صحيفة المثقف

مع الكرام الأمر سهل يسير

احمد الكنانيقيل للكاتب الإيراني الشهير عبد الكريم سروش: اختر لنا بيتا لمولانا جلال الدين الرومي هو الأكثر روعة مما أبدعه هذا المتصوف الكبير، فأجاب بعد لحظة تأمل: ذاك الشطر الذي يقول فيه "مع الكِرام الامر سهل يسير".

الدكتور سروش وهو الخبير بشعر الرومي والعارف بدقائق أسراره، تشبّع بشاعريته منذ صغره وبدأ يفك رموزالمثنوي في حلقات بثت من على التلفزيون الإيراني بعد الثورة الإيرانية بداية الثمانينات ومازالت دروسه قائمة في كارلفونيا محل إقامته الحالية .

بيت الشعر المقصود هكذا جاء بلغته الأصلية:

تو مگو ما را بدان شه بار نیست

با کریمان کارها دشوار نیست

.

لا تقل ليس لنا سبيل الى ذاك الملك

فمع الكٍرام الامر سهل يسير .

 

ما قصة هذا البيت ولماذا اصبح مثلا يُضرب به عند الناطقين بالفارسية، وماهو سر اختيار سروش له كافضل ابيات مولانا على الإطلاق؟

يرجع السبب الى ما يصبو اليه مولانا في طيّات المثنوي من الإنشاد الى الحب والمحبوب، ويرى ان الطرف الأخر لهذه العلاقة حري به ان يتحلى بمجموعة شرائط ليتصف بصفات العشق الحقيقي، بل هما دعامتان لا ثالث لهما اللامحدودية والثبات، اذ ليس من الحب بشي لو جمعك مجلس عشاء او شرب قهوة بشخص ما لتقول عنه قد جمعنا الحب وأصبحت عاشقا ؛ لعدم المعرفة الثابتة والراسخة بالطرف الآخر، بالإضافة الى كونه محدودا والحب لا يتعلق الا بالاّمحدود .

من الواضح ان تلك الصفات لا تتعلق بالحب البشري؛ اذ المحدودية وعدم الثبات هي صفات بشرية متلازمة لهم في العادة، فعلاقة الحب بين البشر يعتريها التغير والتبدل بحسب الظروف والأحوال، نعم قد تتحقق للافذاذ والنوادر لكنها وكما يراها مولانا مترشحة عن الحب الإلهي، والحب والعشق هو الهي في حقيقته وليس بشري .

هذا المعنى وجدته مصادفة عند بيرم التونسي وقصيدته " القلب يعشق كل جميل "

سيأتي شرح مفصل لهذه القصيدة في مقال لاحق …

من هنا تُستشم رائحة العشق الإلهي فواحةً من المثنوي بأجزاءه الستة، حتى يخيل لك ان محور الديوان هو العشق الإلهي والمولوي يدور حوله دوران الفراشة للّهبٍ .

لكن السؤال عن مدى مثالية مثل هذا الحب وخياليته واستحالة تحققه في الواقع الخارجي اذ كيف لك ان تحب ممن ليس كمثله شئ؟

وجواب مولانا هو:

مع الكِرام الأمر سهل يسير

الا ان توضيحه صعب عسير

اذ لا صعوبة تذكر في تعاملك مع الكرماء وهو اكرم الكرماء …

لكنه يبقى سر من الأسرار ومن الصعوبة بمكان توضيح كيفية تحقق مثل هذا العشق:

يقول مولانا في ذيل قصة الملك والجارية من الدفتر الاول من المثنوي:

 

هرچه گویم عشق را شرح و بیان

چون به عشق آیم خجل باشم از آن

.

چون قلم اندر نوشتن می‌شتافت

چون به عشق آمد قلم بر خود شکافت

.

عقل در شرحش چو خر در گل بخفت

شرح عشق و عاشقی هم عشق گفت

 

حاولت ترجمة تلك الابيات والحفاظ على المعنى المقصود للرومي مع عذوبته، اذ لم يرق لي شيئا من الترجمات على كثرتها:

 

كل قول للعشق بيان

تره خجل عند القرِان

.

قلم كله شوق للمِلاء

يتكسر قِطعا عند اللقاء

.

مثل حمار نايم في وحل

شارح العشق والمعشوق رحل

 

 

وكما يرى المولوي ان لا سنخية بين الحب والمعرفة، ومع الحب لا مدخلية العقل، وكيف يتسنى تعريف العشق الإلهي منطقياً مثلا بكلمات محددة تبعد المشتركات عنه، والعقل هنا على جبروته يصفه مولانا بحمار عالق في الوحل …

وطريق المعرفة الوحيد هو التجربة وليس غير وهي تختلف من تجربة الى اخرى .

يمثل لها الرومي في مكان اخر من المثنوي بالنار المحرقة تلمسها لتتمكن من معرفتها .

الا ان أنها تجربة يعتبرها الرومي حلّال المشكلات اذ مع الحب تتناسى كلما يحيط بك من فوضى، ويعظم الحب في نفسك فيصغر ما دونه .

هنا يحصل الفراق والطلاق ثلاثا بين الرومي وتابعيه من المتصوفة والمتألهين من جهة، وبين المتكلمين والفقهاء وحتى الأخلاقيين من جهة اخرى ..

الأخلاقيون يجعلون الطريقة المثلى للتغلب عل النقص والخلل النفسي هي تشخيص تلك النواقص والاشتغال على تجاوزها ؛ فلو انتابتك حالة من الغضب حري بك ان تبتعد عن مواطن الغضب وأسبابه

لكن الرومي يرى ان خوض تجربة الحب يجعلك تتمركز بالمحبوب ولا تفطن لغيره وبهذا تتجاوز نقاط الضعف ولا تلتف اليها .

من هنا يختلف الرومي وبقية المتصوفة والعارفين ايضا مع الغزالي وبقية الفقهاء والمتكلمين في جعل العلاقة مع الإله علاقة يسودها الحب والتودد ولا مجال للخوف والرجاء في العلاقة الإلهية، حتى العبادات والمحرك الأساس لها قصد القربة من الله لابد من إتيانها بقصد الحب لا خوفاً من العذاب ورجاءاً للثواب، بل انت تتودد لهذا القرب وهو المقصود أعطيت المكافئة من المحبوب ام تعط

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم