صحيفة المثقف

رجال الدفاع المدني الشعبي في سوريا

محمد العباسيمنذ إنطلاقة حركات الربيع العربي الذي لا يمت للربيع بشيء لا من قريب ولا من بعيد.. وهنالك حالات من من البؤس والخراب تطل علينا عبر الشاشات والأخبار.. بدءاً من الوضع في ليبيا واليمن وسوريا.. وأضم معها الوضع في العراق على يد الدواعش من ناحية والمجازر الطائفية التي لا يتوانى عنها الحشود الشعبية ضد أهل العراق من السنة من ناحية أخرى.  فمنذ 2011 وقنواتي التلفزيونية "متسمرة" على المحطات الإخبارية.. وكل يوم أطمع في سماع أخبار عن إيجاد الحلول وإنتهاء الصراعات وتوقف المجازر.. لكنها ذات الأخبار وذات العذابات تتكرر كل يوم!

مشاهد القتل والدمار هي جل المشاهد.. جثث الأطفال تحت الركام.. بيوت تتساقط على العوائل.. براميل متفجرة وأحياناً حتى الألغام البحرية الصدأة تنهمر على رؤوس البشر من السماء.. صواريخ ارض-أرض وقذائف وقنابل عنقودية وفراغية وطائرات حربية تقصف بلا هوادة.. صور شتى لكافة فنون القتل وكأنما البشر مجرد حشرات زاحفة على الأرض لا حقوق لها في الحياة.. ومن بين كل المواقع والحروب الدائرة أقف مذهولاً مما يحدث في سوريا بالذات.. فالجيش "العربي" السورى (أو لنقل ما تبقى منه) يقصف أهل سوريا دون وازع من ضمير.. والقصف يطال كل شيء وأي شيء على الأرض، ولا يفرق بين البيوت والمستشفيات والمزارع والأسواق طالما يقطنها بشر ويتحرك في طرقاتها الأطفال والنساء والشيوخ.. بل وحتى الحيوانات!

في كل قرية ومدينة يتم قصفها وأريافها نجد مجموعات من المتطوعين يحفرون بأيديهم العارية بين الصخور والطوب بحثاً عن الضحايا، الأحياء منهم والأموات.. إنهم رجال الدفاع المدني الشعبي السوري.. فبعد كل عملية قصف على الدور والمستشفيات يتراكض هؤلاء الأبطال بلا هوادة للتنقيب عن الضحايا بين الركام والغبار والأتربة، لعلهم يجدون من يتنفس بين الحجارة والأسياخ وكتل الإسمنت التى تطمر عوائل بأكملها.. لعلهم بين العشرات ممن قضوا يجدون قلباً لا يزال ينبض بين الركام.. ومعها تتعالى نداءات "الله أكبر".. فيستخرجون من بين الحطام أطفالاً تهشمت أضلاعهم الغضة ونساء تقطعت أوصالهن وشيوخ تلاشت ملامحهم.. وأحياناً لا يجدون سوى أوصال وبقايا جثث وأحشاء دامية ملطخة بالتراب والأوحال.. مناظر تقشعر لها الأبدان.. ولن يتحمل مشاهدتها أقوانا عزيمة وأشدنا بأساً.

هؤلاء هم بحق الشجعان ممن وهبوا حياتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بين براثن الموت وجنون المعارك.. هؤلاء هم بحق الملائكة.. ففرق الدفاع المدني التي تعمل في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة في سوريا تعمل بمنهجيةٍ مختلفة عن الفرق الأخرى (النظامية) وتقاليدها في دول الجوار والعالم، والتي يعمل أغلبها في ظروفٍ طبيعيةٍ ويستجيب للكوارث فور وقوعها..  ففي سوريا ومنذ الأيام الأولى من ثورتها الشعبية ضد النظام فإن حالة فقدان الأمن هي الصفة الملازمة للعمل هناك، فكثيراً ما تسقط قذائف النظام وبراميله أثناء قيام رجال الدفاع المدني بانتشال جثث الضحايا الأبرياء، ليسقطوا هم أيضاً قتلى فوق جثث من يحاولون أن ينقذونهم.. فهؤلاء المتطوعين هم رجال وشباب تخلوا عن وظائفهم وجامعاتهم وانخرطوا في هذا المجال القاسي لعلهم يقدمون قليلٌ من العطاء لوطنهم، دون أية أطماع في مكاسب مادية أو شخصية، ولا تغطيهم تأمينات صحية ولا حتى يتقاضون الرواتب في أغلب الحالات.. جل همهم أن يكون لهم دور في الحياة بين براثن الموت المحيطة بهم.

رجال الدفاع المدني الشعبي في سوريا هم الجنود الحقيقيون على الأرض.. فهم يعملون في أخطر مكان في العالم..  فإلى اليوم تعتبر البراميل أعظم قاتل للمدنيين في سوريا.. عادة تكون عبارة عن براميل قديمة وصدئة محشوة بالمتفجرات، المسامير، الزجاج، شظايا القنابل وفي بعض الأحيان حتى رؤوس الفؤوس أو المواد الكيماوية مثل غاز الكلور وغيرها من السموم.. وتأتي البراميل بأشكال متعددة، باستطاعة أكبرها والذي قد يزن 500 كغ أن يدمر منطقة يبلغ حجمها مساحة عشرة أبنية.. وعادة يتم إسقاط هذه البراميل من هيلوكوبترات من علو أربعة أميال دون تركيز أو هدف محدد، لتصيب بشكل عشوائي المدن والقرى دون أدنى مبالاة لمن تسقط على رؤوسهم.. بل يقول السيد "دندر ساهين" مدير معهد أكوت للتدريب والأبحاث : "حتى تستطيع فهم الضرر والتهديد والدمار الذي تخلفه الكارثة بدقة في سوريا.. إنهم يعانون ما يعادل زلزال بقوة 7.6 يحدث خمسين مرة في اليوم".

تخيلوا معي أيها الأعزاء تحت أية ظروف يعمل هؤلاء.. فوالله كل واحد فيهم يستحق عن جدارة جائزة "نوبل" للسلام.. فهؤلاء الأبطال هم أحوج الناس للدعم والسند والتدريب والإعداد والتشجيع.. بل هم بحاجة ماسة لجلسات علاج نفسي تعينهم على تحمل ما لا طاقة للبشر العاديين منا التعامل معه كل يوم من أهوال ومناظر مرعبة.. هؤلاء هم بحق الجنود المنسيون الذين يضحون بالغالي والنفيس من أجل الآخرين.. فمع بداية حملة البراميل المتفجّرة في نهاية 2013 وهم يعيشون الموت في كل لحظة.. حيث يبدأ القصف منذ الساعات الأولى في الصباح وقد يستمر حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل.. ومعها يعايشون وجوه أهالي المدينة الضحية حيث تمتزج فيها جميع ألوان الطيف من الخوف والهلع والأسى والترقب لمزيد من الدمار.. وهم مستمرون ولا يتوانون عن العمل بكل إخلاص، وإن كانت عمليات القصف قد خفّت في السنة الأخيرة لكنها لم تنتهي بعد.. وعزائهم في كل ذلك أن يجدوا بين الأنقاض بعض الأحياء.. أو أشباه الأحياء.. أو أمواتاً يتسنى لذويهم الصلاة عليهم وإكرامهم بسرعة دفنهم ببعض الوقار.. قبل أن تنهمر عليهم المزيد من صنوف أسلحة الدمار!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم