صحيفة المثقف

رواية: ديسفيرال لـ نوزت شمدين.. قراءة واحدة لا تكفي!

محمد سيف المفتيثلاثة أصوات تسرد لنا قصة المريض (جابر) في رواية –(ديسفيرال) لـ نوزت شمدين، الصادرة عن دار سطور في العراق سنة 2019. راوٍ عليم يمهد لرحلة الغوص العميقة في سيرة الأب (سليم) أبن المدينة الذي يحاول ولنحو عشرة أعوام كسر الحاجز الخلافي الكبير بين والده وعمه (شيخ العشيرة في القرية) بسبب النزاع على سلطة قبلية وذلك من أجل الاقتران بابنة العم (زاهدة)، وعندما تخفق كل محاولاته، يوقع عليها عقوبة النهي عن الزواج المعروفة في العراق بـ(النهوة). فتظل معلقة مثل تميمة في بيتها لعشر سنوات لا يجرؤ شخص على التقدم لخطبتها، انتهت بمقتل والدها برصاصة وقيدت الجريمة ضد مجهول. ورضخت زوجة عمه بعد انتهاء فترة الحزن على تزويجه زاهدة. ليبدأ منعطف حياتي جديد في سيرته المليئة بالتقلبات.

تبدأ الرواية بإعلان القابلة تحقق نبوءتها وان المولود ذكر، ليبدأ حفل استمرار ذرية آل سعيد في حديقة المنزل الواسعة التي اجتمع فيها فضوليو الحي وهناك يتعثر الإمام شجاع أثناء قراءته دعاء العقيقة بأحد الكبشين المذبوحين ويسقط في بركة الدماء المتجمعة، فيلعن بيت آل سعيد ومولده المشؤوم وطبع خطواته الحمر الغاضبة في طريقه للخروج. بهذا المشهد المحبوك بحرفيه يدخلك نوزت شمدين أجواء الرواية مباشرة ويتعامل بذكاء مع أدواته، فالدماء لن ترتبط فقط بحاجة المولود (جابر) وطوال حياته لكيس دم شهرياً بسبب عدم مقدرة جسمه على صناعة الدم. بل لأن الإمام شجاع ستتلوث يده بدماء الأبرياء لانتمائه لجماعة مسلحة متشددة تفرض الإتاوات وهو ذاته الذي سيقتل بعدها بسنوات صديق جابر الوحيد (وليد)، ويسلب سليم المبلغ الذي خصص لإجراء عملية زرع نخاع العظم لجابر المصاب بمرض الثلاسيميا او ما يعرف بمرض شرق البحر الابيض المتوسط، وهو وراثيٌ ينجم عن زواج الأقرباء، لا يصاب به الوالدان إنما تظهر الإصابة في مولودهما وتلازمه مدى حياته القصيرة نسبياً، إلا إذا وجد متبرعا بنخاع العظم يطابقه جينياً ١٠٠% وتجرى العملية خارج البلاد بتكلفة تصل الى نحو مئتي الف دولار.   

الأم (زاهدة) تروي جزئها من الحكاية: « لم يكتفي الثلاسيميا بتعذيب أبني والعبث بجسمه المسكين فقط، بل أضطرني للمشاركة في تعذيبه". ص ٦٤. لأنها ستكون المسؤولة عن زرقه بإبرة الـ (ديسفيرال) في بطنه لتبقى هناك بين ١٠-١٢ساعة يومياً. فالدواء هذا مهمته سحب الحديد المتراكم في الاعضاء الداخلية لجابر بسبب تزويده بالدم. وأي توقف عن إعطائه الدواء يعني موته الحتمي تماماً كالتوقف عن تزويده بدماء الآخرين.

زاهدة التي عاشت صباها تخشى النظر الى إبرة تدخل قطعة قماش، تدخلها مرغمة في جلد أبنها كل يوم. يظهر جلياً أن الكاتب تعمد هذه الرمزية، فزاهدة هي الأم – العراق- وهنا تحديداً كان لزاماً مراجعة ما فات من الرواية لنجد أن الراوي أستخدم الاسماء والأحداث بنحو رمزي كما فعل مع الأم، فالصراع بين الشقيقين آل سعيد على زعامة القبيلة يبدو واضحاً أنها إشارة الى الصراع الطائفي الدائر في العراق منذ ٢٠٠٣، ونضال سليم من أجل الاقتران بابنة عمه ينجم عنه ولدُ يحمل مرضاً مزمناً (الحكومات العراقية المتعاقبة). وهذا المولود لا يعيش إلا إذا زود بدماء (الآخرين) وحتى حلم خلاصه من المرض لن يتم إلا بحصول معجزة العثور على متبرع بالنخاع، على ان تجرى العملية (خارج) البلاد حصراً. لأن لا حل داخلي مطلقاً.

1047 ديسفيرال يسرد جابر كذلك جانباً من القصة بنفسه، ويروي صراعه مع المرض ونظرة المجتمع اليه وإلى أقرانه من المرضى الآخرين الذين يعانون من إهمال الدولة، تماماً مثلما أهملت من قبل مسألة فحص ما قبل الزواج لمنع ظهور الإصابات. فلا مؤسسات صحية قادرة على إجراء عمليات لزرع النخاع، بل لا يوجد في البلاد سجل للمتبرعين به والعراق ليس عضوا في السجل الدولي لنخاع العظم. كما أن الدواء غالي الثمن لا يصل بانتظام الى المرضى الذين يظلون متشبثين بجهود جمعيات الثلاسيميا الفردية في المحافظات العراقية، وهي اصلا من تقوم بالتنسيق بين المرضى والمستشفيات في ايطاليا على سبيل المثال لإجراء العمليات بالنسبة للمحظوظين الذين يعثرون على متبرعين بالنخاع. وهكذا يموت العشرات من المرضة سنوياً بصمت، فهؤلاء لا يعمرون بحسب الاطباء أكثر من ١٧سنة إذا لم تتوفر لهم الرعاية الصحية المطلوبة، وهي بلا شك غير متوفرة في العراق.

كما أن المرضى يشكون كذلك ي من عدم فلترة الدم، فيحفظ في المصرف المختص ويعطى للمريض كما هو دون تصفية، وهو ما يتسبب بآلام كبيرة للمرضى. مع عدم مقدرة مختبرات الفحص عن مواكبة التطور في العالم، ويحدث أن تخطيء في الفحوصات كما يحدث لجابر الذي يؤكد مختبر في العاصمة بغداد على تطابقه نسيجيا مع شقيقه (ايثار) لكن في نهاية الرواية عندما تصل العائلة الى ايطاليا بعد جهد ومشقة كبيرين، يؤكد المختبر الايطالي عدم وجود تطابق وان الفحص العراقي كان خاطئاً ليتبدد الحلم الكبير ويواصل جابر سيره نحو مصيره المحتوم.

كل هذا يطرحه نوزت شمدين بالتوازي مع مشاكل اجتماعية كثيرة يعاني منها المجتمع العراقي، (الدجل والشعوذة، الاحتلالات المتعاقبة، الفساد في المؤسسة الحكومية، الصراع الطائفي- سلفي وصوفي- سني وشيعي،...) ويكون الثلاسيميا رمزاً لا يمكن الخلاص منه إلا بسلسلة معقدة جدا من العلاجات التي يجب ان تشترك بها الاسرة مجتمعة.

وتحدث الصدمة الحياتية الكبيرة لجابر، عندما يعمد المسلحون المتشددون الى قطع رأس صديقه الوحيد وليد، بسبب إمتهانه بيع السراويل الداخلية واتهموه (بالمشي فساداً في الأرض). فيتحول وليد المصاب بشلل الاطفال منذ صغره الى شخص مكتمل تلازم روحه جابراً وتسدي له النصح في شؤونه الحياتية.

 ويمد نوزت خطوة خيال واسعة أخرى عندما يجعل مع نقل الدماء الى جابر انتقال شيء من روح المتبرع اليه، فيتمكن وخلال ثلاثة الى أربعة أسابيع وهو عمر الدم المنقول من الحصول على ذكرياته ومشاعره وخبراته الحياتية، ويكون ذلك متعته الوحيدة في عالم عزلة شكله مرضه وتشدد عائلته الديني الذي منع التلفزيون وكثير من مباهج الحياة الأخرى.

 "تأخر موتي كثيراً، تجاوز أسقف توقعات الأطباء ومديات الدعية الموجهة الى الله لبقائي حياً "، يتغير السرد هنا، ففي وقت تواصل فيه زاهدة والراوي العليم سرداً متوازيا نحو النهاية، يعود جابر ليسرد من النهاية في تشابك معقد للأزمنة يدوزنها الكاتب بهدوء راسما لوحته السردية بامتياز.

"حصيلة نحو ثلاث وعشرين سنة من العيش على دماء الآخرين، تُظهر رجالاً ونساءً، ملحدين ومتدينين، مسلمين ومسيحيين، الكثير من الفقراء وقليل من الأغنياء. مرَ بشراييني متزوجون وعزاب وأرامل، سعداء وتعساء، متعلمون واميون وموظفون وعاطلون وفنانون وفلاحون ورياضيون وجنود وطلاب جامعات .....".

جسد تحول الى محطة دخلها الكثيرون خلال مسيرة حياتية حافلة بالألم قبل ان تظهر(ليان). وهي بائعة زهور، تنذر دمها وتتزود به لمصرف الدم من أجل عودة حبيب تركها لظروف عائلية، فيقطر دمها فرحاً وأملاً في جسد جابر، الذي يعرف تفصيل حياتها كلها من خلال دمائها (قطرة فقطرة) ليتمسك بالحياة ويعد ذلك عدالة من الله الذي محى بحبه ليان كل سنوات المرض الموجعة.

يبدأ بسماع الموسيقى التي تحبها ليان، ويهتم بالفن التشكيلي، ويحاول تغيير هياته التي خربها المرض. ويذهب لزيارتها في محلها التي تبيع فيه الزهور ويشتري منها العشرات من انواع الزهور ويظهر لها اهتماماته التي انتشلها في الحقيقة من ذكرياتها في داخله ليكسب إعجابها.

يسانده وليد في خطوته القلبية تلك ويذكره باستمرار أن الدماء سينتهي عمرها قريباً والدماء الجديدة التي سيأخذها سيحل صحبها محل ليان فيفقدها الى الابد إن لم يتمكن من الحصول على اعجابها بلقاءات مباشرة. وفي المرة التي أوشك فيها على البوح بحبه، يظهر حبيب ليان ليستعيدها تحت أنظار جابر الذي يعود أدراجه كسير القلب. تماماً مثلما عاد من اسرته قبل سنوات من جزيرة سردينيا بعد تأكيد عدم تمكن اجراء العملية له بسبب خطأ في فحص التطابق النسيجي.

قراءة واحدة لا تكفي لهذه الرواية المؤلفة من (٢٥٦) صفحة والتي تعد الأولى من نوعها في العالم التي تتحدث عن مرض الثلاسيميا. سرد جميل يأخذ المرء مع الجملة الأولى ولا يتركه إلا عند الجملة الاخيرة عندما يلجأ جابر الى عالمه السري الذي بناه لنفسه هربا من آلام زرقة بالإبر وإشفاق الناس من حوله. ليحتج على مرضه ويبكي هناك كما يشاء بينما جسده بين أيدي الاطباء متيبس مثل جذع شجرة لا تشعر بشيء حتى وإن دقت بألف مسمار.

 

محمد سيف المفتي- النرويج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم