صحيفة المثقف

دعوة إلى ترقية الخطاب الفكري العقلاني لحلّ المشكلة السياسية

علجية عيشالمبادرة التي أطلقتها الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية  بخصوص الحراك الشعبي تستحق التثمين والنقاش في كل أبعادها الفكرية والسياسية، بعدما وصفت الحراك بسيلان دائم التدفق لا تعرف أشكال تجلياته قرارا ولا استقرارا، كونه  يرفض كل محاولات التحديد أو التعيين، فهو اللحظة التاريخية التي يتوقف سيرها نحو المستقبل، وهاهو يحلق نحو الأفق  مقدما أجمل الوعود والطموحات التي تداعب فكر الإنسان وخيالاته وتثير  فضوله في الاندفاع نحو مستقبل يريده هو بإرادته واختياره، معترفا في ذات الوقت بمسؤوليته في صنعه

و مهما اختلفت التسميات وتنوعت أو تلونت، أو تحول الحراك إلى ثورة أو شيئا آخر، فهو في نهاية المطاف اتسم بحركيَّةٍ ووعيٍ  من أجل تحقيق الهدف،  إذ  لا "حراك" من دون هدف إذا ما اختزلت جملة أهدافه في هدف نهائي، وبقراءة للمشهد السياسي التي تعيشه الساحة الوطنية، يقف المتأمل في مبادرة الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، ومنها يستنتج أن الشباب الذي يخرج في مسيرات سلمية  استلهم روح الثورة من دماء الشهداء التي تبين أنها تسري في جينات شباب وشابات أجيال الاستقلال، وجيل المأساة وجيل الإنترنت، هي جينات أريد اقتلاعها من دون جدوى لتثب من جديد بفلسفة أخرى فهمت التاريخ، في واقع الناس وشوارعهم وبمقاربة الحياة اليومية، كان الشارع هو الفضاء الذي اتخذه الشعب للتعبير عن رأيه بحرية، أثبت فيه وعيه ونضجه السياسي أمام العالم كله، بأن خروجه إلى الشارع  جاء بعد تأمل للوضع الذي تمر به الشعوب، حتى لا تمسه نيران الحرب الأهلية وهو الذي اكتوى بها  في بداية التسعينيات، استلهم منها ومن  تضحيات شهداء الجزائر عزيمته التي تجددت مع التاريخ في نهاية العقد الثاني للألفية الثالثة.

 لقد كان الحراك الشعبي ثمرة تفكير جاد حول مستقبل البلاد وبناء الأجيال،  حيث عبّر عن سلميته وتفتحه وأثبت أن له قابلية التعايش مع الأحداث ومعالجتها بعقلانية بعيدا عن الصراعات، فكان له أن يضم جملة من المطالب، أولها  أخلقة العمل السياسي نظاما ومجتمعا مدنيا، سلطة ومعارضة، أحزابا وجمعيات، مؤسسات وأفرادا، وذلك ما تجسّد فعليا في سلمية حركيته وممارساته الإيجابية بيئيا ودعواته إلى عدم الانسياق والانزلاق نحو العنف والهدم بل وطموحاته في تجسيد مشاريع خضراء للوطن يتحقق فيها ومن خلالها بناؤه بأيدي أبنائه جميعا، فليس جديدا على الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية أن تتخذ هذه المباردة، فقد كان لها مسار نضالي معترف به منذ تأسيسها في 2012، مكنها من أن تكون منبرا لترقية وإنماء "الخطاب الفكري العقلاني" داخل المجتمع،  والعمل على تكريس وتجسيد ما سمته بـ: التعقلّية المتسامحة في حياة كل فرد.

 وانطلاقا من مسؤولية أعضائها مفكرين ومبدعين وكتابا، ومن موقع شعورها بواجب الانخراط الفعال في كل ما يتعلق بالمآلات المصيرية للوطن  أبت الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية  إلا أن ترافق الحراك  وطموحات الشباب وفق رؤية فلسفية  من أجل الخروج من الأزمة ومن  نفق الخيبات والفشل، وهذا ديدن كل مثقف حر مسكون بإرادة التغيير من خلال اقتراح البدائل الناجعة ثقافية كانت أم حضارية، ومباشرة البدء في التأسيس لجزائر جديدة، تقاوم كل أشكال الفساد والاحتكار ورواسب سلوك الولاء الأعمى التي كثيرا وفي العديد من المناسبات ما نبَه إليها وحذر منها العقل النقدي منذ انتفاضة أكتوبر 1988، التي فتحت أمامه الفضاء العام للتعبير بحرية عن أفكاره حيث طالب ولمدة طويلة، أي ما يزيد عن عشريات ثلاث، إلى ضرورة ترسيخ التسامح في البلاد من أجل سد منافذ أمام العنف والتعصب والعنصرية، وكل أشكال الكراهية والضغينة المقيتتين .

و المتأمل في مبادرة الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية يقف على أن هدفها تغيير الخطاب الذي انتهجته جماعة ما، في وقت غير بعيد، حيث وضعت رؤيتها المستقبلية في تأسيس مجتمع حديث  قائم على التسامح والتآزر، وغير مؤسس على إيديولوجية  جماعة من الجماعات مهما كان لونها السياسي، خاصة تلك التي تحمل فكرا متطرفا، كما ساد في الماضي القريب حيث الإكراه على الإيمان السلبي والإذعان المتسلط على فكر وعقول المجتمع الجزائري، فالتاريخ كما جاء في نص المبادرة بين أن انطولوجية الذات الجزائرية لا تقبل هكذا تلوينات سوداوية، إنما تتوق إلى ما يمكنها من الانفتاح الدائم على المتعدد والمختلف، وليس على المتطابق المتماثل،  ضف إلى ذلك سعيها إلى  الاعتراف بالوجود الكامل واللامشروط للآخر في العيش سويا، وذلك ضمن وحدة وطنية لا تعلو على هذا التعدد بقدر ما تنبثق عنه.

 من هذا المنطلق ترى الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية أن  الجزائر بفضل ما حققه الحراك ولا يزال يحققه من مكتسبات،  يمكنها أن تصنع نموذجها المميز لها، ولذا فهي تعتبر نفسها  معنية بمصير الشعب الجزائري وحقوقه الكاملة في النهوض، والانعتاق من كل ما كان يكبح انطلاقاته الواعدة والمأمولة، وفي أفق التنمية الفعلية لا الوهمية بأبعادها الثقافية والحضارية، ومن ثم الحلم  بجزائر جديدة متخلصة من أثار الانسداد والقمع والفشل  والانهيار الأخلاقي التي سممت حياة الشعب  لعشريات، وفي هذه السبيل يتعين على كل فرد أن يدرك مهما كانت مكانته ومسئولياته، ومهما كان مستواه العلمي، والاجتماعي أن رأيه وكلمته إنّما هما مسؤولية جسيمة، وليسا مجرد حدث عابر، فهو مدعو إلى استكمال مسيرة بناء دولة مدنية وطنية قابلة للتطوير، متمكنة من كافة أسباب التنافس مع بقية دول العالم، وتحالفاته، ووضعها في أطر وآليات من أجل الخروج من الأزمة.

و قد وضعت الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية مجموعة من الأطر العامة و الآليات للخروج من الأزمة وتنظيم الإنتخابات الرئاسية و تشكيل هيئة مستقلة مكونة من كفاءات تكنوقراطية محكومة بقانون داخلي يوضح وظائف أعضائها وتسلسلهم الوظيفي ينتخبون رئيسا ونائبين له، كما تسند لها كل صلاحيات تنظيم الاستحقاق الرئاسي المقبل وبقية الاستحقاقات التي تليه بالضرورة، الإنطلاقة تكون بتعديل قانون الانتخابات بما فيها شروط الترشح، مع احترام الحريات الفردية والجماعية وحقوق الانسان في إطار الإلتزام ببيان أول توفمبر 1954،  هذه الأطر العامة حددتها المبادرة في 10 نقاط هي: (الإلتزام ببيان أول نوفمبر 1954،  مدنية الدولة، الفصل بين السلطات، الحكامة المتأتية من الاختيار الحر للمواطنين في كل المستويات، الرفض القاطع لكل شكل من أشكال التدخل الخارجي، نبذ العنف بكل صوره مهما كانت المبررات والظروف، الوحدة الوطنية، عدم المساس بالاختلافات في الرأي، الدين، الإيديولوجيا، اللغة، الثقافة، العرق، اللون، الانتماء السياسي ...إلخ مهما بلغت حدتها، احترام الحريات الفردية والجماعية وحقوق الانسان، وأن يلتزم الجميع بقبول  واحترام نتائج الاقتراع والدفاع عنها طالما كانت عملية الانتخاب حرة ونزيهة.

ولا تتجسد هذه الأطر إلا من خلال وضع آليات منها تحييد الادارة  بشكل تام عن كل علاقة لها بعملية الانتخابات، تشكيل هيئة مستقلة مكونة من كفاءات تكنو قراطية محكومة بقانون داخلي يوضح وظائف أعضائها وتسلسلهم الوظيفي ينتخبون رئيسا ونائبين له، كما تسند لها كل صلاحيات تنظيم الاستحقاق الرئاسي المقبل وبقية الاستحقاقات التي تليه بالضرورة، بما فيها التاريخ الذي تراه مناسبا لتنظيم هذه الانتخابات،  تعديل قانون الانتخابات بما فيه شروط الترشح، والتأكيد على الكفاءات السياسية، يلتزم المترشح -في حالة فوزه -  بإعادة بناء عقد اجتماعي جديد يخضع للاستفتاء الشعبي المباشر يصبح ملزما بعدها لكل مكونات الدولة (الرسمية وغير الرسمية، المدنية والعسكرية، في الداخل والخارج) بأن يكون هو علة وجودها، يتبعه وضع دستور يضمن ديمومة ذلك العقد الجديد، ويسهر على ضمان الالتزام والتجنّد لتطبيقه ويرتب الجزاءات المناسبة في حالة المساس به، تجرى بعد ذلك انتخابات تشريعية ومحلية لاستكمال باقي المؤسسات الشرعية للدولة.

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم