صحيفة المثقف

الغازية تتكلم روسي ..

جمال العتابيوقّع العراق إتفاقية التعاون الإقتصادي والفني مع الإتحاد السوفيتي في آذار 1959، وكان الوفد المفاوض برئاسة إبراهيم كبة، أول وزير إقتصاد للجمهورية الأولى بعد تموز1958، الذي أدى دوراً كبيراً ومتميزاً في عقد الإتفاقية، التي تعد إحدى المنجزات الإقتصادية في تلك المرحلة، وبفضلها تمكن العراق من تنفيذ برنامج واسع للإنماء الإقتصادي والتصنيع، وأتاحت للسوفييت فرصة إقامة أبرز المشاريع الصناعية التي توزعت على كل مساحة العراق، من شماله إلى جنوبه، وتنوعت المشاريع، من صناعات ثقيلة، إلى صناعات زراعية وتحويلية، ورحبت الدوائر الرسمية والشعبية بعقد الإتفاقية، وعُدّت إنجازاً وطنياً كبيراً، وضع الأسس الأولى في نقل إقتصاد العراق، من زراعي متخلف وتابع، الى إقتصاد وطني يعتمد التنمية والتخطيط والتحرر من الإحتكار الرأسمالي . وتعرضت الإتفاقية إلى جملة من الإنتقادات، مصدرها الأحزاب القومية، ورجال العهد الملكي، ووصفوها بأنها أخطر إتفاقية تقود العراق ليكون تابعا للسوفييت والشيوعية، ومن المفارقة أن يعود حزب البعث في مؤتمره القطري الثامن 1974، ليعلن عن أهمية الإتفاقية في توسيع القاعدة الصناعية العراقية .

بدورها قامت فرق من الخبراء والمهندسين الروس، بجولات واسعة في مدن العراق لتحديد مواقع المشاريع، في يوم قائظ عاد إثنان من الخبراء الى العاصمة، بعد أن أنجزا مهمتهما في الناصرية، وتقتضي العودة، المروربالشطرة ثم الغازية (النصرالآن)، فالرفاعي وقلعة سكر، صعوداً مع الغراف نحو الحي ثم الكوت ...وهكذا إلى بغداد .

يأتي النداء إلى مسؤول المنظمة الحزبية في الغازية بالإسراع في تهيئة (الجماهير) لإستقبال وفد الخبراء القادم من الشطرة، عبر طريق ترابي في الصوب الثاني من المدينة، في الغازية تلفون واحد فقط، هو تلفون دائرة البريد، الموظف يختض من الصياح كي يلتقط الصوت القادم من الشطرة، وتكاد يداه لاتتوقفان من تدويرمفتاح التلفون بحركة متواصلة سريعة، تشبه عملية تشغيل السيارة بـ(الهندر)، عندما تتوقف بطاريتها .

أراقب المسؤول وهو يمسك سماعة التلفون بيد، وفي اليد الأخرى ورقة يدون فيها بقلم حبر(باندان)، ما يتلقاه من توجيه بشأن شعارات الإستقبال، أسمعه بصوت عالٍ : نعم ..نعم، أعد رجاءً، كتب أول كلمة، (مِير )، مير، مرة ثانية يسأل المسؤول، ثم الثانية، (دررررو)، درو، بعدها رجاء ً؟ (شبا)، شنو معناها عزيزي أبو.... ؟ ردّ الطرف الثاني : معناها، سلم وصداقة، ثم واصل، أكمل بقية شعار الترحيب أرجوك، وهنا المصيبة الأعظم، الكلمات جاءت مدغمة، لا فاصل بينها، وجد المسؤول صعوبة بالغة في فرزها، وفك رموزها، وهو يعيد ويستفسر ويطلب التأني اكثر من مرة، وفي وجهه حيرة وأكثر من سؤال، فكتب ما يشبه الطلاسم أخيراً (إزدرازدي سوارشششش ) !!! عرفت بعد عقود من الزمن انها تعني : مرحبا بالرفيق، لم تصدر عن المسؤول سوى تنهيدة خافتة، تبعها بالقول : شنهو هالشدّة يارسول اللة !!

المعضلة الأشد، كيف يمكنك من جمع أبناء المدينة للمشاركة في الإستقبال ؟ بعد أن إستلم عزيز السيد جاسم –المتخرج تواً من دار المعلمين الإبتدائية - ورقة الشعار، وعليه تقع مهمة تدريب المستقبلين على حفظ هذه المقاطع، فطلاب الإبتدائية الوحيدة، يتمتعون بالعطلة الصيفية، وفي النهار الساخن يأوي الناس الى منازلهم، ليس سوى (المهافيف) تحرك الهواء الساخن في غرفهم الطينية، التي تلفها غمامة الإعياء، وهي تستجير من لهب الصيف، كنا أول المتجهين نحو (الطبكة)، واسطة النقل الوحيدة عبر الغراف، وعلى سطحها بدأت أولى الدروس في ترديد الشعار، يحدو بنا السيد عزيز بصوت متعثر، وفي ملامحه توجع خفي، أما نحن فكنا نبادله بخرس مجوف العيون، ووجوه متحجرة، الأغلب منا كان بحاجة إلى أن يسترسيقانه المكشوفة لقصر في الدشاديش، وحديد (الطبكة) يفجّر في أقدامنا المجامر .إختنق في حناجرنا الصوت، كنا صوراً محنطة الملامح، يفترسنا الصمت نبحث عن شربة ماء تروي عطشنا .كنا جميعاً ننقب عن حافز مثير وملّح يحملنا ترديد الشعار بالروسية، وأغلبنا مازال يتهجى الحروف العربية، في مدينة ثلاثة أرباع سكانها من الأميين، مضينا نحو الطريق الترابي، تتوقف بعيداً عنا سيارة حديثة زرقاء، تتلاحق انفاسها، بسبب ثعبان من الغباريطاردها، يترجل منها رجلان، بوجهين يلمعان كسطح جليد في نهار غائم ، إلتفت إلى الوجوه الصفراء والسمر من حولي، أدقق في براءتها المخطوفة، وشحوبها الأزلي، وهي تردد المقطع الأول لسهولته، وأطلقت الثاني للأماني والوعود، بعد أن خطفت حمرة الوجوه وبياضها ابصارنا،

في المشهد الأخير من الحفل، ترتفع كفا الرجلين، مضمومتين لبعضهما، تلوحان لنا من بعيد كرمز للتضامن والسلام، لكن البلاد ظلت تقاوم دائماً رجس الحروب، ولم تدخل عصر السلام، ولم يشرق من غيثها فجرها المنتظر .

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم