صحيفة المثقف

وخزُ الذّاكرة!

ابراهيم رحيمللبروق في صحاري الرّوح دويّ المطرقة وصعقة اليقظة؛ تجردّنا من ظلام الصّمت، المكلّل فوق نهاراتنا المكبولة بحبال الشّرود، وأخرى المفجوعة بوخز النّدم  لِما كان ولم يعد من خمر اللحظات.

هذا النّدم الحلو المذاق، المُحبّب لنا ثلجَ الشّيخوخة، ونزيفَ العمر من قارورة الحياة...

ها نحن أولاء، نرضعُ كالنّبتة، من شمس ذاكرتنا، قوتَ الوجهات، صوتًا تلو صوتٍ، حتّى نعي ذات يوم؛ أنّنا إمتدادٌ جبريٌ لذلك الذّنب القديم.. شهوة التّفّاح والاِنكسار اللذيذ في سرير الرّغبة.. خُلِقنا هكذا.. وعلينا أن نحيا والذّنب يرسم لنا الهاويّة والضّوء، وإن كنّا نصارعُ ذئابَ الذّاكرة جزاء الغياب؛ فنخرّ مندحرين ونصال أنيابها منغرسةٌ في خاصرة الوقت، أو نغادر الحلبةَ، مضرّجين بدماء الأمس ولطخات ظلمتها، في أحسن تقدير.

لكنّما الذّاكرة؛ حيث يتصبّب من محيط الرّوح ندى الأيام، صحراءٌ مليئةٌ بدبيب العطش، والوخزِ الجارحِ لصبّاراتٍ، نحملها كالملح في دماءنا؛ كأنّنا نكفر بالنّسيان، أو نتعمّد الشّربَ من أقداح الألم؛ كلّما راودتنا عن نفسها!!!

كيف إذن لا تنقطع السّبل على الكلام، ولا تعرج المسافاتُ في جداول المعان؟

أنكون كالأحجار منكبّين على جذع جراحنا، لا نلتفت لركاض العواصف، ولا لتبدّل قماش الفصول، أوحتّى تبدّدها المرير؛ إذ تجرفنا سيول التّغيير، فنفقد عنان خيل الدّروب بين رمشة وأخرى باكية، لنسير كلّ مرة، حفاة، عراة من فجور الحياة وبواعثها، خارجين من متاهة العزلة، داخلين متاهة الضّياع الرّمزيّ المُكنّى بربيع الدّروب!

أهكذا الحياة إذن من صوت إلى صوت و من باب إلى باب...!؟

كأنّنا دروبٌ للدّروب نفسها، أو سجناءٌ ،مكفوفي الخيار، تُطَوّقهم أغصانُ الزّمان الضّاحكة للرّيح، وتقود عنانَهم أصواتُ دروبٍ سَمِلة الإيقاع، رثّة الرّنين؛ تسلب جيوب الإرادة وترميهم بأحضان قبورٍ، كانت مرحبّةً بهم، منذ طّفولة الأغصان، منتظرةً لهم، منذ أول بكاء!

أنُقَبّل الحجرَ، كي نرتوي من عطش الحنين؟

ما هذا الكلام الحجريّ الطّنين!؟

ما لنا وهذه النُّبوءة النّائحة، ذات الجَوف الجاف من قصب الأيام!! لسنا زبدًا تحرّكنا أنامل العباب، أو نسيجًا تحوكنا يدا الرّيح ملابسًا للقدر؛ وإذ نتمزّق من غسيل العواطف، أو يملّنا هذا الفحل الشِّرّير؛ يستبدلنا بأُخَرَ، قد تسبّبت مفاتنهن له منذ حين، بحُمّى تدفق الرّغبات.

ما الإنسان إذن في سباق الوجع واللذة، في سباق الشّتاء والرّبيع؟

ألَحْم وعظام تلوكه رَحى الأيام؛ فتصنع منه حجرًا باردة المفاصل تتنفّس جميل اِنصهارها، بتصوير الماضي و إيقاظه من ثلوج الرّماد!! 

أيها الحجر المقدّس قبّلني، وخذني حجرًا بين أحضانك.

كأنّ للإنسان همس الضّوء عند الظّلام، يحادث خيبته بلغة الثّلج:

لا تنطق إلّا بتقيّؤ الصّور المنسيّة، والمرصوصة في زنازين الذّاكرة، ولنأكل الدّروبَ نادمين من تركها، نادبين فراقها...

حتّى نقول ذات يوم، لذلك الخيال الّذي يتراءى لنا، ساخرين من تجاعيد المرآة، وصُدء أصوات الدّروب:

لا يهمني أمرك ولا أطيقك بعد، لا أطيقك يا إنسان

فلنسلك معًا محطّة الغروب...

 

إبراهيم رحيم - الأهواز

٩ تموز / يوليو ٢٠١٩

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم