صحيفة المثقف

وهدة التعليم.. بعض من الاسباب

محمد حسين النجمكان زميلي في الاعدادية يحظى دائما بعبارة (Sit down lazy boy)، لاجلاسه بعد ان طلب منه مدرسنا الفذ في اللغة الانجليزية الاجابة على سؤال وجهه له .فهو لم يرفع يده يوما للاجابة على سؤال من اسئلة مدرسنا، ولم يقف الا حين يساله، وكان دائما يحني راسه وفق المسلك المعروف للكسالى، ولكنه كان صاحب امتياز وحظوة في الاتحاد الوطني لطلبة العراق، الواجهة الطلابية لحزب البعث آنئذ، كما كان نصيرا متقدما في الحزب منتصف سبعينيات القرن المنصرم .

كان حزب البعث قد قام على اكتاف عامل الدرج وبائع الثلج مما يتطلب ان يطور كادره فكان الامر ان يعطي امتيازا للمنتمين اليه للدخول الى السلك الجامعي، وهكذا ما ان تخرجنا حتى تحولت كليات التربية الى كليات مغلقة على المنتمين الى حزب البعث حصرا تحت مسمى (قلعة البعث) وتم شمول القبول بها لكل من تخرج بادنى المعدلات، ومن لم يحصل على معدل النجاح تم ترميم معدله بدرجات على نشاطه الحزبي . نعم هكذا حصل منتصف تلك السبعينات واثار موجة من الاستياء في اليونسكو مما دفع الدولة لفرض المعدل التنافسي في السنة اللاحقة يتنافس بها ذوي المعدلات الهابطة فيما بينهم والمشغولين بالتنظيم الحزبي اكثر من انشغالهم بالتحصيل الدراسي، كان تاييد المنظمة الحزبية على انتماء المتقدم للحزب يحجب اي فرصة لمنافسة الاخرين . غادرت مدينتي لادرس في غيرها وبقي زميلي يدرس فيها، ومرت السنة الاولى . كان من عادتنا ان نلتقي في المكتبة العامة التابعة للادارة المحلية في المدينة نقرأ ما توفره من صحف ومجلات عربية ومحلية مثلما نديم قراءتنا للكتب فيها والتي كانت ثرية. لم ار صديقي مدة طويلة، فهو مشغول بنشاطه الحزبي الذي يحجبه عنا، الا ان ما اثار استغرابي ان اجده في الشهر الثامن وهو يتخذ جانبا من صالة القراءة في المكتبة وامامه عدد من الملازم والكتب الانجليزية، سلمت عليه ونظرت الى ما امامه ثم سالته : ما علاقتك بهذه الكتب والملازم، فقال هذه مواد اختصاصي اتهيأ لامتحانات الدور الثاني، فسالته وما علاقتك بهذه اللغة التي لا تفهم منها جملة، الست انت : Lazy boy عند مدرسنا، فتنهد وقال : ورطة !!!! . ثم غبنا زمنا لالتقيه واذا به قد حول اختصاص دراسته الى فرع اخر يظن بانه يستطيع اجتيازه . لم نلتق بعدها ولكن مثل هكذا سلوك وتفكير قاد الوضع التربوي في بلدنا والذي يتباكى البعض بانه قد تدهور اليوم . هذا المسلك هو الذي انتهى بعد اربع سنوات لنحصل على قطيع من المدرسين ليس لهم من العلم الا التصفيق للحزب . ثم جاءت الحرب ليتخلص النظام من قطاع كبير من المدرسين والمعلمين القدامى الذين لا علاقة لهم بالحزب حيث تم وضعهم في جبهات القتال والسواتر الامامية في الوقت الذي وفر الحماية لاتباعه من خلال التوجيه السياسي في مقرات الفرق والفيالق وفي القدمات الخلفية للوحدات العسكرية، وبعد اربع سنوات من الحرب شعر النظام بحجم الكارثة التي اصابت التعليم بموجب هذا النزيف، او ربما شعر بان هذا القدر من النزيف يكفي استعدادا لصفحة قادمة فبدء بتاجيل خدمة المعلمين والمدرسين وبعدها عد خدمتهم التعليمية مجزية لخدمة العلم، وهكذا حل انصاف المتعلمين في سدة التعليم .واذ ان الفرصة متاحة ولابد من اهتبالها فقد بدء قطيع الجهلة هذا باختراق الدراسات العليا لتعزف على اوتار سمفونية القائد، فباتت رسائلنا واطاريحنا ليست سوى ملازم تطبل لـ (العدالة في فكر القائد) و(المراة في فكر القائد) وغيرها من العناوين البائسة التي باتت تلجا الى خطب القائد لتجري احصاءا عن المفردة المدروسة وتعتمد مقاييس مبتذلة لتخرج لنا نتائج اكثر ابتذالا ليس فيها الا التطبيل والتزمير للقائد . وهكذا غزت قطعان من الاميين والجهلة ذوي شهادات الماجستير والدكتوراه في فكر القائد اروقة الجامعات والمعاهد لتنتهي الى ما انتهت اليه الحال التي نعيشها . ان التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق كان ينبغي معالجتها بشكل علمي لاسيما وان البقية الباقية من ضحايا الحروب العبثية قد حرف بعضهم حصار جائر افقد المعلم والمدرس واستاذ الجامعة هيبته وجعله ضعيفا امام مافيات المال والفساد التي عشعشت في مجتمعنا ابان ذاك النظام ليكونوا الاباء الروحيين لمن جاء بعد التغيير فتفاقم الفساد ووصل الى ما وصل اليه . ان البحث عن انهيار التعليم في العراق ينبغي معالجته بوسائل عملية وليس بانشاءات تسقيطية يوظفها فاسدون في صراعهم مع فاسدين دون شعور بالغيرة والخوف على البلد .ان قطاع كبير ممن ادار التربية والتعليم في العراق لم يعرف ماهو التعليم وماهي التربية، فهو اما من قطعان تربية البعث المارة اعلاه او ممن عاش في بلاد اخرى مشغول بملذاته التي حجبت عنه حتى تعلم لغة تلك الدولة .

لقد كانت الاذاعات الموجهة من قبل المعارضة زمن النظام السابق تؤشر هذا الخلل الذي اصاب التعليم وتعد بانها تضع الخطط لمعالجته حال سقوط النظام، الا ان الغريب ان نجد بعد سقوط النظام تنافسا كبيرا بين من حلوا محله على السير في ذات الطريق وتسلق اسوء الوسائل للحصول على الشهادات العليا التي لا تقل هبوطا عن تلك، بل كان في نية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي سابقا العمل على الزام اولئك الهابطين بفكرهم الى ابدال رسائلهم واطاريحهم باخرى تهتم بقضايا اكثر جدوى للعلم والتعليم الا ان الهابطين الجدد، كما يبدو، قد حرفوا المسار لكي لا يطال هبوطهم .

ان ترصين التعليم بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص يتطلب عملا دؤوبا لاخراجهما من الوهدة التي وقعنا بها ونزلت بمستوى الشهادة العراقية الى الحضيض، وهذا لا يكون الا باصلاح البنية التحتية للتعليم من ابنية ومختبرات وتطوير علمي لكوادره بعيدا عن السلوك الاعلامي الذي نراه، فمقياس رصانتك ترتبط بالسلوك الطلابي العالمي الذي يهفو للحصول على شهادتك ويتجشم المشاق للانخراط في مؤسساتك التعليمية .

ان الحدب على التعليم والانفاق عليه جزء من الاستثمار المستقبلي للوطن والذي هو من اساسيات التنمية البشرية والذي يتطلب الابتعاد عن السلوك النفعي قصير الامد الذي يربط التعليم بالعوائد المادية القريبة، فالمؤسسات التعليمية تسعى لبناء الانسان القادر على حمل اعباء المستقبل العلمي للوطن، وليست دكاكين يُقاس جدواها بما تحققه من ربح يومي، واذا كان لابد من القياس على الربح اليومي فالاجدى بنا ان نهتم بما تنتجه المؤسسات التعليمية من براءات اختراع ليصار الى تحقيقها على ارض الواقع من خلال تفعيل المؤسسات المرتبطة باستثمارها، لا جعلها على الرفوف بعد ان يتم ادراجها في حقول جداول تقييم الاداء لمؤسساتها تباهيا بكثرتها . واذا كانت الحضارة قد بدأت حسب فرويد بان القى انسان غاضب كلمة بدلا من حجارة، فان التطور العالمي ينبني على مقدار ما تستثمر من براءات اختراع في الحقل الصناعي والانتاجي والذي يشكل تسريعا للتطور اللاحق والذي سارت عليه الامم .

ان مؤشرات جودة الاداء التي نجدها في مؤسساتنا التعليمية تبقى عرجاء ان لم نسع لجعلها بنية تحتية فعلية نبني عليها وطننا، ولعل هذا هو احد الاسباب التي تجعلنا متخلفين في تقييم ادائنا وعدم ارتقائه الى مستوى المعايير الدولية على الرغم مما نفيضه على بعض مؤسساتنا من مؤشرات جودة، مثلما هو احد اسباب ارتقاء المؤسسات التعليمية العالمية التي لا تتوقف عن البذل والسخاء تجاه مؤسساتها، في الوقت الذي لانجد بندا واحدا يتعلق بالبحث العلمي في ميزانياتنا منذ 2003 وحتى اليوم، بل المضحك ان تصبح الكوادر التعليمية مطالبة بالانفاق على تطورها العلمي وكانها تعمل لذاتها وليست جزءا من استثمار الوطن المستقبلي الذي لابد ان يرعاها ويسهم في دعمها .

ان التقليد الشكلي للنتائج لا يبني الاوطان، واذا كنا نجد المنجز العلمي للمؤسسات العلمية العالمية منشورا على الشبكة العنكبوتية، فهذا لا يعني انها وصلت الى ما وصلت اليه بهذا الاسلوب الفج بل ان هذا احد نتائج عمل دؤوب وانفاق عالي وتشجيع ودعم كبير، فما تنشره الجامعات ليس الا راس جبل الثلج والذي جسده المغمور بذل وعطاء وتشجيع، فاذا اردنا السير على خطاهم فعلينا ان نهتم بالجزء المغمور والذي تظهر نتائجه بشكل الي وهو ما يعفينا من كثير من المسالك البائسة التي نستخدمها مع الكوادر التعليمية وما يرافقها من تهديدات والزامات تنحو نحو الظهور الاعلامي اكثر منه البناء الحقيقي .

 

الدكتور محمد حسين النجم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم