صحيفة المثقف

أسرار العشق الجنوبي

رواية (عركَشينة السيد) للقاص والروائي سلمان كيوش

قرأنا العديد من الروايات والقصص من الشفاهيات المنقولة مع الاستماع إلى الأغاني والشعر بشقيه الشعبي والفصيح والتي بمجملها تتحدث عن موضوع العشق الذي يُطلق عليه (عشق الشروكَية) لأنه محصور في منطقة الماء مابين دجلة والفرات والأهوار وتحديدا محافظات الناصرية والعمارة. وعادة مايكون مصير العاشق هائما على وجهه سائحا في الأرض بعيدا عن أرض المعشوق أو مجنونا (مسودن) أو الموت منتحرا وغالبا بالغرق في الماء..

ولطالما أُثير تساؤل أهل المدن التي تصلها رياح هذه القصص محملة بعبق القصب والبردي وأصوات الطيور وطعم القيمر واللبن الرائب.. كيف يمكن أن يكون العشق بهذا الجنون والعمق حتى أنه يؤدي بصاحبه إلى الهلاك هل يعقل أن يكون هناك من يعشق بهذه الطريقة؟ هي ليست روايات وقصص متخيلة أو أشعار واغنيات مفترضة على سبيل التمني. بل حقائق على الأرض التي تغمرها المياه.

ويأتي الجواب من القاص والروائي سلمان كيوش في روايته (عركَشينة السيد) هذه الرواية التي لم يكن هم كاتبها سرد الأحداث في حكاية العاشق السيد هاني الناجي بطل الرواية، بل كان هم سلمان كيوش هو أن يشرح ويفسر حالة العشق والهيام إلى حد الانتحار في آخر الأمر على لسان بطل روايته ومن الروعة والجمال أن هذا البطل المدعو السيد ناجي كان مثقفا صاحب شهادة دراسية وموظفا في مجال التربية والتعليم مما جعله متمكنا وقادرا على التعبير بلغة كانت أقرب إلى الشعر بل أكاد أجزم أنه الشعر بعينه وهو يسرد حكايته مع معشوقته التي رفض ذكر اسمها في الرواية للنهاية وعلى الرغم من أن صاحبه الذي يستمع له يُحضّر الدكتوراه في علم الاجتماع إلا أنه لم يستطع أن يجاري السيد هاني في أسلوبه السردي لحكايته.

(يبدأ الحب في اللحظة التي نقتنع فيها جازمين بفذاذة الحبيب، وأن فيه، هو وحده، مايكمّل عوزا حادّا فينا، في أرواحنا تحديدا، وأنه أجمل، أو في الأقل، بجمال الصورة نفسها التي دأبنا على رسمها منذ أن غادرنا أثداء أمهاتنا مكرهين، وكأن الحب خلاص من وطأة البحث الحثيث عن أثداء أخرى نعوّض فيها جسامة خسارة الفطام الكبيرة الأولى). هذا مقطع مقتطف من الرواية وضعها الناشر على الغلاف الأخير للرواية.

لقد كانت الحكاية بسيطة في الرواية وهي تشبه حكايات العشق التي قرأناها وسمعنا عنها ولكي لاتكون رواية عادية ومكررة اشتغل الكاتب سلمان كيوش على الحوار المعتمد على الوصف أكثر من الأحداث والشخصيات حيث كانت محدودة إلى حد كبير. واختص السيّد هاني بحواراته الطويلة التي بدت في لحظة ما وكأننا أمام مونودراما مشحونة بالكثير من الشجن وهو يصف لنا علاقته بمعشوقته بأدق تفاصيلها الحسية بينما اكتفت بقية الشخصيات بجمل قصيرة جدا تبدو مبتورة أحيانا لكنها ممتلئة بالقصد والمعنى حتى أنه جعلها سببا مباشرا في تحويل مجرى الأحداث حين تشعرك بالصدمة إذ تجيء في لحظات غير متوقعة وهو مايبقيك مشدودا لمتابعة القراءة.

كما أن للمكان حضوره المستقل والمؤثر في مسار الرواية فالجسر الذي كان شاهدا على علاقة العاشقين يكاد يكون أحد شخصيات الرواية حيث منحه السيّد هاني قيمة روحية امتزجت مع مشاعره الجياشة العاشقة بكل عنفوانها فكان حاضرا في كل أجزاء الرواية بعلاقة روحية عميقة حياة وموتا حتى أننا نشعر في أكثر من لحظة أنه كان على الكاتب أن يجعل الجسر عنوانا لروايته لولا خاتمة الرواية التي بيّنت أهمية عركَشينة السيد في كونها رمزا معنويا للبطل وإرثا لصديقه الذي تأثر كثيرا بشخصية هذا العاشق المتفرد.

وأخيرا لابد من الإشارة إلى أن العامل المشترك لكل قصص العشق الشروكَية هو جمال المعشوقة الذي هو السبب الحقيقي والأول لبداية أي قصة من هذا النوع والتغزل بهذا الجمال هو محور كل مايقال في حضرة هذه القصص ويبدو أن جمال الطبيعة هو السبب فجمال المرأة هو مكمل لجمالها لذا يُسلب لب الرجل من النظرة الأولى. 

لقد نجح الروائي في جعل روايته متفردة بمعالجتها فقد أرادها أن تكون رسالة وإن كانت طويلة موجهة إلى الحبيبة ومطالبتها بأن تكتب مايعتمل في صدرها من هذا العشق على غرار مافعل السيد بسرده للحكاية ويبدو أن شخصية سلمان الصديق هي نفسها شخصية الكاتب وقد حمل إسمه نفسه وعنوانه الوظيفي.

 

منتهى عمران - البصرة  - العراق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم