صحيفة المثقف

السفير البريطاني والرئيس الأمريكي

كاظم الموسويتسريب الرسائل المرسلة من السفير البريطاني في واشنطن كيم داروك (Kim Darroch) إلى مرؤوسيه في لندن لم يكن سبقا إعلاميا فقط ورد فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عليها بتغريداته الفاضحة، تضيف اليها، وتكشف ما وراء الاكمة. اذ أن الرسائل ليست كلمات عابرة أو تقييمات آنية وليست توصيف حال وحسب وانما اعتبرت تقريرا أو تقديرا رسميا نقل وقائع رآها السفير المخضرم وعاشها وعبر عنها من خلال تجربة وخبرة دبلوماسية ليست قليلة. والقصة بتفاصيلها. تسرد خلفيات أخرى وتثير تداعيات تدور في فلك العلاقات بين العاصمتين، لندن وواشنطن، وبين الادارتين المتشابهتين، توجهات وسياسات وتفاهمات وحتى ايديولوجيات. فما حصل لم يكن تسريبات وتغريدات وفضائحا أعلامية وسياسية وانتهى الامر، وانما عكس ايضا تناقض العلاقات واساليب التخادم البيني، بين الدولتين، والمصالح العامة بينهما غير الاستراتيجية الخاصة.

كتب السفير البريطاني في واشنطن في رسائله ومذكراته، التي سربت ونشرتها صحيفة "ميل أون صنداي" البريطانية (2019/7/6) واصفا الرئيس الأميركي، على نحو شديد الصراحة، بأنه "يفتقر إلى الكفاءة"، وإنه "شخص غير مستقر". وإنّ "رئاسة ترامب قد تتحطّم وتحترق وتنتهي بوصمة عار". الرسائل كثيرة يعود بعضها إلى العام 2017. وجاء في إحداها: "لا نعتقد حقا أنّ هذه الإدارة ستصبح طبيعية أكثر، وأقلّ اختلالاً، وأقلّ مزاجية، وأقل تشظيا، وأقل طيشا وحماقة وانعداما للكفاءة من الناحية الدبلوماسية".

في مقابلها، ومنذ نشرها، غرّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تويتر (9/2019/7)، واصفا السفير البريطاني في واشنطن كيم داروك بأنه "شخص غبي جدا"، وعلى اثرها تاثرت العلاقات بين الولايات المتحدة وبريطانيا وشهدت توترا، لاسيما بعد وصف الإدارة الأمريكية بأنها "خرقاء وعديمة الكفاءة، ولا تؤدي واجباتها كما ينبغي". وأعلن ترامب قبل ذلك أن الولايات المتحدة "لن تجري بعد الآن اتصالات مع السفير"، وإنه يدعو الحكومة البريطانية الجديدة إلى تغييره. وبعد أن أكد أنه لا يعرف داروك، قال ترامب إنه سمع بأنه "أحمق ومغرور"!.

كما هاجم الرئيس ترامب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي كذلك، في وقت بدت فيه لندن محرجة، و«أبدت أسفها لتسريب مذكرات سرية». لكن ماي سارعت إلى التعبير عن دعمها لسفيرها أمام تغريدات ترامب، وقال متحدّث باسم الحكومة إنّ «السير كيم داروك لا يزال يحظى بدعم رئيسة الوزراء الكامل»، وهو ما دفع ترامب للهجوم عليها مُجدداً الانتقادات التي وجهها إليها في الماضي بشأن تعاملها مع قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقال ترامب: «يا لها من فوضى تسبّبت فيها هي ونوابها، قلت لها ما الذي يجب أن تفعله، لكنها قررت سلوك الطريق الآخر.. وقامت بذلك على طريقتها السخيفة. إنها كارثة!».

أمام هذا الوضع استقال الدبلوماسي البريطاني وكتب في رسالة استقالته التي وجّهها إلى رئيس السلك الدبلوماسي البريطاني سيمون مكدونالد: “أعتقد أنه في الظروف الراهنة، المسار الواجب اتباعه هو إفساح المجال أمام تعيين سفير جديد”. وأوضح داروك أنه “منذ تسريب الوثائق الرسمية الصادرة عن هذه السفارة، أطلقت تكهنات حول منصبي ومدة ولايتي كسفير”، موضحا أن “الوضع الحالي يجعل من المتعذر بالنسبة لي ان أواصل القيام بواجبي كما أرغب”.

وأعربت ماي عن أسفها لاستقالة داروك. وأعلنت في مجلس العموم “من المؤسف جدا أنه اعتبر أن الضرورة تقتضي أن يغادر منصبه كسفير في واشنطن”. وأضافت ان “الحكومة الجيدة تعتمد على قدرة موظفيها على تقديم النصائح الصريحة والكاملة. أريد أن يتمتّع كافة موظفينا بالثقة اللازمة للقيام بذلك”. وهذا كلام واضح أو رد موجه. بدوره أعرب جيريمي كوربن زعيم حزب العمال المعارض عن “أسفه لاستقالة كيم داروك"  وقال “أعتقد أنه قدّم أداء مشرفا ونوعيا يستحق أن يشكر عليه”.

يعد داروك البالغ 65 عاما من الدبلوماسيين الأكثر خبرة، وقد عمل 42 عاما في السلك الدبلوماسي. وكان قد تولّى منصب سفير بريطانيا إلى واشنطن في كانون الثاني/يناير 2016 قبل فوز ترامب بالرئاسة. وشغل سابقا منصب الممثل الدائم للملكة المتحدة في بروكسل من عام 2007 وحتى العام 2011، ويعتبر من المؤيدين للاتحاد الأوروبي وضد البريكست.

فتحت الحكومة البريطانية، كعادتها الروتينية، تحقيقا لكشف المسؤولين عن التسريب والنشر للمراسلات السرية في صحيفة “ميل أون صنداي”، وتنوي ملاحقتهم قضائيا. كما وعدت بالتحقيق في ملابسات ما جرى، ووصفت الخارجية البريطانية تسريب المذكرات الدبلوماسية بأنه "تصرف مُضر"، لكنها، بالمقابل، لم تنف صحة الوثائق المسربة، بل إن المسؤولين البريطانيين الذين علقوا على الموضوع أبدوا تعاطفاً مع سفيرهم في واشنطن، رغم انتقادهم لتسريب المذكرات، حيث نسب إلى ديفيد غوك، وزير العدل البريطاني، قوله إنه من المهم أن يقدم السفراء نصائح أمينة وصريحة لبلادهم، و"يجب أن نتوقع من سفرائنا قول الحقيقة، كما يرونها". مثله تحدث متحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية إن الناس يتوقعون من الدبلوماسيين أن يوفروا للوزراء "تقييما صادقا وصريحا" للأوضاع السياسية في البلاد التي يعملون فيها، ولا يعني ذلك بالضرورة أن يتبنى الوزراء أو الحكومات وجهات النظر هذه، لكننا ندفع لهم ليقولوا الحقيقة. حتى رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، أكدت أن لديها "ثقة تامة" بسفير بلادها. بمعنى أن ما جرى بعد التسريب أكد على التسريب وضرره فقط وليس على محتواه ومضمونه ومصداقية السفير فيه، في وصف الرئيس الأمريكي وإدارته وتناقضات سياساته وانتقادها. وهذا أمر ملفت وبيان كاشف للصراعات والتناقضات والتنافس، وما يجري خلف الواجهات والتعاملات والظاهرات.

أعلان راي السفير في الإدارة الأمريكية ورئيسها له أهميته البارزة في فهم ما وصلت إليه الإدارة والرئيس الأمريكي، ويعكس بشكل أو بآخر مواقفا أو اراءا بريطانية معبرة شعبيا وبعض الأوساط الرسمية، وكانت قد توضحت في رفض إستقبال الرئيس الأمريكي اثناء زيارته لندن أو قبلها، والاحتجاج على الكثير من تغريداته حول الأوضاع البريطانية أو بعض المسؤولين البريطانيين، فضلا عن قضايا أخرى.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم