صحيفة المثقف

رأي متواضع في النقاش

عبد الرضا حمد جاسمالنقاش بِناء أو إعادة بناء أو ترميم بناء فهو تطوير في طريق التطور. كل الكائنات الحيه تفكر والانسان الأكثر منها فهو العاقل الذي وظف قدراته العقلية والعضلية على ابتكار الادوات التي مكنته من تأمين احتياجاته وأمنه. صرف الانسان بفعل النطق الكثير من الوقت من عمره القصير الطويل في التواصل للتعبير عن ذاته وتبادل المواقف والافكار والتعاون والاحتكاك مع الغير من المؤيدين له او المعارضين... هذا التواصل الذي أسفر عن مفاهيم ومعايير ورؤى وقيم ساهمت في تطوره وأراد توثيق ذلك فاخترع الكتابة او ابتكرها او طورها وبذلك استطاع ان يدخل التاريخ ويدونه.

تذوق الانسان الجمال فزادت رغبته للأبداع في كل المجالات ومنها رغبته في الفهم والتأثير والبحث والاستنتاج والربط والتحقيق والتدقيق والاستفسار بعكس الكائنات الاخرى حاول ويحاول، نجح وسينجح في دراسة الطبيعة وافتراض قوانينها وتحقق من الكثير من هذه الفرضيات ليسخرها لراحته او لخدمته. عاش بين كائنات اقوى منه ومنها اطول عمرا منه، بعضها متوحش طامع به متلذذ لكنه انتصر على اغلبها وطوعها واستفاد من الاخر ولا يزال.

أمّْنَ ما يمده بالحياة من غذاء وحماية فأهتم بمحيطه القريب النباتي والحيواني فأوجد الاسلحة اللازمة لذلك مما يحيط به ومن ثم انطلق الابداع والتطوير بوتيرة متسارعة لان العدو قاسي سواء كان الطبيعة او الموجدين فيها الطامعين به...لقد أمن حمايته سواء بالقوة او الابتعاد وتأسيس مواطن بسيطة في الاراضي السهلة القريبة من المياه واستخدم النقاش كسلاح تطوير ودفاع

انتبه لما يحيط به من نباتات وحيوانات فأختار منها ما يناسبه وحَسّنَ طرق الاستفادة منها ونَظّمَ زراعة ما يمكنه من العيش في كل الظروف المناخية ودَجّنَ الحيوانات وقَسّمَها الى منتجه وحاميه ومعاونه له في أعماله وتنقلاته...استقر نوعما وزادت اعداده فزادت الحاجة للتفكير والعمل المشترك فكان النقاش وتبادل الآراء والشرح والاقناع والاقتناع.

من هنا بدء النقاش وبدأت الافكار وبداء الانسان يحرك خياله ويحسب للقادمات ويضع الخطط ويراقب النتائج بحرص شديد لأنها تمس حياته ومستقبله. طَوّرَ ادوات الحماية الى ادوات انتاج ووزع العمل وميز بين امكانيات وقابليات الموجودين العضلية والعقلية من هنا كانت حلقات النقاش والتفكير والاقتراحات التي كانت جميعها تحت ضغط ظروف قاسية. وكانت هادئة ومثمرة فأوجد الاتفاق والتنسيق.

الانسان كائن رئيسي يفكر ويخطط وهو متشابه فسيولوجياً ودراسة أي عضو من اعضاء جسمه في اي مكان يعني كل الناس ويمثل نفس العضو عند البشر وتم بذلك الاستفادة منه في عمليات نقل الأعضاء.لكن البشر مختلفين في خريطتهم الوراثية ومنها بصمة الاصابع وصنف الدم والقدرات العقلية او الذهنية والعضلية...واهمها الذهنية والاكثر فيها التحليلية لذلك يقال لو نظر شخصان الى شيء واحد لميزاه بشكل مختلف.عليه لم تتطابق وجهات النظر والتصورات فاضطروا للنقاش وتجميع الخواطر والرؤى للخروج بمعتقدات ومفاهيم تسير وفقها حياتهم بسلام وامان....وكان النقاش يتّخلف احيانا عن ضغط الطبيعة ومرات اخرى يتقدمها وكان مسعى الانسان دائما ليسبق الطبيعة ويهيئ لذلك ما يلزم...لذلك استمرت الافكار بالتناسل وانتاج الجديد المناسب لما يعيشه البشر.

برز من بين البشر المتميزون الذين كانوا بالأعم يتعرضون لمواقف مختلفة بين التقدير والاحترام حد التقديس وبين الاذلال حد الذبح. ومن ذلك كانوا ضحايا دائماً من محبيهم واعدائهم ولذلك كانوا علامات فارقه في مسيرة الحياة التي ازدادت صخباً.

ليس كل من انتبه الى ما ينتجه احتكاك حجر بحجر(شرارة) وليس كل من لاحظ ذلك فسره او فكر بالاستفادة منه وليس كل من انتبه لرضاعة الصغير ثدي امه فكرفي استعارة تلك الحركة ليقوم بحلب ثدي الحيوانات للاستفادة من حليبها

انتشرت تلك الانتباهات واضيف لها الكثير من خلال النقاش...وبدأوا يضعون خطط للأيام القادمة وللمستقبل القريب معتمدين على ما مر ومتوقعين البعض ومع دراسة نتائج تلك التوقعات وما حصل وضعوا خطط وتصورات توسعت مدياتها المستقبلية مع مرور الوقت وتحسن الاداء...فتوسعت المدارك وانزاح التحريم عن انطلاق الخيال ليصل الانسان الى وضع القوانين ونظم التنفيذ والإدارة ويعرض كل ذلك للنقاش

كل افكار النابهين اعتمدت على ما كان قبلهم ونتائج تطبيقه على الواقع في فترة بلوغهم الفكري درسوا النصوص والنتائج وحللوا اسباب الاخفاق ونتائج النجاح ليتركوا لخيالهم وخزينهم العلمي والمعرفي ليصيغوا البديل حسب تصورات كل منهم وقدراته فكل الافكار والنظريات عمقها البعيد واساسها هو النقاش الذي دار حول تقسيم الحيوانات الى منتجه وحاميه ومعاونه وناقله وطرق تدجينها والى حيوانات متوحشة يجب تحديد او الغاء وتحجيم خطرها ولما كانوا مختلفين في دراستهم وخيالهم وقدراتهم وانحداراتهم لذلك جاءت نتاجاتهم مختلفة... فالاختلاف أزلي من أزلية اختلاف القُدُراتْ.

كلهم بشر محدودي الطاقة امام طاقة الطبيعة التي يحاولون السيطرة عليها وتطويعها لخدمة البشرية ففيهم الباحث عن مال او شهره او سلطه او تفرد... وفيهم الصحيح المعافى والمريض كل ذلك ترك اثر فكروا به وقدموه رغم اهميته لكنه غير كامل وكما انهم اعتقدوا بأن ما دَرَسوه غير كامل ويحتاج الى مناقشه وتحديث اكيد سيظهر من يقول عما انتجوه يحتاج الى مناقشه وتحديث وليس في ذلك عيب او انتقاص واعتقد انهم كما اجازوا لأنفسهم سيجيزون لغيرهم.

لا يوجد من استطاع او يستطيع في هذا الكون وهذه الحياة المتسارعة وفي كل المجالات ان يضع برنامج لفتره زمنيه مفتوحه وحتى النظريات في العلوم الصرفة لم تصمد طويلاً رغم تطبيقاتها الملموسة الهائلة. لا يمكن لأي مُنْتَجْ ومُنْتِجْ أن يواكب سرعة حركة الحياة ومكوناتها ومع وجود ردود الافعال لكل جديد...

قيل ان ما كُتِبْ في عهد الطاقة البخارية لا يصلح لعصر الكهرباء وهذه حقيقه ولا تحتاج الى نقاش رغم بطئ التحول وربما لا شيء من عصر ما قبل المصباح يشبه ما بعده وما قبل عصر الهاتف النقال يشبه ما بعده. الكثير من الامور تغيرت بعد تطوير منظومة الصرف الصحي فكيف بتغيير عصب الحياة اليوم وهو الطاقة عليه ما سبق اللحظة هو ماضي يدرس وفق ظروفه ويستفاد منه للمستقبل وهذه ما تميزت به الشعوب الحيه التي تقدم الجديد كل يوم ومن هذا فلا دين او نظريه يقبل واضعها ان تُقَدّسْ اولا يسمح بدراستها وترميمها لأنها بناء وهو مع الوقت يحتاج الى ادامه وترميم وتحسينات تواكب التطور في اساليب الحياة وهذا ما يفسر اهمية النقاش ودوره.

ومن يرفض النقاش عليه ان يصنع لنفسه مكان بتقنيات تلك الحقبة ويستخدم نفس ادوات الحياة ويعتكف فيه ليريح نفسه ويمنع تطاير شرار ضرره على الحياة. الضعيف وغير الواثق من يرفض النقاش الجالب للجديد...لا شيء ثابت...الكون أُعْلِنَ انه يتوسع.

العلوم فضاء مفتوح... فانفثوا... لم يتمكن أحد من تحديد مدياته... والافكار كائنات حيه كل يوم جديد فيها والطبيعة كل لحظه ربما تقدم كائن جديد ندركه او لا ندركه.

الانسان يبدا وبداء حياته بالنقاش مع النفس ومن ثم مع المحيط لذلك لا يمكن ان يكون انسان كل من لا يسعى الى النقاش ويمارسه.

النقاش هو تفكير واستخدام لغة التواصل وهو تأمل واستنتاج ورد وسرعة بديهيه واستخدام امثل للخزين الدماغي الذي سيتكلس لو لم يستخدم ولما كان للنقاش علاقه بالدماغ فهو يحتاج الى صفاء وهدوء وتحكم.

النقاش الحاضنة التي تنتج الابداع والتطور...وهو تَعَلُمْ واستمتاع وتواصل.

النقاش رياضه روحيه يحب ان يحسن ممارستها الجميع تُنَشِطْ الذاكرة وتعزز الثقة بالنفس وتنمي الحواس الخمس.

النقاش تطوير وامتزاج رؤى عليه لا تستخدم فيه اساليب او عبارات تسحب للخلف وتثير الحساسيات.

النقاش ليس ثرثرة او تعجيز او تسجيل انتصارات او تسفيه للغير.

النقاش ابداع لأنه فن سواء بإدارته او المشاركة الفاعلة فيه او بنتائجه يحتاج الى حواس ومشاعر صادقه.

كل رأي عند حامله محترم ولا اقول مقدس وإلا لم يعذب نفسه في حمله والدفاع عنه والتضحية في سبيله لذلك يجب عدم المساس بمعتقدات الغير وانما النفاذ اليها منها ومناقشتها باحترام حتى يأتي الرد محترم والنتائج تكون محترمه.

النقاش تركيز للعمل على تجسير الخلافات وهذا يحتاج الى حسن استماع وانتباه وتقبل الاخر وانتقاده أو قبوله وشجاعة ودقه في الرد.

والنقاش يعني لقاء واستعداد الى لقاء قادم وكل نقاش لا يفضي الى ذلك لا يدخل في معنى النقاش.

النقاش ان تقرا جيدا وتحدد ما تريد وتناقشه مع نفسك اولاً لتطرح ما تريد بدقه واصول واحترام للحضور والوقت فليس من النقاش ان يأتيه من يقول (ماذا سنناقش).

النقاش ليس مؤامرة تحاك وتحزب يُبنى في الكواليس لان جزء منه له علاقة بالعلاقات العامة وآدابها.

النقاش ليس تطابق للآراء وانما هو مزج وانتاج شيء جديد وليس فيه الغاء او حجر او تضييق او استهداف.

النقاش اعلاء شأن وتوضيح وتبسيط وشرح فليس فيه عصبيه قبليه او دينيه او قوميه او سياسية وليس فيه قدسيه لشيء سوى العلم والمنطق والانسان.

النقاش ليس سباق فيه الفائز بدرجات وفيه المنهزم من الحضور وانما الرابح فيه هو التقدم للإنسان والمنهزم هو التحجر، وهو ليس حلقة قمار فيها رابح وخاسرين.

النقاش عمل اجتماعي يحتاج الى التعارف والتواصل والوضوح للوصول للأفضل لذلك لا مكان فيه للمتسترين...وهو ليس اسئلة تطرح لأنه سيتحول الى امتحان وهو حلقة درس له طقوسه من يسيء اليها او فيها يسيء الى نفسه ومعتقده.

لا توجد نظريه او مَعْلَمْ مادي او انتاج روحي تم انتاجه او بناءه دون نقاش مع النفس ومع الآخر.

ان تقديس النظريات اهانه لأصاحبها او واضعها والمؤمنين حقاً بها لان واضعيها ما قالوا عن انفسهم انهم عظماء وانها نهاية الفكر والتفكير لانهم يعلمون ان صياغة الافكار سهل لكن قيمتها بالتطبيق...وهم يعلمون ان فيما قبلهم من نصوص لا يزال فيها مفيد.

لكن ذلك لا يبرر ان تؤخذ هكذا ويذم كل من اجتهد فيها او فشل في تطبيقها ورمي اللوم عليه بالقصور دون المرور على النصوص حيث ان النصوص ثابته فقط لأنها على الورق والثابت لا يمكن ان يُطّبَقْ على المتحرك...الافكار قيلت وكتبت والحياة متسارعة لا تلحق بتسارعها كل الفرضيات ولا النظريات...حتى السنه الميلادية اصبحت اطول مما كانت.

الجريمة ان تساوي بين من كَتَبَ ونَظّرَ وبين من طَبّقَ او حاول التطبيق لأنه يعني المساوات بين السكون والحركة اي بين اللوحة المرسومة لشخص وبين الشخص نفسه وهو يتحرك وينتج ويشعر. الكثير ممن يدعون الى تقديس الموروث لم يتمكنوا من تطبيق طريقه واحده في تعاملهم مع اولادهم او اصدقاءهم بحجة ان لكل من هؤلاء ميوله وتطلعاته لذلك يتعامل معهم كل حسب ما يراه مناسب وهو محق في ذلك.

النقاش يعلم الانسان احترام معتقدات الغير والاعتراف بوجودها الذي لا يعني الايمان بها.

النقاش يعلم التواضع والجرأة على الاعتذار عند اللزوم والاعتراف بحق الغير فيما يجب ويؤمن ويطرح فهو عمل جماعي.

النقاش يعلم الانسان ان يكون فاعل يقدم ويطرح لا مفعول به متلقي ومنفذ ومؤيد ومصفق...

النقاش يعلم الانسان ان هناك أكثر من حل أو رأي لأي مسألة او مشكلة.

الصدق والجرأة والصراحة والاحترام هي متطلبات النقاش وحسن التعامل ما يميز الرُقي فيه وهذه كلها تنتج نقاش مثمر ايجابي...وغير ذلك لا يسمى نقاش واقل ما يقال عنه انه مضيعه للوقت...فلا نضيّع وقتنا ووقت غيرنا...لكن يجب ان نواصل  النقاش حتى مع من لا يحبه وهمُ كُثر جماعات وافراد،  احزاب ومؤسسات وشخصيات واذاعات ومواقع وصحف. فطريق النقاش طويل ومُنير ومُنار وسالك وهو طريق الحق والرفعة والنمو والتقدم وكل طريق غيره خارج عن السياق.

 

عبد الرضا حمد جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم