صحيفة المثقف

شوبنهاور وعقدة الأم

علي محمد اليوسفتعريف اولي: ربما يحمل عنوان المقالة تحاملا على فيلسوف كبير ذائع الصيت مثل شوبنهاور.. ومصادرة آرائه الفلسفية العبقرية التي لا أجد فيها تلك العبقرية التي تجانس وتوافق الترويج الكبيرلها، وأستطيع القول أن لشوبنهور شذرات وآراء فلسفية أكثر رصانة ومقبولية الاشادة بها موزّعة في مؤلفات أخرى له غير كتابه المرجع الشهير (الحياة أرادة وتمّثل) الذي نعتمده في هذه المقالة، وأتوقع يشاطرني القاريء الرأي مع ما أذهب له، بعد عرضي أنشائيات شوبنهاور في هذه المقالة حول مفهومه الفلسفي عن العبقري، التي أراد تسويقها بأسم التفلسف في كتابه المشار له..

ولم أجد في آراء شوبنهاور ذلك العمق الفلسفي في طرح أفكاره أو محاولته وضع تفسيرات مضافة لم يسبقه اليها أحد كتجديد يحسب له، في كتابه الأهم الوحيد والمرجع لفلسفة شوبنهاور (الحياة أرادة وتمّثل) الذي أستمات شوبنهاورفيه تسويق نفسه عبقريا في كبرياء دعيّة أنحدرت به الى سلوك عدائي مفضوح ومخجل مع هيجل، بما لا يليق برجل فكر يدّعي التفلسف، في تصنيعه معركة معاداة غير متكافئة مع هيجل ليفشل فشلا ذريعا، وخسارته فيها قبل أن تبدأ، وينسحب الى عزلة فرضها على نفسه متبجّحا بعبقرية ينسبها لنفسه في مجتمع لا يفهم العباقرة على حد أدعائه المقتبس عن غيره في كلمة حق يراد بها باطل كما في مقولة الامام علي بن ابي طالب في ردّه على خوارج زمانه..

عقدة شوبنهاور مع أمّه

فلسفة شوبنهاور في كتابه الذي أشرنا له وهو عماد شهرته به في وقت متأخر بعد صدوره البائس في طبعته الاولى وفشله الذريع بأعتراف شوبنهاور نفسه، حيث قوبل الكتاب بمقاطعة وأستهانة وتنّدر من النخب الفكرية في المانيا عصر ذاك لما أتسم به الكتاب من مضمون أنشائي سطحي أخذ لاحقا أكثر مما يستحق في رد الاعتبار له قبل وفاة مؤلفه.. معظم صفحات الكتاب التي نعرض بعضها في هذه المقالة هي تدبيج سطحي لكاتب وجدته أمّه كاتبا فاشلا أراد أن يفرض نفسه فيلسوفا أمام أمّه من غير كفاءة ولا أهلية كما سيتضّح معنا، في تلبّسه جنون العظمة الفارغة أنه سيثبت لأمّه وحيد زمانه ويجعلها تندم على أنكارها عبقريته.. عقدة شعور شوبنهاور بالنقص مصدرها أمه الروائية المرموقة، والتي كانت مغرمة بالاختلاط مع النخب الثقافية والادبية، أضافة الى تمتعها بشخصية قوية صلبة على مستوى ممارسة حياتها بما ترغبه وتريد حتى على صعيد الحرية والاستقلالية الجنسية وغيرها من صفات تمتلكها ولا يجاريها فيها الابن، جعلته يعيش أحساسا بالنقص والدونية أمامها، وعدم أستطاعته فرض وصايته عليها ليس في صيانته الشرف الرفيع من الاذى في منعه الحرية والاستقلالية الجنسية لأمه في معاشرة من ترغب وتريد، وأنما في غيرته الشديدة من أمّه الروائية الناجحة على صعيد الابداع الفكري وقوة شخصيتها في عدم رغبتها الانصياع لابنها يرسم لها حياتها بعد وفاة زوجها والد شوبنهور.. ليكون الفراق بينهما قطعيا لمدة اربعة وثلاثين عاما أنتهت بوفاة شوبنهاور وحيدا  بجوار كلبه في أحد الفنادق المقيم دائميا فيه...

صورة الام في كره شوبنهاور للمرأة

نجد في هجوم شوبنهاور على المرأة أسقاطا لاشعوريا في صورة حقده على أمه الذي يعتمل في دواخل نفسيته المريضة ردا على وصف أمّه له أنه فاشل متهّور، ليثأرلكرامته من أمّه في وصف نفسه بالعبقري أمام المرأة – والدته -  التي يكون الجنس عندها هو محرك وجودها الهامشي بالحياة على حد تعبيره الفلسفي في حين تكون حياة العبقري ويقصد نفسه مليئة بالابداع المثمر على صعيد الفكر تحديدا.. وفي هذا نلمس مقارنته لوالدته الروائية المعروفة، في مقابل الابن الخالي الوفاض من أية دالة أبداعية ثقافية يباهي ويجاري بها والدته أو يتفوق عليها قبل تسويق كتابه وردّ ألاعتبار له بعدما صار كتابه لدى النخبة الثقافية مادة للسخرية في باديء الأمر كما ذكرنا سابقا ..

يلاحظ من خلال أفكار شوبنهور المتناثرة في كتابه عن الحياة أرادة وتمّثل تداعيات اللاشعورالنفسي القهري الكبتي عنده على شكل أفكار استعراضية متشنّجة يتوخى فيها حكمة الفيلسوف في وصف نفسه بالعبقري الذي هجرته أمّه الروائية الفاشلة، في تعمية بائسة عدوانية وأسقاط قهري في الرد على فشله من خلال أبتداعه مناظرة من جانب واحد يمّثلها هو وحده يكون فيها القاضي الذي يصدر أحكامه بحرية تامة بحق والدته المتهمة أمامه التي تفتقد من يمّثلها في الدفاع عن نفسها، التي لم تعره أهتمامها طيلة أكثر من ثلاثين عاما مدة هجرها القطعي له، فالمرأة عنده هي رمز ألأم المعادي لها، وتمّثل حسب رأيه التناسل الذي هو أنحطاط في أخضاعه العقل لأرادة الحياة عند المرأة الذي يأنفه العبقري ويتمرد عليه ويرفضه، فهو سمة وضيعة لا تتناسب وحياة العبقري ورسالته بالحياة في فلسفة شوبنهور..

كان شوبنهاور في حقيقة دواخله يعيش آلامه النفسية القهرية في فرض وتغليب ألأم والدته رأيها وأرادتها عليه قسرا في أختيارها الحياة التي ترغبها من خلال الانفلات المتحرر من ضوابط منع وفيتو الابن شوبنهور في تحقيق رغائبها من ضمنها حقّها  أشباع غريزة الجنس كما يفعل الرجال بحرية بعد وفاة زوجها.. فهو يرجّح أن يكون هناك أحتمال أمتلاك  بعض النساء – يقصد أمّه لا غيرها من النساء -  موهبة عظيمة لكنها لا تتمكن مجاراته في العبقرية.. ويصف عقدة العداوة بين العبقري والمرأة في أسقاطه عقدته المستمّدة من تجربته مع أمّه التي رأت فيه أفلاسه الفكري رغم تبجحه الفارغ قوله (العداوة بين العبقري والمرأة،، أنها لا تبلغ المرأة الموهوبة بالذات – يقصد أمّه الروائية – مرتبة العبقرية الخاصة به هو – لأن النساء ذاتيات ينظرن الى تحقيق مصالحهن الشخصية فقط، أما العبقرية فهي النظرة اللاشخصية السامية المجرّدة من المصلحة الشخصية تماما)1. من الملاحظ بوضوح غيرة شوبنهاورالقاتلة وغيظه الشديد من أمّه التي حققت لمدة أكثر من ثلاثين عاما على أنفصالها عنه وهجرها له، النجاح الروائي من جهة، والاستقلالية في الحياة كما ترغب أن تعيشها هي وليس كما أراد أبنها فرضها عليها وفشل..

ويمضي شوبنهور في مواعظه الانشائية (العبقرية هي القوة التي يتمكن منها الفرد من نبذ مصالحه الشخصية ورغباته وأغراضها وأبعادها تماما عن بصره، والقوة التي يستطيع بها أنكارشخصيته أنكارا تاما مدة من الوقت ليبقى العبقري معرفة خالصة وبصيرة واضحة بالعالم) 2،.. هل هذه معايير العبقرية على لسان فيلسوف لم يسبقه بها غيره بأفضل منها في التعبير اللغوي والفلسفة؟؟، أم هي تداعيات نفسية مكبوتة في لاشعور أنسان مريض لا يجد الكلمات التي تعيد له أعتباره في حكم أمّه عليه أنه فاشل لا يمتلك موهبة عبقرية كما يتوّهم..

وسّر العبقرية كما يرى فيلسوفنا شوبنهور(يكمن في أدراك العبقري الحقيقة الموضوعية والجوهرية العامة أدراكا واضحا وعادلا)3 ولتبرير مأزقه النفسي، يذهب الى أن الافكار الذاتية والشخصية في العبقري، تجعله غريبا في هذا العالم الذي تسوده المنافع والمصالح الذاتية والرغبات الانانية والدوافع الشخصية، لذلك نجد العبقري والكلام لشوبنهاور يمتد بصره الى الامور البعيدة ورؤيته لها، ولا يلتفت الى الاشياء القريبة فلا يراها......

هل هذه أفكار فيلسوف تعدّى مرحلة الدراسة الثانوية، ولم يسبقه أحد بها؟؟ العبارات العبقرية لشوبنهور هذه كانت أشبعت من التناول والتداول على صعيدي الادب وعلم النفس قبل الفلسفة بقرون طويلة عديدة على تضمين شوبنهاور لها وتسويقها في كتابه الفلسفي...

ويمضي شوبنهور في كتابة خواطره ووصفه العبقري في معركته العدائية مع أمّه (العبقري هو ذلك الشخص الشاذ شارد الذهن، وقد يتجه ببصره الى السماء يتأمل النجوم، فيقع في حفرة أثناء سيره وأنشغاله بالتفكير، وهذا السبب في أنزوائه وأعتزاله الناس) 4، هل هذه فلسفة ونحن لا نقر بعبقريتها أم هي هذاءات من يضحك العالم بها عليه وهو لا يعلم في حمى وصف عبقريته في سقوطه بالحفر وتحديقه المتأمل بالسماء...

ونمضي مع شوبنهاور في أسقاطه حالته النفسية المريضة على رغبته التفلسف بلا رأسمال معرفي فلسفي يعتمده في تغطية وتسويق أفكاره الانشائية السطحية الفارغة قائلا (العبقري مشغول عن الناس بالتفكير في أصل الاشياء المؤقتة الخاصة السريعة ..فليس بين عقله وعقلهم صلة مشتركة ولن يتقابلا أبدا،- واضح هنا علاقة مقارنته عبقريته مع أمّه -  والعبقري له ما يعوّضه عن هذا الانطواء على ذاته ووحدته وعزلته – يخاطب في تعمية أسقاطية أمّه في تقريره عن العبقري الذي هو شوبنهور ولا عبقري مقصود غيره – فهو أي شوبنهور العبقري، ليس بحاجة الى رفيق أو زميل، فسعادة العبقري يستمدها من الجمال على أختلاف صوره، والسلوى التي يقدمها له الفن وحماس الفنان الذي يتصف به العبقري تمكنه من نسيان مشاغل الحياة وتعوّضه عن الألم الذي يزداد في الانسان بنسبة وضوح أدراكه ووحدته الموحشة بين جنس البشر الذين يختلف عنهم تمام الأختلاف) 5 هل قرأ أحدكم فلسفة بهذا الافلاس؟؟ هل تقرير شوبنهاور التّظلمي لأستعطاف أمّه يدل على غير كتابة أنشائية تقريرية لم يسبقه أليها أحد؟؟ ألم تكن أمّه محّقة في وصفها أبنها فيلسوف التشاؤم بالفاشل؟؟

يتأسّى صاحبنا شوبنهور بقول ارسطو (أن الممتازين من الرجال في الفلسفة والسياسة والشعر والفن – وليس من النساء – كلهم جميعا من ذوي المزاج المكتئب والجنون الساكت) هذا النموذج التوصيفي الصحيح لارسطو في معرفة سايكلوجية المبدع وحساسيته المرضية المفرطة، لا تنطبق على شوبنهور كما يريد تسويق نفسه كفيلسوف وحيد زمانه وهو أعزل عن أمتلاكه تفكيرا فلسفيا له قيمة، ويحاول صاحبنا تأكيد فهمه السطحي الكلاسيكي في صفات العبقري في تقريره غير المستلم من أمّه (أن العبقري – يقصد هو نفسه - يمتلك حساسية متطرفة التي تسبب له أملا أضافة الى الخيال والوجدان وقوة الادراك بالاضافة الى العزلة والانصراف عن الحياة) 6 ..

كم عبقريا غير شوبنهاور تنطبق عليه هذه المواصفات التي أشبعت تداولا منذ عصر الاغريق قبل الميلاد والى يومنا هذا لعل مثالها عبارة ارسطو السابقة التي سبقت فلسفة شوبنهاور بمئات القرون أن لم يكن أزيد، وهي آراء أستنفدت نفسها في علم النفس والادب وليس في مباحث الفلسفة المعروفة.. ومن حقنا التساؤل كم عبقريا تنطبق عليه مواصفات ارسطو من أكتئاب نفسي وأغتراب مجتمعي وعصاب ذهني وجنون ولم يتاجروا بأزماتهم القاتلة بالحياة كما فعل شوبنهاور، أولئك كانوا أصحاب المواهب العبقرية الحقّة الوقّادة المشتعلة من الذين طوتهم المقابر بين منتحر ونزيل مستشفى امراض عقلية مزمن، أو سجين وراء القضبان، وأندثرت معهم عبقريتهم في غياهب الاهمال والموت ليأتي دور شوبنهور المتأخر الاعتياش على هذا الارث وينسب لنفسه عبقرية فلسفية هو لا يمتلكها سوّقها له مجتمع منافق لا يزال يعيش نفس الرذيلة في أعلاء شأن هذا ممن لا يمتلك موهبة حقيقية دون ذاك من أصحاب المواهب العبقرية الفذة، في ممارسة خيانة الضمير الأخلاقي غير النزيه في قلب موازين الحياة بازدواجية خبيثة لا زالت فاعلة بالحياة، بما ألحق أفدح الاضرار بمسيرة الانسان القيمية والاخلاقية والحضارية...

 

علي محمد اليوسف / الموصل

.........................

الهوامش:

1- ويل ديورانت /قصة الفلسفة / العبقري ص 428

2- نفس المصدر السابق ص 430

3- نفس المصدر السابق نفس الصفحة

4- نفس المصدر السابق نفس الصفحة

5- المصدر السابق ص 431

6- المصدر السابق ص 432

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم