صحيفة المثقف

الغرائبية البنيوية الشعرية الجديدة في القصيدة التجديدية

سعد الساعديقراءة في ديوان فستان بلا ازرار للشاعر العراقي عدنان جمعة

الصور اللغوية الجديدة تتجلى بوضوح يوماً بعد آخر في القصيدة التجديدية أو ما تسمى قصيدة السرد التعبيري  لما بعد الحداثة التجديدية والتي أميل الى تسميتها بالقصيدة التجديدية بدلاً عن السردية التي يفهم منها معنى السرد وهي قطعاً خلاف ذلك ، كما هو واضح  في  ديوان الشاعر عدنان جمعة، فستان بلا ازرار، وغيره ممن يكتبون هذه القصيدة  اضافة الى ما يريده الشاعر من اثارة الوعي لما هو موجود واقعاً،  كحالة  يومية معاشة عشقاً أو حلماً او بخيال سارح بين الجمال والامتاع ، رغم رفض التصوير الواقعي المباشر الذي تبنته الحداثة  وما تلاها، تتابعاً الى يومنا هذا، مما ابتُكِر كتجريد فني لغوي، يرتكز أيضاً على منظومة قيمية متعددة الجوانب الفنية والبيانية .

الإشكالية النقدية الشعرية لما بعد الحداثة التجديدية في النثر المركز والسرد التعبيري أو (قصائد النثر) اللذين ما زالا بلا تجنيس بيّنٍ  وربما الشكلين يلتحفان جلباباً واحداً، لا نجدها في (فستان بلا أزرار)  حتى لو تم تشطيره بنصوصه السردية الحداثوية التجديدية الجميلة، كون لغته  الشعرية واضحة السبك، بصور ابداعية، متزينة بلغة  سارت  بمختلف الاتجاهات، لكن الخط البيّن صراحة ومضموناً هو العشق والحب الذي اتسمت به كتابات الشاعر هنا وفي دواوينه الأخرى  .

في قصيدة ليل بعباءة الشوق دلالات واضحة عن حياة عاشق: (نطفئ الشمع بعري الليل ، أيها المخفي والمستور لماذا الوقت غير كافٍ، أسرع بالعناق وأجسادنا مصلوبة ..) فهو عاشق حد الثمالة بكلماته على الورق والحياة ، هذه اللغة كأنها لغات متعددة تنحدر من نفس الأصل، ولأن لغتنا العربية ـ كعرب ـ تختلف كثيراً عن غيرها من اللغات بما تتضمنه من اشتقاقات واسعة، ومترادفات كثيرة وعميقة، حتى أننا نجد لكلمة واحدة أحياناً أكثر من ثلاثين معنى، وكل معنى يختلف عن غيرة ككلمة (عين) مثلاً؛ ما يجعل حتى ترجمة النص الشعري الى لغة أجنبية في غاية الصعوبة مع ما ترجم منها ، لان كلمة واحدة ربما تحتاج لمجموعة كلمات مترابطة كي تعطي نفس المعنى أو ما يقاربه.

ماذا يدلّ ذلك؟ في غرائبية النص الشعري اختلاف واضح عما تسعى اليه الروايات في مرحلة الحداثة التجديدية، فهي إن عبرت عن واقع مسخ كما يعرّفها البعض فالشعر يعبر بطريقة اخرى عن محاولة من الشاعر الجمع بين واقع وخيال بعبارات مختزلة، واعتقد أنه من الوهم القول بان الرواية سحبت البساط كلياً من تحت الشعر واصبحت هي ديوان العرب كما يرى الكاتب المغربي (الكبير الداديسي)، فالقصيدة التجديدية اليوم احتلت مكانتها المميزة لتكون الغرائبية في بنائها تعطي المعنى اللغوي العربي الصريح في انها الذهب او الفضة كما تقول معاجم اللغة، وهي فعلا كذلك.

إنها دلالة واضحة على تجدد اللغة من خلال الناطق بها، ومن يكتب فيها، وهذا ايضاً وجدناه في ديوان الشاعر عدنان جمعة فستان بلا ازرار الصادر مؤخراً عن دار المتن في بغداد، والذي تُعَد كتاباته تجديدية مائزة بكل احترافية، فهو متجاوز للزمن في وصفه للمرأة وجمالها والحاجة اليها، لأنه أراد عبور مكان حلولية الزمان ، وشكّل عناصرَ متآلفة بعيداً عن التعقيد، ولم يجعل المكان دائرة ضيقة تحيطه، فجاءت مساحاته في الكتابة متسعة، تستطيل بكل الاتجاهات، لتضع هناك ما مطلوب بيانه، واحتلال مكانه وفق خطة وفكرة النص الذي وضعه الشاعر نازلاً من بين هواجسه، وخلجاته التي طفت لاحقاً على نصوصه.

إن القصيدة  التجديدية تناضل من أجل الانتصار بما تطرحه من جديد متجدد يسمو بالأدب، ويرتقي بالشعر، حين يعرف الشاعر استخدام أدواته بطريقة متقنة، ويشتغل عليها بوضوح وشفافية تامتين فانه يؤدي ويوصل رسالته تامة، وهذا ما سار عليه، وفعله شاعرنا في فستان بلا أزرار بما يوحيه هذا العنوان من خصوصية بتمازج صورتين لرجل وامرأة احتلت واجهة الكتاب بسيميائية منفردة التعبير عما سيراه ويقرأه المتلقي ويفك بعض الرموز الكائنة بين حوايا متون الصفحات.

وحين ينتقل القارئ من عنوان الديوان لقراءة الاهداء تواجهه صورة جديدة وهو يقرأ خمس كلمات فقط : (الى من تترقب حروفي بصمت)، اذن هي المعشوقة المنتظِرة لعاشق عبّر عن نفسه بـ : (يا حلوتي، أنا والليل غريبان، يتقافز الدهر فرحاً برحلتي بلا متاع، والجرح بهيبة النزف بلا صراخ،عند أبواب الاعتراف) كما في قصيدة بشارتي مواكب عزاء .

لقد وظّفَ الشاعر حالة جَمعَ بها مبنيين : الرمزية والواقعية؛ أي ظلت الواقعية ملازمة للعمل كما في احدى القصائد التي حمل اسمها اسم الديوان (فستان بلا ازرار)، مهما أرادت الابتعاد عنها الكتابات الحداثوية والتجديدية  لكن الوقع يبقى مؤثرا وهنا جاء العشق والتغزل بالمعشوقة . لقد نجح فيها حين رسم ذلك وفي كثير من قصائد الديوان   . كما نجد رمزية طاغية أحياناً هنا وهناك، وانزياح واضح منذ الوقوف عند عنونة النص  بشكل تام في الوصف، وسيميائياته العميقة، حتى الصور السريالية تجسدت فيها .

وهذا ما تمتاز به كتابات القصيدة التجديدية، أو النثرية بشكل أعمّ، والتي تضمنها ديوان فستان بلا أزرار. النصوص الكثيرة التي جاءت في الديوان تستحق نظرة تأملية واسعة، أسوة بغيرها من الكتابات التجديدية الجميلة التي دأب عليها الكثير من الشعراء اليوم مجاراة مع الغرب، أو تفرداً جديداً يحسب للشعراء العرب كلون يبتعدون به عن كل القيود ..

الغرائبية في النص الشعري قد تكون جديدة عليه وفق المعنى الاصطلاحي الأعمّ اذا انطلقت تفسر الواقع بمرارة حزنه ومآسيه وما يقع على رأس الانسان المسكين في كل بقاع الارض، لكن مضامين النصوص التجديدية في قصائدها ومسارات شعرائها اتخذت ثلاثة محاور، أو مسارات واتجاهات انتعشت بها القصيدة، ووُفّقَ بها الشاعر وهي اللغة البنائية للنص، وجمال الوصف ، والمعنى الطافي على سطح القصيدة التي اخذت الغزل عنوانا شاسعاً في كتاباتها واضح بشكل جليّ فيما تضمنه ديوان فستان بلا ازرار الذي يختم الشاعر فيه آخر سطر له قائلا: (حينها اغني مترنحاً، وانا المقصود بالحبيب الاول) بعد أن وصف حاله وحال حبيبته  في أول عبارة من الديوان: (كنّا كالسحب النقية، ندخن الحكايات للفجر، مستنشقين رائحة الحاء والباء، ممزوجتان بسعير النيران الى  انجناءةِ الضحى ..) .

 

سعد الساعدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم