صحيفة المثقف

القلب يعشق كل جميل

احمد الكنانيصاحب هذه القصيدة يمتلك من القدرة الشعرية ما يمكّنه من تطويع المفاهيم العميقة الخاصة بالسالكين الخلُص وتعبيدها حتى لعابري السبيل مهما كانت وجهتهم ..

اختياره للهجة الدارجة لتمرير أفكاره الى عموم الناس ليس قصوراً منه في استخدام الفصحى، هو يرى ان الشعر ليس حكراً على طبقة النبلاء، والأفكار بعمومها بحاجة الى إنزالها الى ادنى مستوياتها لترتفع بالناس الى اعلى المستويات، وليس العكس ..

كنت اشعر بالغرابة الممتزجة بالأسى لما ينشر في الفضاء الإلكتروني من مقالات وقصائد شعر وڤيديوهات تثير غبار الماضي السحيق، وكلام عن عقائد او ما صّيروه عقائد كان يلقّن بها ابناء ذاك الزمان تتناسب مع السذاجة التي يتحلون بها، كلام عن ولايات تكوينية وأخرى تشريعية، ولاية أناس بعضهم على بعض مستمدة من ولاية الإله .. كل ذلك ارضاء لعامة الناس والنزول عند رغباتهم، بدلا من النهوض والارتقاء بها الى ابعد حدود الطموحات، وعند السؤال عن جدوى تلك الأبحاث والأدب المؤجج والمستفز، يجاب: بان الناس ترغب بذلك  وتستمتع بها اكثر من اي شيء اخر .

محمود بيرم التونسي ومن خلال نتاجه الشعري كان يحمل هموم التثقيف الجماهيري والارتقاء به عن طريق الزجل الممتزج بالفكاهة احيانا الى حالة الثقافة العامة والوعي العام ؛ اذ لا طبقية في أدب بيرم، بأن تكون هناك طبقة مثقفة يتعامل معها على أساس من الثورية الرائجة تلك الايام، وطبقة اخرى هي عموم الشعب وهؤلاء لا يستحقون الكثير من العناء، فالتغيير ان هو حاصل فعلى عاتق المثقفين دون سواهم،هذه المفردة لا وجود لها في قاموس التونسي …

بعض من شعره يحمل افكار صوفية عميقة المغزى، تصب في ذاك الاتجاه الذي اختطه لنفسه ؛ من اشراك الناس كل الناس في التشبّع من تلك المفاهيم،  وقصيدته القلب يعشق كل جميل مثالها البارز .

مطلع القصيدة يقول:

واللي صدق فى الحب قليل

وان دام يدوم يوم ولا يومين

.

واللي هويته اليوم 

دايم وصاله دوم

.

لا يعاتب اللى يتوب

ولا فى طبعه اللوم

.

واحد مافيش غيره

 ملا الوجود نوره

.

دعاني لبّيته    

لحد باب بيته

.

 واما تجلى لي

بالدمع ناجيته …

هناك تداع للمعاني حصل لي مع هذه القصيدة مثير للاستغراب جعلني اقرأ واستمع لمعظم ما نظمه بيرم من شعر لعلّي اهتدى الى أسباب ذلك التداعي .

 حصل ذلك في طريق عودتي الى المنزل ليلا وفي السيارة اعتدت سماع الموسيقى الصوفية او ام كلثوم احيانا .. وفي لحظة سماعي لأم كلثوم وهي تنشد القلب يعشق كل جميل تبادر الى ذهني ابيات جلال الدين الرومي وبذات المضمون ايضا .. وكنت احسبها من مختصات هو  ..

 فهل هي مشتركات فكرية

ام سرقات شعرية

ام ماذا !!

ابيات مولانا جلال الدين من نوع الشعر القصصي الطويل المتضمن لمقاطع وفصول .. في خاتمتها يقول الرومي:

این جهان کوهست و فعل ما ندا

             سوی ما آید نداها را صدا

ترجمة تلك الابيات الغزيرة بأفكارها الوجيزة بألفاظها  كالاتي :

هذا العالم كجبل وأفعالنا فيه نداء

                 نداؤنا راجع إلينا كالصَدى

هذا هو الإنسان المعنوي  الذي يمثله مولانا جلال الدين ونظرته المتوازنة الى الكون أخذاً وعطاءاً، فبقدر ما تعطي في هذا العالم بقدره ما يرجع إليك؛ ان شر فشر وان خير فخير، هو اشبه بالصدى المتردد بين ارجاء الجبل …

 وهذه اشبه بالقواعد الأخلاقية غير المنضبطة بقوانين الطبيعة والفيزياء لكنها احساس نشعر به، كما في قول القائل: " من طرق باب الناس طُرق بابه "

ثم يبدأ مولانا في تعريف الحب الحقيقي ويوصي بالعشق الدائم، بل ان مقولة الحب لا تصدق الا على بقاء الحب ودوامه ؛ لانه حبل عقدته إلهية لا تنفك أبداً، في قبال الحب المؤقت الذي يدوم يوماً او يومين ذلك الذي يعتريه التغيّر والتّبدل بحسب الظروف والأحوال وهو ما يطلق عليه مولانا تسمية  حب الموتى الذي لا أمل فيه ولا رجاء، والعشق الباقي هو عشق الحي الذي لا يموت، وهو الشراب الذي أرتوى من رحيقه الأنبياء:

زانک عشق مردگان پاینده نیست

         زانک مرده سوی ما آینده نیست

عشق زنده در روان و در بصر

            هر دمی باشد ز غنچه تازه تر

عشق آن زنده گزین کو باقیست

          کز شراب جان‌فزایت ساقیست

عشق آن بگزین که جمله انبیا

الى اخر الابيات …..

احسب ان هناك تقاربا في المعنى بين ابيات الرومي وما كتبه بيرم التونسي،  ولا أدّعي السرقات الشعرية، رغم انه واقع في مخالبها في قضية الاتهام الصادرة من زكريا احمد وهي احد أسباب القطيعة بينهما ..

اذا لم اجد اي علاقة بين بيرم والأدب الفارسي سوى صورة له على غلاف احد دواوينه نقشت على يده علامة الأسد والشمس (شير وخورشيد) وهي شعار الإمبراطورية الفارسية المتوسطة للعلم الإيراني في ازمنة الشاهات ..

لا يوجد عندي ما أدافع به عن الرومي لعدم كفاية الأدلة .

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم