صحيفة المثقف

مساحة العنوان في النص الشعري بين المعنى والتأويل في القصيدة التجديدية

سعد الساعديبعيداً عن معنى العنوان وما يعنيه، وما قاله مؤسسو المدارس النقدية والمنظرون في هذا المجال، والتعريفات الخاصة به، نحاول الوقوف عند العنونة الطويلة للكثير من النصوص الشعرية لاسيما القصائد التجديدية أو مأ أطلق عليها قصيدة السرد التعبيري .

نجد في القصيدة التجديدية مساحة واسعة جداً لعنونة النص كأسلوب متفرد جديد مقصود كما لو انه ملخص البحث في دراسة معينة، أو دلالة لمعنى يبتغيه الشاعر كصورة ابداعية . تتكرر القصائد بشكل مضطرد يومياً بعد الانتشار الواسع لقصيدة النثر التجديدية بشكلها الأفقي كما اتفق عليه بناتها وكتّابها، وهي تحمل العنوان الواسع بمعناه، كثير الكلمات في جملته .

الدراسات الكثيرة التي كتبت عن عنونة النص كعتبة او مفتتح القصيدة، او رأس النص، والارادية التالية المفسرّة لما يأتي من اللاحق، لكننا لم نر فيها َ دراسة جديدة تطرقت لطول العنوان بشكل عام، سواء القصيدة العمودية التي نحى بعض شعرائها مؤخراً بكتابة جملة اسمية أو فعلية طويلة، أو بيت من الشعر كعنوان يسمي القصيدة، أو كتاب القصيدة التجديدية، وهذه المرة الثانية لنا في محاولة الكتابة عن العنوان الشعري في محاولة لملء بعض فراغ من الضروري الوقف عنده طالما أن مرحلة الكتابة الادبية تحاوزت فترة ما بعد الحداثة الى الحداثة التجديدية التي يسير معها كل شيء في ظل عولمة فكرية نتمنى ان تكون انسانية خالصة بعيداً عن كل شيء من أجل سعادة الانسان ليس إلاّ .

تقول الشاعرة الليبية نعيمة عبد الحميد عن طول العنوان كونها أحد الجدد مع تشكيلة من يكتبون القصيدة التجديدية وأصدرت مؤخراً ديواناً لها :

" العنوان مهم جدا للنصوص الإبداعية بصفة عامة، لانها مرآة تعكس الحالة الشعورية للنص، و أيضا للعنوان قصة يجب أن يرويها بشرط اختلافها عن باقي القصص ان شئت " .

من هنا نستشف أن القصيدة التجديدية الجديدة هي حالة ابداعية عنوانها له دلالة حضورية واقعية مؤثرة على المتلقي الباحث عن الجديد دائماً، كما أن العنوان محفز وجداني للشاعر يرصف كلماته بشكلها المنتظم كراوٍ لقصة مختلفة تماماً عن كل ماضٍ سابق، وتضيف :

" فهو الكاشف عن كنوز النص الشفافة، و معري جزره المغمورة، لذلك اقول دائما يأتي النص و العنوان معه، مهما أحتار و انشغل به، فهو يدور داخل النص، قد اكتبه بكلمة واحدة لكن هناك نصوص تأتي بعناوين طويلة حيث أجدها معبرة عنها خاصة و انا اكتب السردية التعبيرية أراه يليق بها يلخص نفسية النص".

ونكتشف هنا جديداً آخر هو الكشف عن نفسية النص، وبالتأكيد يكون أول الانطلاق من سيكولوجية الشاعر وارهاصاته ودواخل روحه الحالمة، او المتألمة، أو العاشقة التي نرى الكثير من القصائد التجديدية تميل اليها، وتسير على نهجها حتى وإن كانت وصفاً لحب مغادرٍ او يحتضر فأمام الرجل امرأة شاهدة على البناء، وأمام المرأة رجل تصبو اليه .

وتختم الشاعرة نعيمة عبد الحميد زهرة الناردين قولها بعد سؤالي لها قائلة : ' لذلك ابتعد عن العناوين الرنانة التي تستهدف الجذب، و لا تعبر عن القصيدة، فهو المعبر عن اكتمال النص، و وجه النص الذي احرص ان يكون مشرقاً ".

وبرغم الاشارة الصريحة من الشاعرة بعدم استهدافها الجذب او الاثارة من العناوين الرنانة، لكننا وكذلك المتلقي المتابع، نجد عناويناً هازّة بقوتها، مثيرة بكلماتها، جاذبة بصورها، وتحتاج لتأويل ما في الكشف التالي عن المضامين المسطورة بدفق الكتلة البنيوية سواء الرمزية او الإنزياحية أو الواقعية الصريحة كما في كتابات الكثير ممن يكتب هذه القصيدة.

في حين نجد الشاعر العراقي كريم عبدالله وهو من رواد كتاب القصيدة التجديدية أنَّ قصائده غزيرة بالعناوين الطويلة أكثر من غيره، وربما لانه العاشق المخلص للقصيدة التجديدية الجديدة والحديثة بكل ما نقرأه طالما وصفت الحياة، والحب، والمرأة، والطبيعة بعيداً كل البعد عن كتابة الخواطر النفسية التي عاد بعض الكتاب اليها، متناسين الأسس والمقومات والشروط الواجب بها كتابة القصيدة التجديدية من اجل تجنيسها كنوع وجنس ادبي معترف به حسب كل معايير الاجناس الادبية والتي تستحقها بجدارة .

وللتأكيد أيضاً مرة أخرى مع ما اوضحته في دراسة سابقة انني اميل الى تسمية قصيدة السرد التعبيري الى القصيدة التجديدية، وقد يختلف، او يتفق معي البعض كون السرد يعني الحكاية بعيداً عن الاختزال في الوصف والتكثيف وهذا ما لا ينطبق على القصيدة هنا لانها ليست سردية قصصية، نعم، يمكن تحويرها وتحويلها الى قصة قصيرة بإدارة فنية من قِبَل قاص - شاعر، لكنها ليست قصة كما تؤكد الوقائع، ويقول بذلك كتابها، وهي ايضاً ليست خاطرة مع أن جزءاً قليلاً ربما يكتب بهذا الأسلوب لسببين اولهما : انه لم يتقن الصنعة بعد لانها مستحدثة، وثانيهما ان خطه ما زال عالقاً بنمط الخاطرة التي مضى عليها الكثير لكنها باقية .

التأويل المقصود في هذا البحث، هو مشاركة القارئ والكاتب والنص، في خلق الابداع الموجود في المكان والزمان، وفق ما يمكن تسميته بالجمال الحقيقي والتلقي المقبول حين يُعرض النص على بساط التخيل والنقد والتحليل، هذا يبدأ انطلاقاً من عنونة مقصودة تدفع بلا عنف نحو الادراك والتصور، مع ان القارئ ليس مبدعاً لنص شعري، لكن ذائقته الجمالية فيما يقرأه تساهم بشكل فاعل في مزيد من انتاج ابداع متواصل كما في الرسائل الاعلامية المفهومة بلا تشويش من المتلقي، ما يعني انها ادّت غرضها بنجاح، وبلا أية صعوبات وخلل، وأثّرت فعلياً بما جاءت به من أغراض نتيجة رجع الصدى المقبول الذي يستشعره الكاتب، وهنا المقصود الشاعر، لانه جزء من عملية اتصالية جماهيرية اعلامية واسعة النطاق، وليست محدودة.

شاعر آخر من كتاب القصيدة التحديدية وله دواوين فيها وهو الشاعر العراقي عدنان جمعة، وبرغم كتابته لعناوين قصيرة  لكنه يقول :

" انا اعتمد على العناوين القصيرة جدا والتي لا تتعدى ثلاث كلمات في الغالب، ودائما اكتب العناوين بكلمة او كلمتين . اما لماذا يكتبون بعناوين طويلة ؟ فهو عدم ايجاد عنوان مختصر للقصيدة ليعبر عنها لذا يلجا الشاعر الى كتابة عنوان طويل حتى يوصل فكرة القصيدة للمتلقي من عنوانها " .

من ذلك يتضح بشكل جليّ أن فكرة القصيدة، او فلسفتها الخاصة بما يريده الشاعر بعد نضوجها التام تحتاج لعنوان طويل كي لا يتعب القارئ بما يراه امامه من زخرفة لغوية تمتاز بها القصيدة التجديدية، وإشعاره بمتعة تليق به كمتلقي وجهاً لوجه مع نص يمتاز بوصف كثير المعاني، وجمال لغوي، ومعنى قابل للتأويل او التأمل، والتفسير وفق الحاجة النفسية، والشعورية، والخلفية الثقافية ، بما يسعى اليه الشاعر كمرسل لفظي لبيان مكتوب على الورق، يخترق الكيانات الروحية بالصور الجميلة، وهذه كلها أسس وخلفيات اعتمدتها القصيدة النثرية التجديدية، مع ملاحظة أخرى أن البعض لا يعترف بما يسمى قصيدة النثر، فإما النثر الفني المركز بكثافته وبنائه، أو الشعر المرسل، ولكلٍ وجهة نظره الخاصة به، لكن الواقع الجديد على الأرض أثبت المقدرة العالية لقصيدة التجديد .

 

سعد الساعدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم