صحيفة المثقف

كتاب: الحياة وقصص أخرى

ليث الصندوقأو فصول من زمَنَي الصمت الإجباري والإختياري

 (كتاب الحياة) هو المجموعة القصصية الخامسة لعبد الأمير المجر، وعبرها يرى إلى العالم بمنظار يخترق الجلد السميك إلى حيث تُختزن الأسرار، وتتوارى المسروقات، وتحتجب الفضائح، ويُنفخ من الخارج الفارغون من الداخل . بيد أن الرصد لا يكفي وحده لتحويل الخلل إلى فضيحة ما لم يقترن بصوت جهير وشجاع، وبلغة ضدية تشخص من يقف وراء الخلل ويستثمره . لغة تُعيد عرض ما تراه العيون بعد استبدال الوقائع الصورية بالرموز تمويهاً لما هو مموّه أصلاً، وتشويهاً لما هو مشوّه أصلاً، وفي الحالين يظلّ ما وراء اللغة، وما وراء الصورة حاضراً في ذاكرة القاريء، وناطقاً عما يمور في أعماقه من حُرقة على خسائر يُعاد تدويرها وإنتاجها في كل الأزمان، ومع كل العهود . أنها مشاكسة يتسلح لها العقل الواعي بالجنون المحسوب والمبرمج، وتُسخّر لها الأيدلوجيا صرخاتها المؤجلة من زمن الصمت الإجباري إلى زمن الصمت الإختياري . كل تلك الإستعدادات القتالية هي نوع من المقاومة الإبداعية لفضح ما يقترفه الأقوياء والمتنفذون بحق الضمير والمستقبل من دون أن تترتب على الفاضح تبعات قانونية أو أخلاقية أو عرفية .

وبالرغم من التقنيات الشكلية الحديثة التي استعان بها الكاتب، إلا أن السرد ظل رسالة يتبوّأ الإنسان مكانه منها في الصدارة محاطاً بمعضلات هو فيها السبب وهو فيها المسبب، وهو الذي بيده، ومن أجله الحلول . ومن أجل تيسير إبلاغ تلك الرسالة، وتيسير استيعابها، يُجرّد الكاتب نصوصه من التفاصيل الشكلية واللوازم البلاغية، مبقياً رؤيته الأيدلوجية محتفظة برموزها وبرمزيتها معاً وهي تطفو على السطح .

تضمّ المجموعة ثماني قصص قصيرة، ست منها يسردها راوٍ مشارك بصوته وبضمير المتكلم، وعبره يتمّ التبئير، باستثناء قصتي (المؤرخ) و (عودة الإنسان) اللتين تردان على لسان راوٍ مفارق وبضمير الغائب، ويتقاسم فيهما هو التبئير مع بعض الشخصيات الأخرى . وفي حين يبدو دور الراوي المشارك جلياً وفاعلاً في القصص الست التي تدور على لسانه، إلا إن قصة واحدة منها هي (الإرث) يجانب فيها دوره الجلاء والفاعلية، فهو دور إشكالي لا يتعدى النقل عن أبيه الذي كان بدوره قد تلقى القصة عن جدّه . وبذلك فإن صوت المتكلم، أو الراوي الذي يتأرجح دوره ما بين المفارقة والمشاركة، لا يكاد يُسمع سوى في السطرين الأوليين من بداية القصة (حدثني أبي، نقلاً عن جدّي الذي روى له الحكاية، وقد أوصاه بأن ينقلها إلينا، نحن أبناءه . ص / 53) وبتجاوز هذين السطرين، أو هذا الإسناد المتواتر تراتبياً، يغيب الراوي المشارك، أو ضمير المتكلم، ويتحول السرد إلى ضمير الغائب الذي ينقل ما يتمّ تبئيره من خلال الورثة الثلاثة .

قصة (العري) هي الأولى في المجموعة، وتُستهلّ بشبه الجملة (حين صحوت من النوم)، وهي جملة مخاتلة، توهم القاريء ان ثمة التفاتة سردية يعدّ لها الراوي المشارك للعودة إلى وضعية ما قبل الجملة، أي إلى وضعية النوم، وما يرافقها من الأحلام، وهي وضعية تتوافق مع الأحداث اللاحقة التي سُبكت بمنظور غرائبي متحرر تماماً من محددات الواقع وعقلانيته . وربما حتى السطور الأخيرة من القصة يبقى القاريء متشبثاً بقناعة موهومة نجح الكاتب في صياغتها وتسويقها إليه عبر جملته الإستهلالية تلك، وعبر ما سيعقبها من أحداث أيضاً، وربما ظل القاريء يتوقع أن ما يقرأ هو تداعيات حلم سينهيه الراوي باليقظة التي معها سيُنهي قصته أيضاً، على الطريقة التقليدية التي تستعين بالأحلام لفك العُقد السردية المتشابكة والمحكمة . ولكن سيتبيّن القاريء – بعد انتهاء القصة – أنها لم تكن أضغاث حلم، بل هي رصد لواقع مغاير لا يقل عن الأحلام غرابة وإدهاشاً، وهاتان الصفتان لا تحتملان حصر المرئي في حدود الحواس، بل تطلقانه خارج حدود جاذبية المعقول، لتعبرا بذلك الإنزياح عن غرائبية الواقع وجنوحه . وبذلك تداخل العالمان معاً: عالم الواقع، وعالم الأحلام، ليشكلا معاً عالماً بمواصفات لا تنتمي إلى أي منهما، يحق لنا أن نسميه عالم الكوابيس، ولكنه عالم الكوابيس المعاشة .

بدت عوالم القصص مجرّدة من التفاصيل باستثناء قصة (ألعظماء يرحلون بصمت .. أحياناً) وتلك ميزة تتوافق مع الرسائل التي أراد الكاتب إيصالها للقاريء، وهي رسائل أيدلوجية في الغالب، ولذلك لم يصرف جهده إلى تأثيث وتزويق فضاءاته، وإغنائها بالتفاصيل التي تُبعثر رؤيته، وتشغله هو، كما تُشغل قارءه عن التركيز على بؤرة تتجمّع فيها إشعاعات الفكرة / الرسالة . لقد تعامل الكاتب بذات الطريقة مع عنصري المكان والشخصيات فجرّدهما إلى اقصى ما يُمكنه من كل ما يحيط بهما من لوازم التوصيفات الخارجية، وتعامل معهما كوحدات دالة بذاتها، وليس بما يعلق بهما، أو يتصل ويرتبط بهما من زوائد ومكملات . فالأماكن التي تدور فيها قصة (العري) محدودة وقليلة جداً، وهي بحسب التسلسل النصّي، وهو تسلسل يفارق التسلسل المنطقي:

1 – الفندق

2 – مدخل ألمدينة

3 – صالة الفندق

4 – ألساحة العامة

وما عدا الإنتقال من المكان الأول إلى الثاني الذي تمّ عن طريق الإسترجاع والعودة بالزمن إلى الوراء يوماً واحداً فقط عبر الذاكرة، فإن الإنتقال من الأماكن الأخرى زمنياً تمّ تصاعدياً . ويمكن اعتبار تلك الأماكن مواقع أساسية تتفرع منها أماكن أخرى، مثل الحمام الذي هو جزء متفرع من المكان الأول، والإستعلامات التي هي جزء متفرع من المكان الثالث . أو على الضد من هذا التفريع يمكن اختزال الأماكن الأربعة في مكانين نوعيين هما (الفندق والمدينة) بيد ان هذا الإختزال المبالغ به سيؤدي إلى إلغاء الكثير من الأحداث المرتبطة بالتفرعات مما يجعل من الصيغة الرباعية هي الأكثر تمثيلاً وتوضيحاً لقصد الراوي . ومع ذلك فتلك الصيغة لا تعدو أن تكون سوى تسميات دالة، من دون إسناد تلك الدلالة بتوصيفات تؤكدها . وفي غياب صورة دقيقة وواضحة ومدعمة بالتفاصيل، فأن أفق توقع القاريء لا ينشأ عن أي إسناد نصّي، بقدر ما ينشأ عن ثقته بالراوي . ويستثمر الراوي هذه الثقة في تشذيب و (ترشيق) نصه، وتجريده من تفصيلاته المكانية (تحديداً) وبصيغة لا تفتت وتُبعثر الغاية من وراء الغلالة الغرائبية التي غلف بها فكرته . فبالإضافة إلى اختزال الأماكن الرئيسية في الحد الأدنى، فأن توصيفات كل ركن منها، وكذلك توصيفات تفرعاتها لن تتجاوز المستوى الثاني، وبذلك انعكست صورة العري الجسدي الذي وصم شخصيات القصة على المكان أيضاً . أما تجاوز التفاصيل للمستوى الثاني في مكان أساسي واحد هو غرفة الفندق، وفي مكان فرعي واحد هو الحمام عبر المكونات التي وردت على لسان الراوي المشارك مثل (رفّ التواليت / العطور / مجفف الشعر / الأمشاط / الصابون ... ألخ) فهي لا تمت إلى الحضور بصلة لأنها من مغيبات المكان التي افتقدها الراوي .

وحال الشخصيات هي كحال الأماكن محدودة، وعدا بعض الشخصيات (الفردية) الفاعلة مثل الراوي المشارك ورجل الفندق ورئيس المدينة، إلا أن هناك نوعاً من البطولة الجماعية تؤدي عبرها المجاميع دوراً مشتركاً واحداً بإيقاعية فردية منتظمة وعفوية من دون توجيه من عنصر خارجي مثل:

1 - الرجال الملثمون الذين يُقال أنهم دخلوا المدينة خلسة، والذين لم تتبيّن ملامحهم ولا طبيعة أدوارهم، فليس هناك من رآهم رأي العين، وكل ما عُرف عنهم جاء عن طريق الرواية المنقولة عن مجهولين (البعض قالوا أنهم رأوا أشخاصاً لهم وجوه غريبة لا تشبه وجوه أهل المدينة أبداً . ص / 12) وقبل هذه الشهادة المجهولة المصدر جاءت شهادة الراوي التي ستكون الأساس الداعم لها (حين دخلت المدينة غروب يومي الماضي، سمعت لغطاً كثيراً غير مفهوم، وبدافع الفضول ليس إلا رحت أصغي لما يُقال، وعرفت أن رجالاً ملثمين دخلوا المدينة خلسة . ص / 8) ومن الواضح أن مصدر الشهادتين واحد، وهو المجهول ذاته، وأن الفارق ما بين الشهادتين هو في الناقل الذي هو الراوي، لذلك فأن الشهادتين لم تضيفا شيئاً، بل أنهما زادتا في غموض الموقف، ولم تساهما في كشف هوية اللصوص، فقد ظلت تلك الهوية مرتبطة بسرقة وبمسروقات غير مألوفة، ومن خصوصية اللصوص وخصوصية مسروقاتهم تتشكل رمزية النص، وتتوضح رسالته . ولعل الوظيفة السردية لتلك المجموعة الملثمة التمهيد التدريجي لدور موسّع تؤديه عصابة ذات وجهين: الأول هو وجه أجنبي يمثله الملثمون أنفسهم (وجوه غريبة لا تشبه وجوه أهل المدينة أبداً . ص / 12) وهذا الوجه هو الأداة التنفيذية للسرقة . والوجه الثاني هو وجه محلي يمثله رئيس المدينة الذي يمكن أن تكشف رئاسته عن محليته، وهذا الوجه هو الغطاء المحلي الذي يستعين به اللصوص / الأجانب / الوجه الأول لإخفاء مسروقاتهم .

2 - نزلاء الفندق، ووظيفة هذه المجموعة هي إسناد وتدعيم تساؤلات الراوي إزاء طبيعة السرقة الغريبة التي طالت الجميع في ملابسهم، وتركتهم عراة، وبدون هذا الإسناد كانت السرقة ستبدو مقصودة لشخص بعينه، وعندئذ ستفقد الحكاية رمزيتها، وتبدو تقليدية، ومباشرة . هذه المجموعة ستمهّد لظهور مجموعة أخرى في مكان آخر هو ساحة المدينة، وهم سكان المدينة، وسنأتي على ذكرهم فيما بعد . بيد أن الجماعتين تشتركان معاً في التعرض لذات النمط من السرقة . وهذا الإشتراك سيسهل إنضمام وتداخل المجموعتين وتحويلهما إلى مجموعة واحدة، أو قوة مواجهة معادلة، بل راجحة على مجموعة، أو قوة اللصوص . ويلاحظ أن هذا التحول لم يتم داخل الفندق المغلق، بل في الساحة العامة المكشوفة / ساحة المدينة . وبذلك تكتسب ساحة المدينة رمزيتها من ثلاثة عناصر، هي:

- ألعنصر ألأول: إنفتاحها وانكشافها وعدم انغلاقها كقاعة الفندق وغرفه .

- ألعنصر الثاني: مشاعيتها، فهي ساحة للجميع، وليست لمجموعة نوعية معينة، وتدل تسميتها بساحة المدينة على مشاعيتها .

- ألعنصر الثالث: أنها أرض التقاء واندماج مجموعتي الممتحنين بالسرقة، ألمجموعة المغلقة / مجموعة الفندق، ومجموعة المدينة / سكانها .

3 - مجموعة المدينة أو سكانها، وهي المجموعة التي نشأ تأثيرها كقوة عن تراكم وشيوع فعل السرقة الذي بدأ تأثيره فردياً بالراوي، وتعاظم ليشمل نزلاء الفندق، وتعاظم إلى حدّه الأقصى بشموله للمجموعة التي نحن بصددها . بيد أن هذا التعاظم القاعدي في المتضررين سببه رأسي ويمثله شخص واحد هو رئيس المدينة .

4 - جماعة الحماية والحرس، ودور هذه الجماعة هي التماهي مع رئيس المدينة من خلال الدفاع عنه من غضبة المسروقين . ووضع هذه الجماعة في بداية القصة هو ليس دورها في نهايته فهو ينقلب ما بين الموقعين إلى نقيضه، فبينما كانت هذه الجماعة في أول القصة تتميز بكونهم كاسين عن أهل المدينة العراة، ومن هذا الوضع اكتسبت قوتها ورجحانها، ولكن أنقلب الحال إلى عكسه في الختام، فصار العُري هو ما يميزها عن أهل المدينة الذين استعادوا منهم ملابسهم المسروقة . أي أن العُري واللّبس هما العلامتان الدالتان للصوص ولأهل المدينة معاً بيد أن أياً من العلامتين لم تستقرّ على أيّ منهما، بل أنهما تبادلتا دلالتيهما ما بين المجموعتين ما بين البداية والختام .

يتضح مما سبق أن الجماعتين الأولى والرابعة تؤديان معاً دوراً مشتركاً معاكساً في الوقت ذاته لدور المجموعتين الأخريين الثانية والثالثة اللتين تؤديان معاً دوراً مشتركاً واحداً مما يجعل من المجموعتين (الأولى + الرابعة) من جهة، والمجموعتين (الثانية + الثالثة) من جهة أخرى كتلتين موزعتين في مكانين مختلفين . هذا التوزيع المكاني سيفقد أهميته في ضوء تلاقي، وتداخل عنصري الكتلة الأولى معاً، في مقابل تلاقي، وتداخل عنصري الكتلة الثانية، لنكون في النهاية أزاء كتلتين متمايزتين عن بعضهما كلّ التمايز، وهما كتلة اللصوص من جهة، وكتلة المسروقين من جهة أخرى، وبذلك فأن التوتر في القصة تكون قد تسببت فيه حالة التضاد والتناقض ما بين طبيعتي الكتلتين .

وقد تواجهنا حالة توافق وتناظر ما بين قصة (العري) وقصة (دعوة لحفل المجانين):

- فالمكان المرجعي / الفندق في قصة العري، يقابلة مكان شبيه له في العَلَمية هو الفندق أيضاً في (دعوة لحفل المجانين) مع اختلاف وظيفة كل منهما عن الآخر في كل قصة من الثنتين . فهو في الأولى مكان تقليديّ لا تختلف وظيفته عن أي فندق آخر في استقبال النزلاء وتضييفهم، ولكن وظيفته في الثانية هي لإقامة مؤتمر المجانين .

- وفي القصتين هناك مسروقات وسرّاق ومسروقون . ففي حين كانت الثياب هي المسروقات في قصة (العري) صارت المقالات السياسية والثقافية هي المسروقات في (دعوة لحفل المجانين) . وفي حين كان المسروقون في الأولى هم عموم أهل المدينة، صار المسروقون في الثانية هم الكتاب والإعلاميون .

- إن حالة الإفتراق في هوية المسروقون ما بين القصتين، تقلل من حدتها حالة التوافق والتناظر في هوية اللصوص، فهم في القصتين ينتمون إلى مجال وظيفي واحد، فبينما كان رئيس المدينة في الأولى هو الشخصية الفردية الرامزة للنظام الحاكم في المدينة، فأن هوية اللصوص في القصة الثانية هم رؤساء الأحزاب السياسية المعنيون بحفل المجانين وهم رموز النظام السياسي التعددي الذي يمثلونه .

- وإن كانت المسروقات / الثياب في القصة الأولى هي الرمز الأغلى لدى الإنسان الشرقي، لأنها تستر الجسد، والجسد كناية عن العرض والشرف في المفاهيم الشرقية، ولذلك حرص الحاكم / اللص ان يلبس كلّ الأثواب المسروقة لصق جسده في وقت واحد مؤثراً على ذلك إيداعها في خزائنه كما يحفظ المال لأن الأثواب رمزياً وعرفياً هي أغلى منه . بيد أن المسروقات / المقالات في (دعوة لحفل المجانين) هي أدنى قيمة لدى لصوص الثقافة والفكر / ممثلي الأحزاب السياسية، خصوصاً بعد أن تُستنفذ حاجتهم إليها، فتُهمل، وتُلقى بعد انتهاء الحفل على أرض القاعة (انتبهتُ إلى الأرض التي كانت مغطاة بعشرات المقالات السياسية والثقافية والاجتماعية . ص / 23) . وإن كان الراوي / المشارك لا يعرف مصدر تلك المقالات (لا أعرف بالضبط من جلبها، أو هل هي من ضمن الرزم التي كان يتأبطها المحاضرون أو ممثلوا الأحزاب قبل إلقاء محاضراتهم، أم جلبها آخرون من المدعوين للحفل . ص / 23) إلا أن آلية التأويل تجعل من اليسير تخمين المصدر، وتخمين سبب تعامله المتناقض مع الثقافة ما بين فترتي بدء الحفل وانتهائه .

واللصوص الذين حضروا في صباحات الناس ويقظتهم في القصتين السابقتين، يحضرون ثالثة ولكن في الأحلام، أو في أحلام الأب المهموم بمسبحته في قصة (مسبحة أبي) أو بحسب قول الأب (لقد صارت تأتيني في الأشهر الأخيرة أحلام مخيفة حيث أشعر وكأنّ مسبحتي انسرقت . ص / 27) . والمسبحة في هذه القصة هي في غلوّ الثياب في قصة (العري) وفي غلو الثقافة والفكر في قصة (دعوة لحفل المجانين) بل هي أغلى من الغاليين الآخرين، فهي لدى الأب وبحسب ما تقول الأم (صار يعيش من أجل هذه المسبحة . ص / 27) وهي كما يقول الأب نفسه (باتت الهواء الذي أتنفسه، ولا أستطيع العيش بدونها . ص / 27) .

ومن الملاحظ أن الداعم والمعين لكل اللصوص المحليين في القصص السابقة هم من الأغراب، فالملثمون (ذوو الوجوه الغريبة) مهدوا لظهور لصوص الثياب في قصة العري، وأعضاء الفرقة الموسيقية التي عزفت السلام الوطني في قصة دعوة لحفل المجانين دعماً للصوص الثقافة والفكر المحليين، وإيذاناً بافتتاح حفلهم هم أغراب أيضاً، فقد بدت وجوهم (غير معروفة لإيّ منا، ولم نسمع بأسمائهم . ص / 19)، بل حتى السلام الوطني الذي عزفته الفرقة لم يكن وطنياً (حين طلب منا النهوض قبل بدء عزف السلام الوطني، نهضنا جميعاً، وصرنا نتلفت إلى بعضنا بعد لحظات، إذ لم نعرف إن كان هذا السلام هو السلام الوطني لبلادنا أم لغيرها . ص / 19) وكذلك هو الأمر مع لصوص المسابح في قصة (مسبحة أبي) فقد جاءت بهم العواصف والأعاصير أناساً على شكل (عقارب كبيرة، وإفاع يمسك كل واحد منهم بمسبحة من لون مختلف، يداعبها بأصابع كالمخالب، ويوزعون على المارة ابتسامات صفر . ص / 29) .

والمسبحة / الرمز لدى الأب، هي غير المسبحة في ذات القصة لدى البشر / العقارب والثعابين، فقد اقترنت الأولى بالتوهج والعبق المسكر كلما فُركت بالأكف، بينما اقترنت المسابح الأخرى بابتسامات أصحابها الصفر . كما أن حميمية العلاقة ما بين الأب ومسبحته، هي غير العلاقة ما بين البشر / العقارب والثعابين وبين مسابحهم . فمسبحة الأب كانت محط فخره واعتزازه إلى حدّ أنه لا يسمح لغير يديه بلمسها، أو كما يقول الراوي المشارك / الإبن (لم يسمح أبي لأحد أن يعدّ خرزاتها، أو يلمسها) أو (أما شكلها الجميل فيجعل أبانا منتشياً دوماً وهو يعيش ساعات فخره المتجددة وسط المجالس، حيث تكون كلّ الأبصار متجهة إليه وإلى مسبحته . ص / 26) انها علاقة المرء بجزء غال وعزيز من جسده، بينما علاقة البشر / العقارب والثعابين بمسابحهم فهي علاقة الوحش بفريسته، فهم (يداعبونها بأصابع كالمخالب . ص / 29) .

هكذا انجلت القصص السابقات عن لصوص محليين لا تربطهم علاقة قربى مع ضحايا سرقاتهم، بل هي في أحسن الأحوال علاقة مواطنة، ولعل تلك العلاقة البعيدة تُجنب اللصوص الإحساس بوطأة ما يسرقونه على مالكيه إن كان للصوص ثمة قدرة على الإحساس . بيد أن قصة (الأرث) تشذ عن قانون النسب هذا، فاللصوص هم ذاتهم المسروقون وهم ثلاثة أخوة، يسرق بعضهم ميراث الآخر الذي يرى نفسه أجدر به من أخويه . أنها قصة العقائد التي تنتمي إلى جذر واحد، نمى عبر الزمن، وتفرّع إلى اغصان شتى . قصة لا تنتهي أبداً على امتداد التاريخ الإنساني، بل تتكرر بنفس فصولها وأحداثها عبر الأجيال المتعاقبة، وفي حيوات الأبناء كما كانت هي ذاتها في حيوات الآباء والأجداد ما دام كل واحد من الورثة لا يقرّ بحدود حصته من الميراث، ولا يقرّ كذلك بحق أخوته منه .

وإن كان المروي عنه في القصة وهو أول الورثة يخشى على ميراثه من أن يسرقه الوريثان الثاني والثالث، اللذان يخشى كل واحد منهما على ميراثه من أن يسرقه الآخران، من دون أن يدرك الثلاثة أن ميراثهم جميعاً هو ميراث واحد، وأن لكل واحد منهم حصة متساوية فيه، وأن خشية كل واحد من الثلاثة من أن يسطوا الآخران على ميراثه هي خشية موروثة من الآباء والأجداد الذين عاشوا نفس هاجس الخشية من قبل، من دون أن يدركوا جميعاً أن الخلاص منه يكمن في الإقرار بحق كل واحد منهم بحصة متساوية في ميراث الجد الأول .

إن هاجس الاستحواذ على الميراث من جهة، والخوف عليه من السرقة من جهة أخرى كفيل بتحويل الأجيال اللاحقة إلى لصوص يسرق أحدهم الآخر، ويحرمه من حصته في الميراث . وتبعاً لهذه الرؤية يمكن من الناحية التأويلية إدراج الورثة الثلاثة في قصة (الأرث) ضمن صف اللصوص، لينضم بذلك لصوص الميراث في قصة (الإرث) إلى لصوص الثياب في قصة (العري)، وإلى لصوص الثقافة والفكر في (دعوة لحفل المجانين)، وإلى لصوص المسابح في (مسبحة أبي) . لكن الفارق أن الكاتب في قصة (الإرث) عالج ميراثه بقدر كبير من الجرأة والتحدي اللذين يحسبان له في ظروف تحدّ من حرية التفكير والتعبير معاً تشبه إلى حد بعيد الظروف التي كتب فيها نجيب محفوظ رائعته (أولاد حارتنا) والتي بدا أثرها واضحاً على قصة الأرث، مع فارق أن جهة التهديد في مصر كانت أكثر متابعة من مثيلتها العراقية للشأن الثقافي بصورة عامة، وللثقافة المختلفة بصورة خاصة، كما أنها الأقدر (أي الجهة المصرية) على الإبصار في الظلمة، وعلى فك الرموز والشفرات الحذرة .

وعوداً إلى قصة الأرث، لا بأس من الاستعانة بالتأويل لتقدير عمق هاوية الخطر التي تجاوزها النص، فالميراث هو العقيدة الواحدة كما تجلت في عهد الجد الأول إبراهيم، وقد تمّ التعبير عنها بأوراق الميراث (القديمة جداً، والمكتوبة بلغات متعددة، بعضها منقرض لا يمكن فهمه، وبعضها الآخر غير واضح الحروف، أو جملها مرتبكة . ص / 55) وهذا العسر في فك طلاسم الأوراق وفهم مضامينها هو الذي فرّق الآباء والأجداد وباعد بينهم ودفعهم للاحتراب . بيد أن الأخوة / الورثة الثلاثة اكتشفوا بعد تدقيقهم الأوراق المبهمة ومقارنتها ببعضها (أنّ المعاني في أوراقها متشابهة) وهذا يفترض أن الخلاف على الميراث قد تمّ حسمه، ولكن بالرغم من تشابه الوثائق الذي يعني الإتفاق بين الجميع على تشابه البنى العقائدية الأساسية، إلا أن الخلاف قد استمرّ، أو حصل اللغط في تفسير النص الواحد .  ولعل الإرتباك أو تداخل الأوراق كان مقصوداً من قبل الورثة الأوائل / الأجداد (بعد معركة على أرث أبيهم، أو جدّ العائلة الأول بعد وفاته، قبل أن تتشتت عائلته، وتتوزع في أصقاع الأرض . ص / 59) وبذلك صار الأولاد والأحفاد (يلتقون على شكل جماعات، ورثت ذلك العداء القديم في أيام اختاروها لكي يتجنبوا التصادم، فمنهم من اختار يوم السبت من كلّ أسبوع، ومنهم من اختار الأحد، فيما فضّل الآخرون أن يكون لقاؤهم يوم الجمعة . ص / 59) ومن الواضح أن ما يرمي إليه الكاتب من وراء تلك اللغة المجازية يتعدى تعرية المحددات الدينية ويتجاوزها إلى إدانة كل أشكال الإصطفافات الموروثة التي تشطر مجتمعاتنا، وتُعيق تطورها، وتوصمها بالتطرف والانغلاق بما يمنع اي احتمال لتواصل الورثة الثلاثة فيما بينهم . وفي المجموعة القصصية أكثر من إشارة جريئة لهذه التعرية وتلك الإدانة، كما فيها أكثر من إشارة داعية للانفتاح والتسامح .

ترصد قصة (المؤرخ) المراحل الأولى لولادة ثورة ما، في مكان ما، في زمن ما، ضد حاكم ما . وقد بدت القصة مبتورة زمنياً، فهي قد بدأت من لحظة ما من الحاضر ولم تتوغل في مرحلة ما قبل الثورة بحثاً عن الأسباب المتراكمة التي دفعت إليها، واكتفت بسبب آنيّ واحد، مما أضفى على القصة طابع الإجتزاء والغمط، فليس من المنطقي أن يدفع إلى الثورة (أية ثورة) سبب واحد – حتى ولو على سبيل المجاز – مهما كان ذلك السبب وجيهاً .

وعلى هامش الثورة ثمة مؤرخ شارك في الثورة راصداً ومدوناً من دون أن يشارك فيها مشاركة فعلية، والقاريء ينساق وراء هذا الإفتراض متطلعاً لمعرفة رأي المؤرخ في سيرورة التغيير، إلا أن التجليات الأولى للثورة والتراصف الذي فرضته لم يمرّ عبر منظاره، بل عبر منظار الراوي الذي – وتلك مفارقة لافتة – هو راوٍ مفارق . فبالرغم من مفارقته الأحداث استحوذ من المؤرخ على دوره، وعلى وظيفته، ومن ثمّ عزله في ثلاثة معازل:

- ألعنوان

- الإستهلال

- الخاتمة

بينما بسط الراوي خارج هذه المعازل سلطة غيابه ليُبئّر المشهد الثوري بضمير الغائب، وليُميت المؤرخ في معزل الختام مخلفاً مسودتي كتابين عن مرحلتين زمنيتين بائدتين، وأملاً بكتاب ثالث مات قبل أن يتحقق . وفي غمرة تلك الرؤية غير المنصفة للثورة ودافعها غير المقنع في واحديته تتلامح نماذج من راكبي الموجة الذين لا نجتريء عليهم حين نسميهم بالانتهازيين أو بلصوص الثورات، والذين تلقفوا أخبارها من وسائل الإعلام فاندفعوا يشاركون فيها كممثلي النقابات والمنظمات والأحزاب (العلنية والسرية) الذين يستمتعون بقطف الثمرة الناضجة ويتلذذون بها، والذين كان بمقدورهم – لو عزموا – أن يُفجروا ثورتهم الخاصة، ويتحملوا تبعات نجاحها أو فشلها، قبل اندلاع ثورة الجماهير المستقلة عن التسييس . وكذلك أفرزت القصة نماذج من المنتفعين الذين لا يقلون في انتهازيتهم عن سابقيهم، وهؤلاء الأخيرين هم الذين يؤيدون كلّ منتصر ويذمون كلّ منكسر بحيادية لا تُميّز بين الأبيض والأسود، مثل الخطاطين وأصحاب محال الطباعة والإعلانات .

وتقدم قصة (كتاب الحياة) في طبقتها الباطنية قراءة يمكن أن تندرج ضمن الرؤية الغيرية التي أنتجت قصة ا(الأرث) . فكتاب الحياة هو كتاب فلسفي استعاره الراوي / المشارك من أحد أصدقائه لعله يجد فيه إجابات لبعض المعضلات الفكرية، ولبعض أسئلة الحياة والوجود التي تؤرقه، ولكنه بدل حصوله على الإجابات المتوقعة حصل على المزيد من االأسئلة المحيّرة، وبذلك اشتبكت وتداخلت عليه الأمور ولم يعد يعرف ما أخذه من الكتاب، وما أخذه الكتاب منه، أو كما يقول (ألشيء الذي لم أتيقن منه أني قرأت الكتاب، على الرغم من أنني، وطيلة الأيام الماضية، حتى بعد منتصف ليلتي الفائتة كنت أقرأ، وأعيد ما قرأت أكثر من مرّة، من دون أن أفهم شيئاً . ص / 34) ولعل ما ورد في المقبوس لا ينطبق على الكتاب الفلسفي فحسب، بل ينطبق على القصة ذاتها، فهي من أعقد قصص المجموعة، وأكثرها إرباكاً وارتباكاً، فهي أشبه بكابوس استجلبه الكتاب الفلسفي إلى حياة الراوي، فصار بعد قراءته يعيش عُقدَ معضلاته، وتجليات رموزه . ومع ذلك فثمة رابط رمزي يشدّ هذه القصة إلى قصة (الإرث) بشكل يكشف من خلاله الكاتب عن شاغل فلسفي إنساني يثير إنتباهه، بل ويُقلقه إلى الحد الذي لا يتورع معه أن يعرض بطريقته المجازية رؤيته النقدية الجريئة والمتحدية لهيمنة الأحادية العقائدية مهما كان شكلها وطبيعتها . ويتجلى الرابط ما بين القصتين بالعلاقة ما بين الورثة الثلاثة، أو العلاقة ما بين أبناء العقائد الإبراهيمية، إذ تعكس قصة (كتاب الحياة) تلك العلاقة من خلال رؤية رجال الدين للحياة الأخرى ما بعد الموت بشكل لا يخلو من موقف إنتقادي غير مباشر من خلال إعفائهم لأتباع دياناتهم المخطئين من العقوبات الأخروية الأبدية، وتشديدها على أتباع الديانات الأخرى .

وفي مواجهة هذه الصورة الكابوسية للحياة تتجلى صورتها الأخرى أكثر واقعية وشفافية معاً، ولكنها أكثر مأساوية أيضاً في قصة (العظماء يرحلون بصمت .. أحياناً) وتبدو مفردة التحيين في العنونة إشكالية وتحتاج إلى مقاربة دلالية لا أجد أن مكانها مناسب هنا لاسيما أن تثبيتها قد يضع بطل القصة (أبو أيوب) في أحدى كفتي ميزان طبقي مختل في مواجهة عظماء أدعياء، ومع ذلك فأنها لم تُحيّد موقفي الإنساني المتعاطف مع البطل، ولا موقفي النقدي من القصة التي أرى أنها ربما هي الأجدر بعنونة المجموعة من قصة (كتاب الحياة)، فهي ليست كتاب الحياة النظري المتعالي، بل هي كتاب الحياة في نموذجها التطبيقي المعاش لأبي أيوب، والكنية دالة بذاتها أو بموروثها الراسخ في الذاكرة الجمعية، وليست بمن أطلقت عليه، فالرجل لم يخلف ذرية، وقد ماتت زوجه الشابة وهي عاقر، وقد اختزل في شخصيته، وفي حياته شخصيات وحيوات أجيال من العراقيين الذين ضيّعهم التهميش، وسحقهم الفقر، وأماتهم الجحود كمداً . إنه مدرسة عراقية من مدارس الحياة، وتلك التسمية هي التوصيف الأدق لحياة الرجل ومدرسته كما تحلو له تسميتها عندما يُسأل عن تحصيله الدراسي (... أنا تعلمت من مدرسة الحياة . ص / 68) أو هي قراءة لحياته وحياة الآخرين أيضاً بحسب ما يقول الراوي معبراً عن رغبات الرجل التي لم يصرّح بها الرجل بلسانه، بل قالته عنه سيرته (كان يريد القول أنه كان ضحية لعبة كبيرة، لعبة اكتشف هو الشيء الكثير من تفاصيلها عندما تعلم، وصار يُعيد قراءة حياته، وحياة الآخرين . ص / 74) .

ومهمة الراوي المشارك في هذه القصة ان يتخذ من شخصة أبي أيوب مرآة يعكس من خلالها ملامح شخصيته هو، وحسب هذه الرؤية ينبغي أن يتبوّأ الراوي صدارة المشهد السردي، ويتولى تحريك الأحداث من موقع البطولة، بينما يتوارى أبو أيوب في ظل الراوي، ويستمدّ فعالية دوره منه . ولكن التعاقب السببي للأحداث جرى في غير هذا الإتجاه، وانجلى عن مشهد مغاير تحولت فيه البطولة إلى المرآة، بينما تراجع الراوي ليؤدي دوراً ثانوياً مكملاً .

وفي هذه القصة لا يجد الكاتب مسوغاً للتواري خلف رموزه، فالصوت الأيدلوجي أكثر خفوتاً، والرسالة لا تتجرّد من تفاصيلها الوصفية ولوازمها الشكلية من أجل إبلاغ مضمونها إلى الآخر . وبالرغم من انتماء القصة إلى الواقع العراقي وتوسلها بألفته وحميميته، وبمأساويته أيضاً، إلا أنها لا تخلو من آصرة تربطها مع سابقاتها من القصص التي اتخذت من أشكال السرقة المختلفة مفاتيح رمزية لتوصيل رسالتها الأيدلوجية . مع فارق أن السرقة في القصص السابقة قد وردت في إطار رسائل أيدلوجية، إلا أنها في قصة (العظماء يموتون بصمت أحياناً) قد وردت في إطار غيبيّ مثقل برسائل إجتماعية مؤثرة . فليست الأيدلوجيا وحدها هي الأم الولود المنجبة للصوص، بل الحياة أيضاً تتولى هذا الدور بعد أن تضفي عليه شيئاً من التمويه، وبعد أن تعيد استبدال الدوال بمدلولات أخرى . فالفقدان في هذه القصة هو الوجه الآخر للسرقة . أنه سرقة ليس لأصحاب الأيادي الممغنطة مصلحة فيها، ولا منفعة منها، فالسارق غير مرئيّ ولا يصلح للترميز، أو التخفي وراء مجازات اللغة لأنه أكبر من الإثنين، أنه القدر اللص الذي يبزّ بمسروقاته لصوص الثياب والثقافة والمسابح والمواريث والثورات، لأنه ببساطة لصّ الأرواح . ولهذا اللص اليد الباطشة الطولى في هذه القصة .

ولكن ثمة فقدان من نوع آخر لا يقلّ فداحة عما يرتكبه لصّ الأرواح هذا، أنه فقدان الأحبة الجاحدين الذين ما إن يشبوا عن الطوق حتى يتركوا - من دون وداع أو سؤال - من تكفلهم صغاراً بالرعاية والحنان . ولكن المشكلة هي في اختلال ميزان التشبيه، فإذا كنا قد شبهنا القدرَ بلصّ الأرواح، فهل نصيب بإطلاق ذات الصفة على الجحود ؟ لا سيما أن كلا الإثنين (الموت والجحود) لهما ذات القدرة على (سرقة الإنسان من إنسان) كما يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي .

وفي معادلة الجحود والنكران الملتبسة بأطرافها الثلاثة (السارق / المسروق / السرقة) أين نضع أخوات أبي أيوب الثلاث الكبريات اللواتي انفصلن عنه بعد زواجهنّ ؟ وأين نضع أخاه الأصغر سعد، وأخته الصغرى نهاية اللذين انفصلا عنه، وهربا إلى خارج البلاد بعد أن أفنى شبابه في تربيتهما يتيمين ؟

وبصورة عامة تتجلى سرقات القدر في القصة ب:

- موت الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، وهذا الحدث البعيد عن فضاء القصة وأحداثها هو الأساس الذي بنى عليه الراوي قصته في صيغة مفارقة مركبة ما بين شخصيتين وحياتين وميتتين . لقد تزامنت ميتة الرئيس الأمريكي مع ميتة العراقي المعدم أبي أيوب، وتلك إشارة إلى تساوي الجميع في ذات المصير . إلا أن التشييع المتواضع للثاني الذي تم على عجل بوضع الجنازة على سيارة صغيرة، في مقابل الجنازة المهيبة للأول التي نقلت مراسيمها تلفزيونياً من خلال نشرات الأخبار هو إحدى صور الفارق الشاسع ما بين عالمين، عالم يعيش في المتن، وآخر على الهامش .

- موت أبي أيوب / الشخصية المحورية التي رافقت القاريء بدءاً من العنونة في صيغة إحالة وصفية جماعية تختزلها مفردة ألعظماء . وبموت أبي أيوب تكون القصة قد ابتدأت من الخلف، ومن ثم لتنتهي من حيثما ابتدأت، أي أن الموت الذي ابتدأت به القصة ستنتهي به أيضاً . وبالموت الإبتدائي تتحول القصة إلى مونولوج استرجاعي، يستعيد عبره الراوي / المشارك تراجيديا حياة أبي أيوب، بيد أنه مونولوج متقطع زمنياً إلى محطات يتنقل الراوي عبرها صعوداً إلى الحاضر ونزولاً إلى الماضي .

- موت والد أبي أيوب في حادث سير .

- موت الأم بالتدرن الرئوي

- موت سلوى زوج أبي أيوب العاقر بوصفة إنجاب فاسدة

ومن الملاحظ أن هناك حالة شبيهة بالاستدعاء الذاتي في الميتتين الأوليتين، فاستدعاء الأولى أوجب استدعاء الثانية، وكأن كل منهمل انعكاس للأخرى، فتزامنهما معاً أتاح للراوي إجراء مقارنة عفوية لم يصرّح بنتائجها بوضوح بالرغم من أن النتائج مقدرة مسبقاً من خلال عاطفية التعبير عن موقفه تجاه الشخصين، وتجاه الميتتين . فقد حيّد موقفه تجاه الرئيس الأمريكي، وهذا الحياد انسحب على موقفه تجاه ميتته (لم أشعر بالحزن، فأمر الرجل لا يعنيني . ص / 61) . ولعل أسباب الحياد بحساب الراوي طبقية بالدرجة الأولى، يتجلى ذلك في تقديمه صورة للرجل عن طفولته المترفة، ويقارنها بطفولته هو (... وهذا يُخالف صورة الفقر المستقرة في ذهني، أنا القرويّ الذي لم تعرف قدماي الحذاء إلا بعد أن فرضته عليّ إدارة المدرسة . ص / 62) . وفي مواجهة هذا التحييد الطبقي للأول كانت القصة بكاملها خطاب تعاطف مع الثاني الذي يتماهى معه الراوي طبقياً .

وباستثناء الميتة الأولى، فالميتات الأربع الأخريات (ميتة أبي أيوب + ميتة أبيه + ميتة أمه + ميتة زوجه) أشبه بموتيفات متعاقبات، أو لوازم تتكرر إيقاعياً مع كل مقطع حياتي / مرحلة من حياة أبي أيوب:

- في طفولته - مات الأب

- في فتوته – ماتت الأم

- في شبابه – ماتت الزوجة

- في قمة عزلته وعوزه – مات هو

ومن الملاحظ في كل هذه الموتيفات أو اللوازم أن العنصر الأساسي الثابت هو الموت كحقيقة، بينما العناصر الثانوية المتغيرة فهي الأسماء وصور الموت .

 

ليث الصندوق

....................

(*) كتاب الحياة وقصص أخرى – عبد الأمير المجر – الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – بغداد - 2018

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم