي يستحقه.

حسب مفاهيم كارل بوبر تحتاج النظريات العلمية والاقتصادية والفلسفية الى نقد ونقض وبدون ذلك لا تثبت صحتها، وهذه الحكاية الساخرة تصيب بدقة المفهوم النقدي الذي طرحه كارل بوبر امتدادا من افلاطون الى ماركس. كانت لبوبر رؤية تقول" ان الفاشية تشكل تهديدا للعلم والحضارة الانسانية كلها". هناك أهمية خاصة لنقد بوبر للفلسفات السياسة والتاريخية التي ظهرت في القرن التاسع عشر (خاصة الماركسية بطرحها فلسفة المادية التاريخية) والتي سادت في الفكر السياسي والأيديولوجي بشكل واسع، خاصة بتيارات اليسار الماركسي، واستمرت بقوة حتى نهاية القرن العشرين، وما زالت الأحزاب الشيوعية متمسكة بها رغم ان التجربة التاريخية والسياسية اثبتت بطلانها. وهي فلسفات سياسية معادية للفلسفة السياسية الليبرالية.

من ناحية أخرى كانت رؤية بوبر أن فلسفة العلوم لها اهميتها في الدفاع عن المجتمع المفتوح عبر التصدي للفاشية السياسية ومحاولاتها العودة للمجتمع المغلق، وهي ظاهرة تتزايد اليوم في المجتمعات الأوروبية لأسباب مختلفة. كانت رؤية بوبر ان الدافع للعودة للمجتمعات المنغلقة (الفاشية) يرتبط من ناحية بصدام الحضارة ومن ناحية أخرى بفشل المشروع الليبرالي للإصلاح. وحض في فلسفته على تقديم معيار للتمييز بين العلم من ناحية وبين العلم الزائف من ناحية أخرى، كسبيل وحيد لتحقيق التحالف على مقاومة الفاشية التي تهدد لا العلم فقط، بل تهدد مجمل الحضارة الإنسانية بما ذلك المجتمع المفتوح.

قصة ساخرة تلامس نقد بوبر للفكر المنغلق.

هل تسقط شرائح الخبز على جهة واحدة فقط؟

التقى الصديقان سامر وجميل على وجبة افطار في منزل أحدهما، واخذا يعدان ساندويشات الجبنة. كان سامر يدهن شرائح الخبر بالزبدة، وجميل يجهزها مع شرائح الجبنة للفران.

 سقطت احدى الشرائح من يد سامر وللأسف كانت الزبدة من جهة الأرض. بعد ان دهن شريحتي خبر أخريين سقطت من يده شريحة أخرى، وكالشريحة الأولى ايضا، كانت الزبدة من جهة الأرض.

قال سامر: هل لاحظت يا جميل ان شرائح الخبز إذا سقطت تكون الزبدة دائما من جهة الأرض؟

اجابه جميل: لا اظن ذلك.. نظريتك خاطئة.. هذا ما يخيل اليك ان الشريحة حين تسقط تكون الزبدة من جهة الأرض، السبب يا صديقي سامر انك لا تريد ان تنظف الزبدة التي لوثت الأرض. هل تعرف انا مستعد على رهانك ان نسبة سقوط الشرائح على الأرض بحيث تكون الزبدة من جهة الأرض لا تختلف عن نسبة سقوط الشرائح والزبدة من الجهة العكسية للأرض.

قال سامر: اعتقادك خاطئ، نظريتي صحيحة.. انا على ثقة ان شريحة الخبز تسقط دائما بحيث تكون الزبدة من جهة الأرض.  

تناول جميل شريحة خبز كان سامر قد دهنها بالزبدة وأسقطها على الأرض ..

 قال جميل: انظر يا سامر .. هذا اثبات لصحة نظريتي.. الزبدة من الجهة العليا.. وليس من جهة الأرض. هذا يعني ان نسبة السقوط على احدى الجهات لا تختلف عن الجهة الأخرى.

فكر سامر هنيهة  شبه مصدوم مما يرى، ثم قال: اعتقد انك مخطئ يا جميل، انا اعرف ما جرى.. السبب اني دهنت الزبدة على شريحة الخبز على الجهة الخطأ!!

******

اذن كل التبريرات والدلائل لن تنجح بإثبات صحة نقد بوبر للماركسية!!

هذا يقودنا الى عالم السياسة، انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وتقلص تأثير الأحزاب الشيوعية، بل واختفاء الكثير منها، لم يقنع بعد الحركة الشيوعية بان هناك تجاوزات وأخطاء يجب علاجها، وعنتريات حان الوقت للتخلي عنها والعودة والانفتاح على النقد والنقض للفكر الماركسي كطريق لتطوير النظرية الماركسية في عصرنا.

لنأخذ واقعنا كنموذج.

 يدعون منذ اصبحوا "لا في العير ولا في النفير" ان هزائم حزبهم وتقلص نفوذهم وسقوط قوائمهم، ليس بسبب سياساتهم الفاشلة، وعنجهيتهم الغبية، وتآمرهم على أقرب الناس اليهم، بل يدعون بدون خجل ان منافسيهم باعوا انفسهم للشيطان، في مثل حالتنا الشيطان قد يكون خيانة المبادئ السياسية، بوهم ان لا مبادئ في السياسة الا ما يثرثرون به، رغم ان معظم افكارهم لم تعد صالحة للتسويق. طبعا هناك تهم اخرى مثل التحالف مع اعداء الشعب، دعم السلطة، العضوية في أحزاب صهيونية، ولا ينسون اللعب على الوتر الطائفي، مثيرين بذلك نعرات سلبية بدل المساهمة العقلانية بالإقلاع عن هذه الأفكار التي حتى لو كان لها اثرا ما، يجب نفيها حتى لا ننميها ونكون كلنا خاسرين. طبعا هناك تهم اخجل من أن اسجلها ولا تصدر الا عن عقليات حاقدة.

هكذا الزبدة حسب مفاهيمهم تسقط دائما من جهة الأرض...ولن يغير هذا المفهوم أي اثبات عملي مناقض لما اغلقوا عليه عقولهم!!

 

نبيل عودة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم