صحيفة المثقف

شبحُ إيونا

انمار رحمة اللهسطعت إشارةُ المرور الخضراء، مانحةً الرخصة لمسير رتل من السيارات كان ينتظر دوره للعبور في إحدى تقاطعات المدينة. كانت سيارة أجرة من ضمنهن، صاحبها نظر إلى الزبون الجالس خلفه بمرآة السيارة المتدلية. كان الزبون يرتدي بذلة ويمرر كفه بين الحين والحين على ربطة العنق السوداء، واضعاً حقيبته على فخذيه.  حين لمح الزبونُ عينيّ السائق وهما تنظران إليه مباشرة، ركزَ فيهما لثوان. وحين أراد سائق سيارة الأجرة الكلام سبقه الراكب قائلاً:

- هل هناك شيء عزيزي؟.

تأوه السائقُ وأجاب: لا لا.. أنا أعتذر.. لقد كنت سارحاً فوق إرادتي.

حوّل الزبون نظره صوب النافذة، منشغلاً بمعالم المدينة التي تمرق صورها وشيكة. في الوقت ذاته تكلم السائق:

- مدينة قاسية.. لا يسلم من حيفها أحد.. لقد مكثت في المستشفى مدة طويلة، لست أنا المريض، بل ولدي البكر والوحيد.. لقد توفي قبل أيام.

ظل الزبون يطالع الجانب الأيمن من وجه السائق وهو يتحدث، ثم تمتم  (رحمه الله) وسكت. شكر السائقُ الزبون ثم أكمل الحديث قائلاً:

 - كان يساعدني.. عيناي جفتا من شدة البكاء عليه.. على أية حال هذا هو حال الدنيا.

الزبون كان غارساً عينيه في هاتفه النقال ويتمتم (ايه ايه .. نعم.. لا بأس انزلني عند نهاية الشارع). توقف سائق الأجرة حين طلب منه الزبون ذلك. ظل يراقب الشارع يبحث عن أجرة أخرى. وفي الأثناء ماجت صورة ابنه البكر في مخيلته واستقرت، فرك وجهه ونفخ في كفيه كي لا تتسلل الكآبة إلى قلبه. لوّح للسائق شابٌ وفتاة، ركبا في المقعد الخلفي وراح الشاب يستشير الفتاة:

- ما رأيك بالأثاث.. سيكون منزلنا جميلاً

تجيب الفتاة: (بلا شك..) ثم يبتسمان، كان سائق التاكسي يسرق النظرات عبر مرآته، ثم لم يصبر كثيراً  ودلق سؤاله عند الزبونين (هل أنتما على وشك الزواج؟). أجاب الشاب مبتسماً (نعم) ثم ضحكا وشاطرهما السائق البهجة ثم قال:

- أنصحكما أن تنجبا الكثير من الأطفال، طفل واحد لا ينفع، خسارته ستكون فادحة، بينما إذا كان لديكما طفلان أو ثلاثة، فإذا خسرتما طفلاً - لا سامح الله- ستريان قرة عين في الآخرين.. أنا مثلا.. ابني البكر والوحيد مات قبل أيام.. وكنتُ...

همست الفتاة في إذن خطيبها بصوت خفيض، انتبه سائق السيارة إليهما وابتسم. انتظر السائق كلا الخطيبين حتى ينهيا حديثهما، لكي يكمل حديثه هو أيضاً حول ابنه، لكنهما اقترحا في ما بينهما النزولَ، وبالفعل طلبا منه ركن السيارة عند ناصية الشارع.. لوّحت سيدةٌ معها جوقة أطفال لسائق التاكسي، فتوقف عندها وركبت.. سارت السيارة وكانت تعجُّ بأصوات الأطفال، والمرأة منشغلة بالحديث عبر هاتفها النقال، استمع السائق إلى حديثها الذي وشى بمشكلة ما بينها وبين الطرف الذي تكلمه، ولما أغلقت هاتفها تأففت وزعقت على الأطفال وأمرتهم بالهدوء. باغتها السائق متسائلاً : هؤلاء أطفالك؟. فأجابت: للأسف نعم. حدق السائق في وجهها التي وجهته شطر النافذة، وسألها مرة أخرى: لماذا للأسف..؟ إن الأطفال نعمة سيدتي. تأففت المرأة مرة أخرى وردت عليه: أنت تعرف شيئاً وأنا أعرف شيئاً..  لقد جزعت .. تربية هؤلاء تحتاج إلى عشيرة من النساء لا امرأة واحدة.. ضحك السائق ورد قائلاً: أنا ابني كان أكثر شيطنة منهم،  فقدته قبل أيام.. لقد تمرض ولم أستطع معالجته لأن علاجه كان يتطلب مالاً كثيراً. وحين انزلته في قبره شعرت أنني أنزلت العالم كله معه. احمدي الله سيدتي على نعمة الصحة، فأطفالك - الله يستر عليهم - حلوين وسليمين. حدجته المرأة بنظرة ثم أدارت وجهها صوب النافذة وظلت تراقب الشارع وواجهات المحلات والأسواق وصمتت، بينما ظل سائق الأجرة يتحدث لوحده.

 لم يتأخر سائق الأجرة كثيراً في العثور على زبون جديد، لقد كان الزبون واقفاً على الرصيف بملابس رثة، ولحية بيضاء وشعر كثيف، حتى ظن السائق للمرة الأولى أنه متسول، لولا مخاطبة الرجل للسائق: سيدي أريد الوصول إلى مكان...، فأومأ له سائق سيارة الأجرة بالصعود، ركب الزبون في المقعد الخلفي وظل صامتاً لمدة ثم قال : ايه هل مات أيضاً؟. نبض قلب السائق وقال: من..؟ من الذي مات؟. صمت الزبون ثوان ورد : ابنك البكر.. داس سائق السيارة على المكابح ثم أدار وجهه صوب الرجل، توقع أنه صديق أو قريب منه يدري بحادثة مرض ابنه ووفاته، ولكنه بعد أن أطال التحديق بالرجل تيقن أنه غريب. واندلقت الكلمات من لسانه قائلاً: كيف عرفت أن ابني مات؟ من انت؟. حاول الزبون تهدئة السائق وأشار إليه بمواصلة القيادة كيلا يتأخر عن موعد تال. فصدع السائق لأمر الراكب وواصل السياقة ولكنه لم يكف عن السؤال: قل لي كيف عرفت بالحادثة ومن أنت؟!!. ابتسم الراكب وتمتم بصوت مبحوح لشيخ طاعن في السن: أنا أيضاً ولدي مات، ولكنه مات قبل أكثر من مئة عام. ضحك السائق ورد عليه: قبل مئة عام توفي ومازلت على قيد الحياة؟!. هذا غير معقول، ثم أنك لم تجبني كيف عرفت بخبر موت ولدي؟.. ضحك الراكب وهتف: أنا " إيونا"... الحوذي..

***

- هل سمعت أو قرأت لـ (تشيخوف) ؟

ضحك صاحب التاكسي ورد قائلاً مع بقايا ضحكة خفيفة عالقة في جملته:

- لا والله مع الأسف.. هل يقرب لك أم ماذا ؟

تنهد إيونا قائلاً:

- تشيخوف هذا من أوجدني، منذ أكثر من مئة عام وأنا عالق في هذا العالم، أندب حظي وحظ ابني الذي مات من المرض من دون أن أستطيع مساعدته.

توقف سائق التاكسي والتفت إلى إيونا وكان صوته حازماً:

- أنا منذ البداية توقعت أنك مجنون.. وإلا لماذا هذه اللحية والسحنة المغبرة والملابس الرثة؟

- كل هذا بسبب فقدي لولدي

- ماذا تقول؟ أنت تتكلم بعبارات لا أفهمها ، ولدك الذي مات وتشيخوف، واسمك إيونا.. بالله عليك هل يوجد شخص في الأنحاء هذه يطلقون عليه اسماً مثل هذا الاسم؟!.

ضحك إيونا ورد على سائق التاكسي بعد أن أسند رأسه على تكية الكرسي:

- أنا لست من هذه الأنحاء، بل من بلد بعيد، كتب عني قصة رجل طبيب ترك مهنة الطب وصار قاصاً يُدعى تشيخوف، ومنذ ذلك الحين وإلى الآن أنا روح هائمة وشبح يزور كل والد منكوب بفقد ولده، أواسيك إن رغبت يا أخي؟. هل لديك زوجة تسكن معها؟.

تنهد سائق التاكسي وقال بحزم :

- لا.. زوجتي توفيت أيضاً وتركت لي ولدي، والآن انا أعيش بمفردي بعد رحيله.. ثم أنني لا أريد مواساتك ولا أريد سماع المزيد عنك.. ترجل عن سياراتي مصحوباً بالسلامة وحتى الأجرة لن أطالبك بها.

- لكنني مخلوق من أجلك.. أنا هنا ملاكك الذي سيستمع إلى شكواك حول فقدك لأبنك

أصر سائق التاكسي على موقفه قائلاً:

- أنت أيها المجنون الهائم في الشوارع تواسيني بفقد ولدي؟.

- نعم .. على الأقل سأستمع لك.. أنا مثلاً حين جبتُ بعربتي وحصاني مع زبائن متخمين بالخشونة والفضاضة ، شكوت حالي لاحقاً للحصان.. وقد سمعني للنهاية، وما لم يقله تشيخوف في قصته سأقوله أنا.. لقد بكى حصاني على حالي.. نعم بكى ورفع حافره ووضعه على كتفي مواسياً. ولكنك إيها المسكين من سيستمع إلى شكواك الآن غيري؟.  ليس لديك حصان وفيّ كحصاني يارجل. لا تملك سوى هذه الماكنة المعدنية ذات العجلات والبراغي والصفيح الصلد؟!.

ضحك سائق التاكسي قائلاً:

- هل كنت حوذياً؟. حصان وعربة وما شابه؟!.

- نعم.. مهنتي قديماً شبيهة بمهنتك

ضحك صاحب التاكسي وإيونا يطالعه وهو يضحك حتى أنتهى ثم هتف السائق قائلاً:

- الآن يجب عليك النزول من سيارتي أيها الحوذي، فقد سمعت من الهراء ما يكفي

تمتم إيونا بضيق :

- إنه أمر محزن ومفجع .. سامحك الله ياتشيخوف

- لماذا (قال صاحب التاكسي ضاحكاً)

- لأنني لم أنجح في الشكوى ولم أنجح أيضاً في الاستماع لمن يشكو .. إنها لعنة .. لعنة كبيرة أن تعيش في مثل هذه العالم.. البقاء على قيد الحياة مع بشر قساة أو يمثلون القسوة فهو محنة..

 في تلك اللحظة ودع إيونا السائقَ، ثم أنزل شباك السيارة وتحول إلى بخار تسرب من فتحة النافذة، أمام استغراب ودهشة السائق الذي ظل يفرك عينيه ويطالع المنظر. توقف طويلاً صاحب السيارة، وقرر العودة إلى المنزل متمتماً (إنه وهم.. العمل والتعب صارا يؤثران على عيني وبدأ يتهيأ لي.. لعل فقدي لولدي هو السبب.. نعم بلا شك.. إنها كما يقال صدمة .. أنا مصدوم وبحاجة إلى راحة). حين عاد السائق إلى منزله، لم يفارق شكل وصوت إيونا ذهنه ثانية واحدة. مباشرة ذهب إلى النت، أخرج هاتفه النقال وكتب في محرك البحث كلمات (تشيخوف - إيونا - الحوذي)، وفوراً ظهرت له قصة قصيرة تحت عنوان " الشقاء". قرأها، ولما أنهى السائق القصة، شعر بنوع من الكآبة وضيق في الصدر. نهض.. فتح باب المنزل الصغير خارجاً نحو الشارع حيث ركن سيارته، وقف عندها ثم وضع يده على مقدمتها(البنيد).. كانت السيارة قابعة وبدنها المعدني جامداً من البرد في تلك الليلة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم