صحيفة المثقف

مدارات الحرب المحتملة والملاذات الآمنة في أزمة الخليج الراهنة

بكر السباتينما يحدث في مركز الحدث أن الصراع الدائر في الخليج العربي اليومَ بين إيران وأمريكا بات يتخذ طابع حرب الإرادات وعض الأصابع (من يصمد أكثر) ويمكن قراءة ذلك من خلال أهم التصريحات "التغريدات" المتبادلة بين طرفي الصراع رغم تداعيات التفجيرات الغامضة في الفجيرة وبحر عُمان، وما رافق ذلك من تقديرات تشير إلى إيران أو على نقيض ذلك حيث يرجح البعض بعدم خروج العملية عن نطاق المحرضين على ضرب إيران بما أسمتهم الأخيرة بالرمز "ب" (بن سلمان، بن زايد، بيلتون، بنيامين نتنياهو)، وصولاً إلى حادث إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة بلاك هوك كما سنأتي إلى تفاصيل ذلك لاحقاً.. وفي أتون هذا الصراع المتصاعد، يحاول كل طرف تحييد نفسه عن تهمة إشعال فتيل الحرب وكأنه يبحث عن أعذار لخصمه كي تظل الحرب باردة فلا يشتد سعيرها.. فكل طرف في معادلة الصراع يختطف المواقف من أشداق الحرب المحتملة ليحافظ على منطقة آمنة له بعيداً عن الجرف السحيق الذي يفتح أشداقه ليأخذ الطرفين إلى مهالكه حيث الخسائر طائلة ويصعب وقفها..

وهذا في محصلة الأمر يرتبط بمواقف الطرفين، فلا إيران في سياق ذلك تسعى لدفع التداعيات إلى الانفجار ولا أمريكا من جانبها تريد ذلك،بل تدفع بالخصم نحو طاولة المفاوضات دون أن يتجاوب الطرف الإيراني لذلك.

من هنا يمكن فهم ذلك التضارب بين مواقف دوناند ترامب وفي وقت قياسي إزاء رده على إسقاط الطائرة الأمريكية بلاك هوك حين قال بعد الحادث مباشرة :

بأن الإيرانيين اقترفوا خطئًا فادحاً بإسقاطهم هذه الطائرة التي تعتبر درة التكنلوجيا العسكرية الأمريكية. واعداً بأن الضربة قادمة لا محالة، مؤكداً على أنها قيد الدراسة والإعداد.. منبهاً إلى أنها ستكون محدودة جداً.

ثم يتراجع ترامب عن موقفه بعض الشيء.. ويسمعنا صوت المكابح ليقول:

بأن الطائرة لم تكن مأهولة بالأمريكيين.

لكنه فاجأ المراقبين حينما أخذ يثمن موقف إيران بعدم إسقاط طائرة أخرى كانت متواجدة على مرمى صواريخها، وكان يوجد على متنها 38 أمريكياً واعتبرها بادرة خير من قبل إيران. مؤكداً من جهته بأن الأسطول الأمريكي الخامس لم يقم بالرد تحاشياً لمقتل 150 إيرانياً كانوا أيضاً مكشوفين لمرمى نيرانهم (خلافاً لتاريخ أمريكا الدموي في العراق عام 1991). وعزا ترامب ذلك وفق تصريحات نقلها عنه نائبه مايك بنس: إلى أن هناك من يرفض الصدام مع أمريكا في صفوف القيادة الإيرانية العليا وقد يكون إسقاط الطائرة جاء بتصرف فردي. ثم يؤكد مرة أخرى بأنه لا يريد الحرب، بل يسعى إلى منح إيران الفرصة لتكون من الدول المزدهرة اقتصادياً، مقابل جلوس الرئيس الإيراني معه على طاولة المفاوضات لبحث الملف النووي الإيراني من جديد دون أن يتطرق إلى ترسانة إيران الصاروخية والبحث في دورها الإقليمي وخاصة في سوريا واليمن.

من جانبها تدرك إيران بأن ما يفعله ترامب ذلك المقامر الأشقر ليس إلا تزويقاً لطريق الغواية لإدخال إيران في قفص المفاوضات الذي يصفه أصحاب العمائم السود بالمذل المرفوض تماماً.. ومن هنا يأتي باعث الصمود الإيراني والثبات على مواجهة الموقف الأمريكي المراوغ، من باب الثقة بالنفس والجاهزية على الرد، وبالتالي النعامل باقتدار مع كافة الاحتمالات.

ولعل من أخطر ما تتوقعه إيران في سياق كل ذلك هو قرار الحرب، وهو احتمال قائم رغم مناورات ترامب التكتيكية، ما دامت الأسباب متنامية وخاصة أن ترامب هو من بادر إلى محاولة إيقاظها وفق المفهوم العسكري من خلال إرسال طائرة التجسس المسيرة بدون طيار بلاك هوك، التي اخترقت الأجواء الإيرانية إنطلاقاً من قاعدة الظفرة في الإمارات كما صرحت الخارجية الإيرانية، وتم التعامل العسكري مع الموقف بحزم وثبات حيث أسقطت الطائرة التي قيل بأنها "معتدية" بواسطة صاروخ إيراني متطور فاختلطت الأوراق في مؤسسات القرار الأمريكي الثلاثة (البيت الأبيض، البنتاغون، الكونغروس) لهول المفاجأة غير المتوقعة.. لأن إسقاط هذه الطائرة يعني بأن قدرات إيران ما زالت مبهمة.

بداية أنكر الجانب الأمريكي الرواية الإيرانية لحساسية الموقف وخاصة أن الطائرة تعتبر من أهم الأسرار العسكرية نظراً لتفوقها، إلا أن الجانب الإيراني قام بعرض حطام الطائرة على الإعلام العالمي، ملجماً بذلك الشهية الأمريكية التي كانت ترمي إلى خلق بروبوغاندا مضللة حول الحادث كي تموت الحقيقة؛ لكن الإيرانيين أضافوا منوهين إلى أن الطائرة انطلقت من قاعدة إماراتية. وكان الإيرانيون في أتون هذه التداعيات يدركون بأن خسارة الأمريكيين في هذه العملية ليست مادية بل معنوية.. وأن ترامب لن يكترث بكلفة هذه الطائرة المسيرة ذات التقنيات الحساسة الباهظة لأن الفواتير ستسدد من حساب السعودية والإمارات.. وطائرة بلاك هوك المتطورة التي صنعتها شركة نورثون غرومان الأمريكية تبلغ قيمتها 270 مليون دولار، وتعد ضمن ثلاث أغلى طائرات توجد الآن في الخدمة.. فهي تحتوي على أجهزة متطورة ومجسات حساسة وبرامج متفوقة ومعدات تصوير يمكن لعدساتها أن ترى في كل الظروف ليلاً ونهاراً حتى لو تلبدت السماء بطبقات من الغيوم الداكنة.. وقد صنع جسمها الخارجي من مواد يصعب رصدها، ويمكن لهذه الطائرة الطيران على ارتفاعات قياسية قد تصل إلى 20 كلم.

 

 

صحيح أن بعض المحللين عبر الفضائيات ذهبوا إلى أن ترامب يخشى من القدرات الإيرانية غير المكتشفة، وإن أي حرب محتملة ستكون عواقبها وخيمة على الاقتصاد الأمريكي وسيكون اندلاعها مخالفاُ لما وعد به منتخبيه.. وسيكتفي ترامب كما يبدو بالمناورة.. فهو يعتبر كل ما يحدث في الخليج العربي من تخريب وتعطيل أحداثاً يمكن استثمارها إيجابياً لتعود بالمكاسب العظيمة على أسواق النفط الأمريكية فيكون من شأنها حينذاك تجاوز معدلات نمو قياسية على حساب الحصة السعودية العالمية.. لأن الأحداث الأخيرة جعلت سوق النفط الخليجي غير آمن، الأمر الذي رفع من قيمة التأمين على ناقلات النفط، وهو بدوره انعكس على التكلفة الإجمالية لسعر برميل النفط لصالح مصادر النفط الأمريكية. بغض النظر عن بعد المسافة ما دامت طرق الحصول على النفط تكون آمنة.. ناهيك عن أن بقاء الأزمة في مضيق هرمز قائمة سيدفع دول الخليج إلى شراء السلاح الأمريكي عبر صفقات بالمليارات من الدولارات وهذا عائد اقتصادي يغطي معظم طموحات ترامب التي وعد بها الأمريكيين.

وكي يمتص ترامب الضغوطات التي تمارس عليه من قبل الصقور في إدارته بالإضافة لحلفائه في المنطقة (السعودية والإمارات وإسرائيل) صرح ترامب يوم أمس بأن الرد على العربدة الإيرانية في الخليج العربي اتخذ طابعاً آخر غير عسكري لكن نتائجه ستكون وخيمة على إيران.. ويقول بأنه منذ تفجيرات السفن في الفجيرة، طلب من البنتاغون الإيعاز للوحدة الإلكترونية الأمريكية بضرب وتهكير برامج التحكم الإيرانية الإلكترونية، المتصلة بنظام الرادارات ومنصات إطلاق الصواريخ.

وإذا كان الأمر جاء على هذا النحو الذي ادعاه ترامب.. فكيف إذن تتمكن الدفاعات الجوية الإيرانية من إسقاط طائرة بلاك هوك ورصدها منذ إنطلاقها حتى إسقاطها؛ ما يثبت بأن إيران لديها جاهزية متقدمة جداً بينما تعجز المخابرات الأمريكية عن رصدها.

وفي سياق متصل فإن السعودية والإمارات ومن لف لفيفهما من الدول العربية ما زالوا غير مدركين لخبايا ما يدور حولهم.. ولا يريدون تصديق بأنهم دول وظيفية ومجرد وقود لحرب ضروس قد تغافل الجميع فلا تبقي ولا تذر.. كما أنهم يتنكرون لحقيقة أن الإرادة الإيرانية وقدرتها على المواجهة أخرست البلطجة الإمريكية التي يقودها المقامر الأشقر ترامب، لأنه في نظر العمائم السود لا يبحث عن خسائر مادية وبشرية قد يتكبدها في حروب مدمرة وخاسرة؛ بل يريد الظفر ببقرة حلوب تدر عليه أرباحاً طائلة، معتمداً في ذلك على استنزاف ثروات الخليج العربي وخاصة الإمارات والسعودية والبحرين..وهو ما عجز عنه إزاء إيران.

 

بقلم بكر السباتين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم