صحيفة المثقف

بيت من ورق

صحيفة المثقففي إحدى الحروب وجد الناس أنفسهم خارج مدينتهم الجميلة اذ اخرجوا منها جميعا ورُحّلوا الى أماكن اخرى . وكان ليث ومصطفى يلعبان خارج المدينة كما يفعلان دائماً، حيث يستلقي هناك نهر صغير جميل يصلح للسباحة صيفاً وللصيد شتاءً وبقربه أشجار ظليلة لتسلقها والجلوس تحتها، فكانا يسبحان هناك ويصيدان الأسماك أو ينصبان الفخاخ للأرانب والطيور. وحين عاد الصبيان من نزهتهما وجدا بيتيهما خاليين من العائلة فضلاً عن كل البيوت الاخرى في المدينة، ولم يسمح لهما الجنود ان يظلا في المدينة الخالية بل أبعدوهما أيضاً قائلين لهما إنهم سيُعيدون عائلتيهما بعد زوال الخطر .

وكان سكان المدينة قد نقلوا بسيارات سريعة الى أماكن اخرى احتار الصبيان ماذا يفعلان؟ وأين سينامان؟ فقررا العودة الى مكان نزهتهما المعتادة . وحين وصلا متعبين جلسا على حافة النهر بعد أن قطفا وأكلا شيئاً من بقايا فاكهة من التفاح والكمثرى تجود بها بضعة شجرات متفرقة لم يلتفت أحد لجني ثمارهما . ظلا يفكران تارة معاً وتارة كل بمفرده، وقد عزما على ترتيب امورهما حتى يلتقيا بأُسرتيهما . وكان في طريق نزهتهما مصنع كبير لتصنيع الورق مهجور منذ زمن بعيد، طالما لعبا في ساحته . قال ليث : ساصنع لي بيتاً صغيراً من الورق . لكن مصطفى قال : اما أنا فسأبني لي بيتاً من الخشب .

وحين بدأ الظلام يهبط انطلقا مسرعين الى المصنع، وكان المصنع مغلقاً بإحكام ولا منفذ لداخله، وفي ساحته بضع لفات كبيرة من مادة (النايلون) والكثير من لفات الورق السميك الأبيض وفيه الكثير من الأخشاب يُصنّعها المعمل أيضاً ليلف حولها الورق المنجز استعداداً لتسويقه ولاغراض اخرى . هناك نصح مصطفى ليثاً ان يفعل مثله فيبني بيتاً خشبياً ، غير أن ليثاً أصرَّ على رأيه لأنه يحب اللون الأبيض ولأن البيت الخشبي يحتاج وقتاً وجهداً لا يطيقهما ولا يصبر عليهما .  انطلقا صباحاً بعد أن ناما ليلتهما في فناء المصنع، هبّا في الصباح الباكر ليأكلا ما بقي لديهما من الفاكهة مما جلباه معهما في جيوبهما، ثم اغتسلا في ساقية تتفرع عن النهر الصغير . دحرج ليث لفة كبيرة من الورق الى مكانهما المفضل الذي يحبانه قرب النهر، وعندما كان يعجز عن دحرجتها كان مصطفى يترك ما بيده مسرعاً ليساعده . عاد مصطفى عدة مرات كي يحمل الخشب حتى تجمعت لديه كمية ظنها كافية لبناء البيت الصغير . اما ليث فقد حمل بضعة خشبات تصلح أعمدة للزوايا .

وبعد بحث وتنقيب وجدا عدة عُدد يدوية مكدسة في صندوق حشر تحت السلم في فناء المصنع الخارجي وقد علاها الصدأ فحملا بعضها . ووجد ليث علبة غراء نصف مغلقة فأخذها، أمّا مصطفى فقد بحث بجد حتى وجد بضعة مسامير معوجة وصدئة ، لكنه لم يبال فأخذها واخذ ينتزع مسامير اخرى من قطع الخشب المبعثرة في باحة المصنع هنا وهناك .

صنع كل منهما هيكلاً للبيت الذي سيسكنه من خشب يصلح للزوايا وقد أخذ ذلك جهداً كبيراً من كليهما، اما ليث فاكمل بيته الورقي بعد ذلك بسرعة كبيرة وسرَّ به كثيراً ، ثم انصرف يتمشى بقرب النهر يستمتع بالمناظر الجميلة . وبعد أن ملَّ من السير جلس الى حافة النهر وأخذ يرمي بحُصية بعد اخرى الى النهر ويراقب الدوائر المتتالية التي تصنعها الحُصيّات . أما مصطفى فقد بذل جهداً بعد جهد وهو يساوي قطع الخشب ويدق المسامير المعوجة الصدئة بعد تسويتها بالمطرقة وقد ترك فراغاً لنافذة صغيرة وآخر أكبر لباب صغير . لم يستطع ان يكمل بيته في نهار واحد مع كثرة ما عمل ، وكانا اثناء ذلك قد ذهبا الى الأشجار التي يعرفان مكانها ليقطفا من ثمرها ويسدان جوعهما . ذهب كلاهما للنوم فرفع ليث ورقة سائبة من بيته اتخذها باباً ودخل لمكان مهّده وفرشه بالورق أيضاً . اما مصطفى فدخل الى بيته ذي الجدار الناقص والسقف المؤجل . ونام كلاهما من التعب بسرعة فائقة . نام مصطفى فوق خشبات ترتفع قليلاً عن الأرض صفها بانتظام ووضع فوقهن كومة من أوراق الاشجار اليابسة .

استيقظا ليذهب ليث لمكان لعبه ومتعته، أما مصطفى فقد ذهب الى المصنع ليجلب أخشاباً إضافية وحين عاد استأنف عمله في بناء البيت حتى أتمّه ثم اعتلى السقف بعد أن كمل وفرشه بمادة النايلون التي جلبها من فناء المصنع، ثم وضع فوقه صخوراً كبيرة كي لا يتحرك او يطير إذا ما هبت الريح . أصبح البيت دافئاً غير انه لم يكن جميلاً تماماً، أغلق بابه ونام هانئاً مطمئناً، اما ليث فنام ولم يحسب حساباً لشيء . لكن الليلة كانت ممطرة، وما كادت السماء تمطر لبضعة دقائق إذا بالبيت ينهار على صاحبه ليلتصق الورق على وجه ليث وجسمه فهرع مسرعاً الى خارج بيته وتوجّه الى مصطفى مولولاً صارخاً يستنجد به، فتح مصطفى الباب وهو يفرك عينيه قائلاً : تفضل تفضل يا ليث المكان واسع يكفينا معا ً .

***

سمية العبيدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم