صحيفة المثقف

انفاس وطن

عقيل العبودالمساء البارد عاصفته لم تزل تستفز تلك اللحظة من المغامرة، نهاية العام ستشهد عالما جديدا تتبعه أحلام وامنيات، لكنها ليست على نمط أولئك الذين يبحثون عن منتجعات، اوفنادق سياحية على غرار الخمس نجوم، إنما هي انتقالية متعكزة في زمن تملؤه الحواجز، لتعترض طريق من أراد الحياة.

العراق بعد حرب الكويت، مدن يسكن بيوتاتها الخوف، والحزن، والجوع، وتنتهك حقولها الآفات. الحصار أيامه، ما زال يتذكرها، بتلك السيناريوهات؛ النخالة السوداء، وشحة الوقود، ومظاهر الفقر، تلك التي اريد لها ان تمضي املا بإستعادة مخالبها القديمة، هذا ناهيك عن موضوعة الاستدعاءات الأمنية المتعلقة بتفاصيل التحقيقات الخاصة بذوي من يهمهم الأمر في قضية ما تم تسميته بحسب سجلات السلطة (بالغوغاء).

الفرق الحزبية، ومختار المنطقة، تلك الدهاليز هي الأخرى بقيت تمارس سلطتها المخيفة، استئنافا لتلك الطاغوتية، التي بسببها أرغم الآلاف على مفارقة انفاسهم، ليتم دفنهم عاجلاً تحت الأرض عبر تلك الكتل المخيفة، وسرفات الدبابات.

الشفلات انذاك، تلك الآليات التي من خلالها تُختَصَرُ رحلة المئات من المحطات، لِتُزَهَقُ ارواح من وجدوا أنفسهم مكبلين فجأة عبر مسالك تلك الكيانات المحاطة بالأسلاك وأسلحة العسكر، يوم اصوات بعضهم اندلعت، تعبيرا عن لغة استنكار، تم حبسها طوال ازمنة تلازمت مع محطاتها الكوابيس.

انذاك، الهروب منفذ لا تعترضه الحدود، لولا اصحاب (البيريات الحمراء) وتلك السيطرات التي تشبه ثكنات الجيش.

بغداد الطريق الذي منه تمر تلك الحافلات، يومئذ، العابرون ينتظرون اللحظة المؤاتية- طريبيل تحولت مراكزها الى حلم، عبره يصنع الفارون مستقبلهم المجهول.

 لذلك ارض النخيل، الخارطة التي بأنهارها وجبروتها بقيت صابرة كما اعتادت، راحت تودعهم، احبتها، الواحد تلو الآخر.

الأجواء الباردة يومئذٍ رغم لياليها الممطرة، الظلام كأنما راح يتنحى، ينتزع ارديته، تحننا على أولئك الذين قرروا ان يودعوا حقائبهم بحثا عن أمكنة آمنة.

(عَمَّان) الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل تفتح ذراعيها لإستقبال لاجئين بلا أغطية، والوافد اليها أسوة معهم، اولئك الذين ما انفكت حكاياتهم تتعقب أسوار الموت لوطن انتهكت حُرُماته حراب السياسات وأقنعتها المفبركه. 

اللحظة التي بها ابتدأت مفردة الهجرة، المشهد نفسه تلك العلب الدخانية التي كانت بحوزته (الفايسوري) مع أمتعة افترشها على ذلك الرصيف لبيعها، لعل ذلك يساعده بالحصول على سرير يعيد له طاقته بعد سفر، العفش فيه هو الآخر يبحث عن مكان.

الساعة حينئذٍ اوشكت ان تكون السادسة صباحا، والبرد كما بيت تساقطت جدرانه، ليبقى هكذا عاريا عند منتصف الشارع يستقبل الوافدين اليه من جهة البوابة التي عبرها تتدفق تلك الاعداد.

الذخيرة التي كانت معه بحسب اصراره،  يجب ان تساعده للعيش، لإستئناف خطوات وجوده، لذلك في اليوم التالي، كما زبون قديم طلب صحنا من الفول، يتبعه كأسا من الشاي، بينما جيبه لم يكن يتسع الا لذلك المصروف الذي يُمَكِنَّه من تناول المتيسر من العشاء.

 الساعة العاشرة من ليلة باردة كان قد تهيأ لسؤال النادل الذي قدم له الطعام حيث كان من جنسية اخرى عربية، في حينها لم يكن متذمرا كما يبدو، بل كأنه يصرخ سيما وأنه ودع كل شئ ؛ وظيفته، اصحابه، مكتبته، أطفاله الصغار، ودموع امهم ذلك في بيت هو من قام بزراعة نخلته التي بقيت واقفة كأنها تنظر اليه بسعيفاتها المحطمة في انحناءاتها المتشعبة.

 نظراته في يومها بقيت عالقة تنظر الى ذلك الشموخ، لتحتضن في طريقها دموع أمه التي خرجت خلفه لتسكب إناء الماء عقيب خطواته بعد مغادرته المنزل وهي تدعو له.

مدينته انذاك، إرثها كأنه يتحول الى كائن صنمي، الوطن كله في حينها اصبح على شاكلة خارطة ورقية، الذكريات، الماضي كله كان يتدافع بطريقة متزاحمة، المشاهد بضمنها صور المتظاهرين، أولئك الذين تم احتجازهم في مدينة ألعاب الناصرية، تلك التي اطلق عليها ساحة الاحتفالات الكبرى، بعد ان تم تخصيصها للمناسبات الحزبية إبان سيطرة الجيش على المدن لإبادتهم ودفنهم في منطقة تسمى الهولندي ليكون هو ومن معه من الناجين، شاهد عيان لأحداث اول مقبرة جماعية عرفتها تسعينيات القرن المنصرم.  

عراقيته تلك الصورة التي كما يقال في وصفها أيام زمان على انها  تشبه الهرم، انقلبت من مستضيف الى مستضاف، ويكأنها هكذا مثل لعبة المكعبات في وضعها المتداعي.

لذلك على هيئة منكسرة، راح متنهدا (يوم لك ويوم عليك)،  ذلك بعد ان انتابه شعور بالوهن.

لكنه مع تلك التنهدات، أعيد له الأمل ليبقى متمسكا بهيبته خاصة عندما تم تلبية طلبه للعمل، في ذات المطعم ولو بشقاء واجر زهيد.

 

عقيل العبود   

................

* من مذكرات لاجئ عراقي بعد التسعينات: حقائق غير هامشية 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم