صحيفة المثقف

هذيان البروليتاريا

عبد الكريم قاسمقراءة سيكولوجية في سواقي العسل المر للقاص احمد الجنديل

تقدمة: ان رسم لوحة أو كتابة قصة كاملة للانطباقات الفصامية Schizophrenia غير ممكن حيث يتعارض فيها الفكر مع المشاعر والتحايل مع الاكتشاف الحدسي والسطح مع القعر. علينا فك التشابك للبنى الفصامية التي يضخمها المرض، نجد من الضروري أن ندع المريض يلخص بنفسه التشاكل لنظام القمع ألظلامي ويختار طريقه المناسب العقلي أو الغريزي.

(سواقي العسل المر)1 للقاص العراقي المبدع أحمد الجنديل؛ جسد أدبي غير معافى يتقطع الى 18 قصة قصيرة ويتمدد عند القراءة على ثلاثة مستويات سريرية هي:

الأول، الطاووس 2:

للوهلة الأولى الرمزية الحيانية شديدة الغموض لأنها كثيرة الشيوع، تحتمل التقويم سلبا مع الزواحف والجرذان وإيجابا مع الحمام وما شابه. إن قراءة الأنموذجات الرمزية الحيوانية تبدأ بتأمل عالميتها وشعبيتها. نستطيع أن نلحظ بعضها توصف بالذكاء أو المكر أو التبختر..في سلوكياتها. إن الحيوان يبدو في تفكير بعض الشعوب كتجريد عفوي بدائي أو تمثيل رمزي كما في الوعي المتمدن. يبدو على هذا الأساس بأن الرمز الحيواني يحتل مركزا مرموقا في العقلية الجماعية والمخيال الفردي هذا ما يوصلنا الى التساؤل: ما هو الخط البياني الذي يمثله النموذج الحيواني الطاووس؟.

الحيوان المثالي عند الجنديل هو المتعدد الدلالات. الأسطوري الواجب تلطيفا صورته لتجعل منه الأنموذج الأساسي الذي يختصر قاموس التفاخر والعجرفة. يصوّر بجناحين وذيل فيه الأطياف وقدرة سماوية رمز الاكتمال وجميع الإمكانيات؛ يصبح خيال تجميعي.

يحرك صاحب السلطة مشاعر الذنب عند الإنسان وتستغل وجدانه، تقلق ضميره، توتره كي تؤلبه ضد الخارج عليها. تخفي الكراهية الموجهة ضدها بإزاحتها عن الطريق. من هنا تولد الشعور بالذنب الوهمي؛ ذلك الشعور يتمثل بالخوف من العقاب أو برموز بديلة. يتماها الجبار مثلا بالأب الحنون أو تراث السلف الصالح، فيقدم نفسه للشعب رمزا لهما.

هكذا تظهر السلطة أمام الوعي بمثابة المضطهد أو تراث الأمة المهدد بالدمار والاندثار. بذلك تنتقل الى لا وعي الفرد البطانة، الأديب أو الفنان..الفقيه أو شيخ الطريقة صاحب السماحة. هو جسر بين السياسي والرعية، هي محنة المثقف واشكاليته. من هنا تتسرب مشاعر محبطة الى الذات والتأثير في السلوك والوعي، وإقامة صورة كاريزمية للحاكم.

ٍ  الحاكم في قطاع اللاوعي Unconscious  والاستعارات والمأثورات، يمثل اللذاعة واللوعة، يلقاهما المواطن الحر في التعامل مع الجبروت. هنا تسلط السياسة على ألعلائقي والغوري، البادي والكامن، قيعان الأنا والنحن. الخوف الواعي كما اللاواعي، من السلطة، شديد التجذر في النفوس، يحذر منهما في قوالب المألوفيات ومعاناة الإنسان من الجور والانقهار.

إن الطاووس رمز الكبر والغرور، جنس خاص حتى لكأنه ليس من هذا العالم المرئي. ليس لصيقا بالأرض، خص بالأجنحة رمز الطيران والاتصال بالأفق. اقترن في أذهان الناس من خلال التجارب والحكم والأمثال والأساطير بحيث أصبح من خلال إسقاط عالم الإنسان عليه وسيلة من وسائل التعبير عن العالم الأرضي ونظامه وما بين أفراده من العلاقات. دليلا ورمزا ضمن خطاب عقائدي كبير هو عنصر منه لا يكتمل معناه بدون إدراجه ضمنه.

الثاني، الرأس 3:

نتساءل في البداية: ألا تعتبر لعبا على الكلام عملية إتباع أنموذج السلطان، الرأس السياسي، بدراسة الرأس بمعناه التشريحي والجسدي؟.

على الفور نجيب: أن الكلمات دائما لها مغزى بالنسبة للباحثين في مجال النفس والاجتماع. وإذا كانت الأنساق العمودية تلتقي في الكون الاجتماعي الكبير مع انموذجات السلطان كما تلتقي في الكون الطبيعي الأكبر مع تقييم القمم فإننا سنلحظ أنه في الكون المصغر الذي يشكله جسم الإنسان تنتج العمودية عدة ثوابت رمزية اقلها الرأس، الذي يشبهه روحانيو الارتقاء بقبة السماء.

ففي وصف الشخصية الفصامية التي قدمها القاص علينا أن لا نسهب فيها، بل أن نرى البنى الفصامية للتصور داخل القصة حتى لا يوهمنا القاص بهذيانها. سوف نستكشف من عرض الشخصيات الملامح البنيوية النموذجية للذهنية العقلانية، التي تجد سعادتها في المجرد، في الساكن، في الصلب والجامد، فهي تفكر أكثر مما تحس ولا تتحرك بشكل عفوي بل تتوصل الى تحديد شكل التمرد. يتراءى لنا من هذا أن شخصياتها منطلقة من خلفية اجتماعية مفكرة مضطهدة تستند الى حجج لكي تصل الى العلائية.

البنية الفصامية التي نوه عنها القاص احمد الجنديل في شخصياته ليست مرضية لكنها تظهر من خلال التضخيم والتركيز على المعطيات التي تشكل مواقف ردات الفعل الطبيعية. يصبح هذا البعد فقدانا للتعاطي مع المعيوش ونقصا ذرائعيا ونفيا لوظيفة الواقع.

هنا يحصل الانطواء على أنه انفصال وليس انفصام عن الواقع والدليل الفكر يأخذ منحى ذاتي. يرتبط بالقدرة على تميز الإنسان الذي يفكر على هامش المجتمع والخوف من دخوله الى الوسط لقلب الطاولة. نكتشف تعطش الشخصيات الى نظام واضح انطلاقا من تضحياتها التي تستعير لعبة الأقنعة السيكولوجية الفصامية المقلقة لدلالات الظلمة وسقوط  الزمن المميت الذي تحول الى صورة طائر جميل يسر الناظرين لكنه يحصد بذيله الذي يشبه المروحة الذين يفكرون بعقلهم وحواسهم الوطنية من الهامش فقط ، ويبقي الذي استنبتهم تحت مخرجه من شعراء وكتاب وأهل الفن.. وحاول ضم الآخرين لكنه يموت وتتم قراءة (الفاتحة)ص83 عليه هؤلاء أنفسهم يتناسلون ليعيدوه.

عندما يسخّر القاص الجنديل الخيال في خدمة المصغرات  لا يتوقف في الطريق، ومن الناحية التشريحية، فإنه يفتش، في سياق عملية تصغير بديلة، تشريحية الرأس الجمجمي. تبرهن لنا الرمزية أن القدرة على التصغير تتمثل على السواء بالرأس المرفوع أو الذكر في حالة الانتصاب الذي يخصيه الطاووس وأخرى بيد البطانة.

عليه فإن هنالك انتقالا طبيعيا وتعاكسيا رمزيا بين الرأس وعضو الذكورة. يكون خصاء المفكرين عند الطاووس موازيا لقطع الرؤوس المشتملة على العقول التي تحمل نظرية التغيير. هكذا يتحول الرمز من، عن طريق البديل، أولا الى علامة ثم الى كلمة ليتخلى فيما بعد عن دلالته لمصلحة السيمياء.

أصبح الرأس المقطوع هو المرقاة، رمز للصعود، للسمو الروحي، كأننا نرمز ظاهرة التحول النفسي والاجتماعي الى ما هو أرفع، أرقى، أكثر تقدما باتجاه القيم التي سوف تتحقق عند حيازة السلطة والعرش.

الثالث، البطل وأسلحته 4:

تفرض انساق وأنموذجات العلائية نهجا جدليا محددا. فالخلفية الفكرية التي تواجهها هي هجومية تجعلها تتصدى لنقيضاتها. هكذا نتخيل الصعود ضد الهبوط والنور ضد الظلام. عند الإصرار على العمودية، والبقاء فوق، أنها تترافق بإحساس التأمل السيادي يصغّر الكون ويمجد العملقة ويتغنى بالطموح وبأحلام الصعود. دينامية صور كهذه تنم عن تصورات قطعية شرسة. سرعان ما يتحول النور الى صاعقة أو سيف براق، يتوصل الصعود الى سحق عدو مهزوم. هكذا ترتسم وراء رموز المشاهدة أو التمييز، الخطوط العريضة لصورة المحارب البطل الصامد في  وجه الظلمة والهاوية.

أن التسلح يمكن أن يؤدي برمزيته الجنسانية الى أبهام وان يدمج السيف والقلم بالذكورة. أن التماثل يربط العمودية بالعلائية وبالرجولة التي تظهر هنا من خلال رمزية السلاح الممتشق المجرد، لكن هذه الرجولة تأخذ هنا صيغة هجومية يمدها بها الرمز نفسه.

راموز كل الأبطال، أسلحة روحانية أو قتالية، هي التي يركز عليها التحليل النفسي في قراءته لكوكبة رمزية في(سواقي العسل المر)هي التي تدور حول النشاط الفكري والعضلي(القلم/الأب/صاحب العربة/الأم الخبازة/الطالب المجد،الحلاق..).

عدد الأبطال الذين يكافحون للقضاء على المسوخ وافر أولهم الشباب العاطل ومن الأسماء والمهن يتعرف القارئ عليهم. ولا يوجد تفريق أخلاقي نقيمه بين استعمال الهراوة أو السيف أو الشفرة أو القلم.

لا يمكن للإنسان المهدور أن يتحمل بسهولة ولمدة طويلة واقعه الوجودي(المر في سواقي العسل)الذي يعصف به، وقد يزلزل كيانه، كما لا يمكنه أن يتعايش مع هذه الصورة المبخسة وفاقدة القيمة عن ذاته، التي تكاد تنحدر من حالات الهدر الشديد الى مستوى القيمة المضادة. الاستجابة الحيوية الطبيعية تتراوح ما بين الانفجار الذي لا يبقي ولا يذر، والانتحار الذي يحمل دلالة ذعر خواء الكيان وفشله.

هناك آليات دفاع ضد الهدر متعددة تنوعت تبعا لظروف المهدورين جعلهم القاص إبطالا لقصصه وان توشحوا بالهذيان، منهم طبقة الطاقات الحية الوثابة الطامحة للنماء والتوسع، إنها تمثل الجانب الأصيل من أنفسنا. يشكل بلوغها الدخول في اتصال حقيقي مع الذات في كل وجداناتها المتفجرة من فرح، ورغبة في الثورة والتغيير، حتى يقلبون دلالة الوجود من خواء الى امتلاء الى استحقاق.

تبدو للقارئ الرموز الارتقائية مدموغة كلها بطابع استرداد قوة مفقودة حيوية أضعفها الضغط. يظهر هذا الاسترداد نحو فضاء ميتافيزيقي5 يرمز إليه الحب و الزواج وتعتبر مرحلة طمأنينة سامية. ثم تأتي صورة،  المرتقب أو المشرع المحارب، يرمز إليه الرأس والفكر السلاح.

ماذا عسانا ان نقول:

1ـ بدأت بالطاووس وانتهت بالفاتحة، القصص، تدور في مجتمع يغلب عليه طابع إسلامي. مبتنية بالمرض النفسي والأسطورة. تعبر  تشكيليا ودراميا عما تعبر عنه الماورائيات بطريقة جدلية 6.

2ـ المرض النفسي والفكر الأسطوري حاضران في نسيج الخطاب الديني الإسلامي واضطلعت بوظيفة فكرية مهمة مع تقدم المعرفة. ذلك أن بعض الأمراض النفسية والأساطير أسهمت في بلورة المفاهيم بطابع الدين وتثبيتها بإخراجها في صورة درامية تتحدث بحسب الضرورة. في مراحل دينية كان الطاووس يتمتع بقداسة، فهو كائنا ملك أو خليفة واجب التقديس. القاص بإبداعه، سّوق هذه البنية بشكل الحاكم الذي يقطع الرؤؤس ولا يسأل، بل مفترض الطاعة.

3ـ انتقل الجنديل من مواجهة العقل الى تجاويف اللاوعي؛ حيث البس شخوصه بعناية أزياء المصحات الذهانية Delirium لكي تتسرب من أفواههم الأفكار بدون رقابة تبعية الطاووس.

4ـ المدنس جرى ترقيته تحت تبريكات ما تحت ذيل الطاووس؛ فئة من كتاب الشعر والفن ورجال فقه وفكر واقتصاد.. ملاصقة لمخرجه تتلقى برازه نعمته، تصفق وتنحر الذبائح بعد كل قراءة فاتحة من قبل الشعب، واجبها اختلاق الطاعة وداعمة لدوام الطاووس ورغبة في قطع الرؤؤس.

بصمات:

استطاع القاص تحريك شخوصه بطريقة  ذكية، علينا عدم قبولها باشتراطاته، حيث أننا تحققنا من ان مواقف التخيل هي التي توصل لبنى التصور الفصامي، الارتقائية تبشر بالسلامة السريرية للشخوص التي تسبب الريبة للظالم.

أما الرئيس هو الرأس، المفكر عنها، عظيمها وصدرها، وجهها والقائد لها، يتقابل الرأس والرئيس. الرأس في الجسد من حيث الوظيفة الإيديولوجية، الرئيس في السلطة ملك، هو رمز الامتلاك، لذلك؛ يقطع الرئيس الرأس ويبقي الجسد، مطية له لأنه من ملكياته.

هنا نقل القاص بذكاء وظيفة الرأس الى مدلول جديد اقتصادي. تعطيل دور الرأس لماذا؟ لأن الرأس بالعمل والصراع Conflict ينتزع الاعتراف بالذات ويحظى بالآخر مقرا له بمهاراته، مشاعر الانتماء للجماعة حيا أو في الرمازة يكون الموت أبرز فقدان وخسارة، وتخلص من عدو طاووس مناهض للبروليتاريا.

 

عبدالكريم قاسم

........................

1ـ سواقي العسل المر/قصص احمد الجنديل/مطبعة الرفاه/بغداد 2013 .

2ـ ص 7،26 ،54،..

3ـ ص 34، 38، 46 ، 76 ،..

4ـ ص 31 ،42 ، 63 ، 81، ..

5ـ ص49 ،..

6ـ ص39 ،..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم