صحيفة المثقف

شظايا الكلام

سونيا عبداللطيفجميعنا يعلم أن الكلام هو ما يفصح به اللسان من بديع ومديح وهجاء وذمَ.. مزركش، منمق، بذيء، مسيء، مضرَ، نتن، عفن، نزق، حلو، مرَ.. ماقلَ ودلَ أو ما كثر وضرَ..

ويمكن أن يكون الكلام صورة أو رموزا تقرأ بالعين أو نصا مكتوبا أو إشارات بحركات اليد وتعابير وتقاسيم الوجه أو نظارات العين وحركة الرموش أو الغمز والهمز واللمز..

 لكن، يظلَ الكلام الفعليَ ما يخرج من الفم ويتلفَظ به.. ينطق ويسمع.. يكون هناك باثَ ومتقبَل ويتمَ التَفاعل بينهما وتشكَل هذه الثٕنائيَة حركة دائريَة مستمرَة وطريقة يحفظ بها الكلام بإعادته..

فكيف يعاد الكلام؟

هل يعاد كما قيل ووقع التَلفَظ به أم بالزٕيادة أم بالنَقصان؟

ما يهمَ أو المهمَ أنَ الكلام لم يتوقَف ولم ينته.. لانَ الكلام كائن حيَ... فهو قابل للاندثار والتَلاشي.. الموت والفناء.. كما هو قابل للانتعاش والتَطوَر والتَجديد والحياة..

وقد قال سيدنا عمر ابن الخطاب . لولا إعادة الكلام لنفذ الكلام...

وكدورة الحياة في الطبيعة. لولا البذار لما كانت هناك دورة حياة عند النبات...

وحفاظا على ديمومة الكلام وقع الاهتمام به فحرصوا منذ الأزل على تدوينه وتوثيقه بشتَى الطًرق سواء بحفظه وإعادته أو بكتابته وتمثيله وتصويره أو بتسجيله وغيره...

وأوَل ما ظهر للحفاظ على الكلام هو الكتابة التي جاءت إثر موجة من التقدم والازدهار في اللغة وعلوم الكلام وتنوَعه واختلافه وانقسامه بحسب تعدَد اللَهجات وبحسب الجهات والعرائش والقبائل وبسبب تغيَر الكلام وتحريفه أثناء إعادته من شخص لآخر ومن مستمع لناطق به وبانتقاله من الشفاه إلى الأذن. إذ يدخل في الحسبان جانب النَطق بالكلام وكيفيَة سماعه...

بالتَالي أخذت كلَ فئة مجتمعية تبذل قصارى جهدها من أجل كتابة المعاجم اللغوية للحفاظ على اللغة والكلام وهذه المعاجم والمناجد بدورها في تطوَر متواصل مع الزَمن وعبر العصور... فهناك من الكلام ما انقرض وتلاشى واندثر وهناك من الكلام ما نقَح وهذَب واستبدل وهناك ما بسَط وطوَر وما أضيف باكتشاف عبارات جديدة بسبب التَلاقح والتَمازج والتَزاوج بين الفئات والحضارات ويدخل أيضا عامل التَنافس والتَسابق في اكتشاف الجديد المغاير بإيجاد عبارات جديدة فهو حدث هام جدا كذلك الذي عثر على بئر نفط في أرض عجوز عاقر.. وتحاول كلَ مدرسة أو منظومة أن تنسب الإكتشاف اللغوي الجديد لها..

وماذا بعد ذلك؟

هل نفذ الكلام، أم نقص أم زاد؟

هل الكلام في تدهور أم في تطوَر؟

الطَرق التي استعملت للحفاظ على الكلام والجميع يعلمها عديدة ومتنوعة.. من بينها الحفظ.. بالحفظ ضمنت البشرية استمرارية الكلام وبقاءه.. ومن بين هذه النوادر والقصص والحكم والعبر والحكايات التي ظلَت إلى اليوم على قيد الحياة واستمرت عن طريق الكلام والحفظ والإعادة والترديد لها جيلا بعد جيل هو الشعر.. فمنذ العصور الأولى اهتم الفقهاء والمثقفون والعلماء بالشعر بحفظه وتحفيظه وإلقائه وترديده وتلقينه لأنه هو وحده القادر على تنمية الذاكرة والحفاظ على المعجم اللغوي وإنماء لغة الكلام وتطويرها واستمرارها.. فتناقل الشعراء الكلام بالشعر بحفظه والتفنن والتباري في إلقائه من جماعة لأخرى ومن مجلس لآخر ومن قبيلة لغيرها.. وجاءت فكرة التدوين والتوثيق بكتابة ما يحفظ ويلقى من قصائد وملحمات ومعلقات.. وما هذه الأشعار المتداولة إلا نتاجا لتلك الحركات الكلامية التي هي في تطور دائم.. وعرب الجاهلية ليسوا عرب اليوم وأدواتهم ليست أدوات اليوم وثقافاتهم ليست ثقافة اليوم وسلوكياتهم وحياتهم وأكلهم وشربهم وهندامهم كلها مختلفة ومغايرة لما نراه اليوم.. فراعي الإبل والغنم الذي كان يجوب السباسب والسهول والهضاب وذاك الفارس المغوار الذي كان يسابق الفرسان ويجوب الأمصار ويقول الأشعار يتغنى بالرماح والسيف والقلم والقرطاس وجارة الوادي وساكنة الخيام والملوك والأمراء... هؤلاء جميعهم اختفوا وبالتالي شعراء الأمس ليسوا بشعراء اليوم الذين يسكنون العمارات، يمشون في الطرقات، يركبون القطارات والسيارات، يشربون عصير المعلبات وحليب مشتقات النباتات و... ويكتبون بالحاسبات والراقنات...

لذلك لا يمكن وضع مقياسا للكلام ولا للشعر فكم من المفردات والعبارات التي اختفت وانقرضت وكم غيرها قلَ تداوله واستعماله أو استبدل بأبسط منها... فأين خفَا حنين ؟ وأين خوان جحا؟ وأين مطمور روما؟ وأين النبل والقوس والأقداح والجرار والخوابي والصَولجان... ؟

هل الناس هم الناس؟

هل المصطلحات هي المصطلحات؟

هل العادات هي العادات ؟

هل الكلام هو الكلام؟

هل الأسماء هي الأسماء؟

هل... وهل؟

لا اظنَ، كلَ شيء تمدَن وتطوَر، تغير وتجدد، الكلام متجدد، متطور، متغير، متواصل.. وكتابة الشعر بصفة آلية تتبعه والإنسان دؤوب نقوب بطبعه يحب البحث والتجديد.. جاد َ في ترك ٱثاره وما يكتشفه من جديد للأجيال القادمة الموالية له حتى وإن كانت هذه المستجدات مفردات لغوية فإنه يسارع بتسجيلها وتدوينها وإقحامها في القواميس اللغوية.. والقواميس بدورها عرضة للتلف والتجديد فكم من المفردات التي لم يعد لها أثر في قواميس اليوم ولم تعد تستخدم أو تستعمل فخرجت منها..

لذا دور المثقف، كاتب أو شاعر أو مؤرخ أو... هو الحفاظ على هذا المكسب من الكلام بترسيخه، بنقله، بتلقينه، بتدوينه، تعليمه، تحفيظه.. من أجل إبقائه وجعله يتواصل بكل الطرق وبكل الأساليب وأن يكون هذا الكلام خاضعا لمستلزمات الحياة، ملائما لعصره ومع عصره، مواكبا للزمن الذي هو فيه كي يفهمه جيله والجيل الذي يليه بشرط أن يكون الكلام بديعا، جميلا، سليما، ولا يهمَ كيف يكتب ولا في أي جنس يكتب أو في أي شكل يكتب.. مادامت الغاية سليمة وهي الحفاظ على اللغة واستمراريتها حتى لا تموت...

فدعوا الكلام يستمرَ واتركوا شأن النَقد والتَجديد لأصحابه الباحثين والدارسين في علم الفقه واللغة وعلم اللسان والكلام والمعاني والمباني.. فلا أحد وضع ليكون ناظرا أو منظرا على غيره ولا أحد نقول عنه خلق ليكون شاعرا أو الشعر خلق له وليس لغيره.. ولا.. ولا.. إذ ليست هنالك مكاييل ولا مقاييس للكلام.. فالكلام كائن حي.. ينمو ويكبر.. يموت ويحيى.. لنحافظ عليه في صحة جيدة، ولا نجعله عليلا، سقيما، ولا نكون سببا في خنقه وشنقه وقتله وموته... فما البحور والأوزان الخليلية والشعرية سوى أجناس وضعت في أزمنة معينة كثر بين قومها التنافس والتناحر والنفاق والتناقض من أجل التقرب من أشخاص معينين ومن أجل تحقيق مصالح وأغراض شتى فتكاثر المتنافسون وتقاتل المتقاتلون وصار كل ينحت كلامه وينمقه ويرتبه ويزركشه بحسب رغبته ويطنب في استعراض العضلات اللغوية ويبالغ في الاستعارات والاحالات وماخفي من العبارات وكل يبالغ من أجل الفوز بكيس من الذهب أو منصب لدى الملك... وكل وقوَته وشطارته... حتى بلغ ببعض الشعراء أن تفهم قصائدهم بغير مقصدها...

وختاما أقول... شطارتنا اليوم أن نعيد قليلا من شأن الإنسانية وشيئا من الطهارة للنفوس كي يعمَ الاحترام والوئام وتنتشر المحبة والسلام بلغة يفهمها الجميع في عالمنا الراهن والحصري الذي أصبح ضيقا بالرداءة والنذالة.. وكفانا غباء واستغباء.. علاء واستعلاء لبعضنا البعض ومع بعضنا البعض... واكتبوا ملحمات ومواعظ في الحب والإنسان بدل أن تكتبوا معلقات في الكره والأنانية مآلها المنفضة لإزالة الأتربة والغبار عنها ولتعليقها وإبقائها في الأقبية...

 

سونيا عبد اللطيف - تونس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم