صحيفة المثقف

الحلية الذهبية

صالح البياتيراح وهو جالس لوحده، ينظر من وراء نظارته الطبية، في ارجاء غرفة الاستقبال، الفارغة تقريبا، لم يتبق من اثاثها الفاخر، سوى جهاز التلفا، المركون في احدى الزوايا، رفع نظره الكليل الى صور العائلة، صورة زوجته، شريط اسود، على زاوية اطارها الأيسر. ابنه بالروب الجامعي الأسود، والقبعة المربعة، وابنته المتخرجة في كلية الطب بنفس الزي، وصورها مع اطفالها في اعمار مختلفه، اطار خشبي اسود، مستطيل وكبير، يتوسط الجدار المقابل للباب، قرأ بصمت حزين، من وراء الزجاج المضاء بشعاع شمس الظهيرة، الحروف البارزة والأنيقة، بالخط الكوفي المزخرف " لئن شكرتم لأزيدنكم".

ابتسم بمرارة بطل، خسر معركة، ولكن لم يهزم نهائيا، قال لنفسه، اسوأ المعارك تلك التي لا تقدر على رد عدوانها عليك، وليس لديك إلا  الصبر الجميل.

هناك ايضا كرسيان بلاستيكيان، بقيا من كراسي الحديقة، التي اشتراها بائع متجول، يقود عربة يجرها حصان هزيل، مكدود من الدوران على البيوت، يشتري كل شئ يباع بثمن رخيص.

كل ما تبقى، الكرسي الذي يجلس عليه، والآخر الذي في المطبخ، مع منضدة الحديقة التي تستخدم كمائدة طعام.

كانا عندما تزورهما ابنتهما، مع زوجها واطفالهم، يحلو لهم الجلوس في الحديقة الخلفية، في ليالي الصيف الحارة، يستمتعون وهم يتحدثون، بهوئها اللطيف.

كانت ايام جميلة.

غرفة الجلوس الخاوية، كانت تضم طقم كنبات فاخر، منجد بقماش فستقي اخضر زاه، مطرز بخيوط ذهبية اللون، وقطعة اثاث جميلة من خشب البلوط، تحمل جهاز التلفاز، وقد اعتادا آنذاك مشاهدة فيلم السهرة معا، حتى داهمها الحصار كالمنية العاجلة، فقلب حياتهما رأسا على عقب، فكانا بالكاد يجدان شيئا مسليا في برامج التلفاز، دون ان ينغص متعتهما البريئة، ظهور اعلان مفاجئ، او خبر مزعج عن الحصار، الذي كما وصفه، بسوء هضم متبادل، في العلاقات الدبلوماسية بين اميركا والعراق، او بالأحرى بين رئيس البلدين. كانت اعراضه المرضية، ان يحتمل الشعب الجوع، كعقاب مفروض عليه بالقوة، ايصدق احد، او هل من المعقول، ان يتخاصم اثنان، بينما تكال اللكمات القوية على المتفرج!

اعتاد الجلوس مع زوجته، قبل ان يذهبا للنوم، يتجاذبان الحديث، يستعيدان ما علق في ذكرتهما، عن متاعب نهار سئ، مر مرور اللئام، يخوضان في حديث ممل، عن ارتفاع الأسعار، شحة المواد الغذائية، وإختفائها من الأسواق، اوعن الحصة التموينية، التي لا تصمد لمدة اسبوعين، والتي هي سر بقاء الرئيس في منصبه، قابضا بيد حديدية على مقاليد الأمور.

لم يجد الرجل من يتحدث معه، بعد رحيل زوجته، قبل عام مضى، وهجرة ابنهما منذ عامين، قبل ان يشتد الحصار، يوما بعد يوم، لا يدري الى اين هاجر، فهو لم يتصل به هاتفيا، او يبعث حتى رسالة ليطمئن عليه..

لم يبق شئ. باع اثاث غرفة النوم، السرير العريض، وديلاب الملابس الكبير، الذي كان يغطي جدارا كاملا، والذي تعكس مراياه، ضوء مصباحي منضدتي السرير الجانبيتين، استعاض عن كل ذلك بسرير نوم عادي، حتى الكتب التي احبها، ونظمها على رفوف مكتبته، لم يبق منها سوى رواية العجوز والبحر، بطبعتها الأصليه الأولى، ابقاها تأسيا وإقتداء بسانتياغو، الذي تحدى البحر وقروشه الشرسة، تحد  عجوزعنيد غير متكافئ .

ابقى جهاز التلفاز مهجورا، ومغطى بقطعة قماش سوداء، لسبب آخر، غير الحزن على زوجته، لم يفصح عنه، يسميه بؤرة الشؤم، يشيح نظره كلما وقع عليه، تذكرها فدمعت عيناه، وخنقته العبرات.

لم يكن معاشهما التقاعدي هي وزوجها، يصمد لمنتصف الشهر، فإضطر هو ان يكف عن التدخين، ولم تعد هي تشتري الملابس، التي تظهرها بالمظهر اللائق، لتوفر ثمنها لأشياء ضرورية آخرى، ولم يتوقف هو عن التدخين لأنه مضر بالصحة، رغم تحذير ابنته المتواصل، وإنما  تركه لكي يوفر ثمن السجائر، لشراء صحيفته، التي اعتاد ان يقرأها كل يوم، فكانت الوسيلة الوحيدة للتسلية اليومية، للإطلاع على الأخبار التي لا مفر منها، وان ادت الى الأمعان في تعكير المزاج، بعد ان اصاب الخرس جهاز التلفاز، وصار ابكما، فلو انه فكر في بيعه، فلن يجد من يشتريه،  وان وجده، فمن هذا الغبي الذي يغامر بدفع ثمن جهازمشؤوم، لا يذيع او يعرض سوى اخبار الحصار، وما يتعلق به من فرق التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل، التي تجرأت اخيرا على دخول غرفة نوم الرئيس، من المجنون الذي يريد ان يسمع عن ارتفاع وفيات الأطفال، وغيرها، إلا إذا كان انسانا شاذا او ساديا، من المجنون، الذي يعيش المأساة، ويحب ان يتعذب بسماعها، اللهم إلا اولئك القساة الذين لم يخمش الحصار لهم وجه، حتى وان حدث سهوا. صرف نظره عن بيع التلفاز، رغم استغناءه عنه.

أحب الراديو، وخاصة الذي يعمل بالبطارية، يستطيع ان يدسه معه في الفراش، فربما يأتيه ببعض الأخبار المتفائلة عن قرب نهاية الحصار، او كما يردد هذه الأيام عن بصيص ضوء في آخر النفق، وإذا بخل عليه الراديو بأخبار سارة، فقد يسمعه شيئا من الموسيقى، تجلب النعاس لعينيه، صرف نظره عن بيعه، رغم استغنائه عنه.

اصبح الأب يعيش الوحدة والعزلة القاتلة، التي فرضتها عليه الظروف القاسية، فلم يجد من يتحدث اليه، فإبنته التي تسكن بعيدا، لم تعد تزوره، إلا في المناسبات، تكتفي بين حين وآخر بالإتصال به هاتفيا، للسؤال عن صحته، هلو بابا كيف صحتك، هل تحتاج لشئ، وكان جوابه دوما، انا بخير، اهتمي بنفسك وباولادك.

فكر في بيع الحلية الذهبية، هدية الخطوبة لإمراته، يعرضها على صائغ يقدر قيمتها، تخيل زوجته تقف امامه، تعاتبه، فهي التذكار الوحيد الباقي، صورتها المنقوشة بالميناء السوداء، هذه الحلية الذهبية الرائعة، التي اعجبت بها سائحة المانية، عندما رأتها تتدلى على  صدرها، حينما كانا يزوران المتحف العراقي، وأحبت السائحة  ان تلمسها باصابعها، تذكر انه شرح لها عن مادة الميناء السوداء، كان يوما رائعا لن ينساه ابدا، تذكر انهما بعد ان ودعا السائحة الألمانية، تعشيا في مطعم راق، وقبل ان يعيدها الى بيتها، شاهدا فيلما اجنبيا، في سينما الخيام، كانت ليلة لا تنسى،  قال يخاطب نفسه، كيف سولت لك التفكير في بيعها، الم نتفق ان نهديها لإبنتنا، لتحتفظ بها كذكرى، سمع زوجته الراحلة تعاتبه، ها انا رحلت، ولم تف بوعدك، فماذا تنتظر!

صوب نظرة لجهاز التلفاز، وخاطبه بإزدراء لن ابيعك ابدا، حتى لو اعطوني وزنك ذهبا، لن تتزحزح من مكانك سنتمترا واحدا، لأني اخشى على الناس، ان تكون سببا لإيذائهم، او لربما هلاك احدهم، فعندما يظهر الرئيس على شاشتك، ويبصق اب ساخط على صورته، يستدرج الأطفال، يستجوبونهم هذه الأيام، ويحصلون منهم على اعتراف يدين آبائهم بجريمة أهانة الرئيس..

قرر ان يبيع الحلية الذهبية، خبأها في جيبه، وذهب صباحا لشارع النهر، عرضها على اكثر من محل للمجوهرات، بخسوا كلهم قيمتها، وقبل ان يعود لبيته، دخل لآخر محل، استقبله شاب مرحبا به، أهلا استاذي، كيف حالك؟

عرض الشاب عليه المساعدة، برهن الحلية لديه، واعطاه مدة زمنية كافية لفك الرهن، وبدون فائدة، المبلغ يعادل ثمن المثاقيل التي فيها، رغم ان النقود التي استلمها لا تعادل عشر قيمتها الفنية التي ادهشت السائحة الأجنبية، عاد لبيته مسرورا، ولكن يشوب سروره شيئ من حزن سنتياغو، على سمكته التي سحبها للشاطئ هيكلا عظميا.

 

صالح البياتي

............................

- اشتهر الصائغ المندائي حسني، الذي كان يعيش في مدينة العمارة حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، بنقش الصور الشخصية على الذهب، بمادة الميناء السوداء، تعلق الصورة ، التي تأخذ شكل بيضوي او اي شكل آخر، بحلقة صغيرة الى السلسال الذهبي، تلبسها المرأة كالقلادة، وشاعت إنذاك كهدية تقدم مع خاتم الخطوبة,

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم