صحيفة المثقف

مراثي غيلان أو عندما تبتكر الإنسانية الخرساء آلية للحوار

ليث الصندوقسعد الصالحي، أو الدكتور سعد الصالحي هو شاعر، وقاص، وموسيقي، وخارج هذه الأقانيم الإبداعية هو طبيب متخصص بجراحة الفكين والأسنان، وتلك الصفة الأخيرة غالبة على الكثير من نصوص الأثر الذي نحن بصدده، ومنه تكتسب طابعها الإنساني، وحيويتها الروحية والحسية معاً . ومنه أيضاً يجد البعض مسوغاً لتفسير النصوص بالربط ما بين الكاتب والراوي المشارك / الطبيب في الكثير نصوصه، وأرى أن هذا الربط يشوّه القراءة، ويقوّل النصوص ما لم تقل، فالشخصية الإبداعية – كما يُقال - تبقى - بالرغم من كل الملامح المشتركة مع خارجها – كائناً من ورق، بعكس الشخصية التاريخية التي هي من لحم ودم .

عُرف الكاتب ب (مراثي غيلان) قبل ال facebook، وأحسب أنه نشرها في كتاب، لم أطلع عليه مع الأسف، لكني اطلعت على أكثر ما كُتب عنها . ثمّ جاء ال facebook فنشر على دفعات منها جزءَها الثاني الذي يُفترض أنه لم يُنشر في المطبوع، وهذه القراءة هي حصراً لبعض نصوص الجزء الثاني، ومن ال facebook حصراً .

ألإشكال الأول الذي يواجه القاريء وهو يقبل على هذه المدونة النادرة هو صعوبة التجنيس، فهي مزيج من جملة أجناس وأنواع أدبية وغير أدبية، فيها الشعر، وفيها السرد، وفيها التقرير الإبلاغي، والمذكرات، وفيها أيضاً الفولكلور والسياسة والتاريخ، بل وحتى فيها الطب والموسيقى، وهي تقترب إلى حد ما من السيرة الذاتية، وتبتعد عنها أحياناً لتكون سيرة غيرية . ولكنها تمرّ عبر راوٍ مشارك بالفعل، أو أحياناً مشارك في النقل بالسماع (لغة على لغة) . وفي الحالة الأولى يتم التبئير من خلاله، أما في الثانية، فيتقاسمه مع المروي عنهم .

والشخصية المحورية / الراوي المشارك هي شخصية ذات دور واحد وملامح ثابتة في جميع النصوص تقريباً، والتغيير فيها قد ينجم عن تطورها تبعاً للمراحل الزمنية، وبالعموم فالشخصية قوية، ومعتدّة بنفسها وببيئتها الإجتماعية وبتقاليدها وثقافتها وقيمها الإنسانية . وهي أيضاً شخصية إيجابية غير مأزومة ولا تعاني مشكلة ثقة مع نفسها، ولا مع القاريء، لذلك لا تتحرّج من الإنفتاح عليه واتخاذه صديقاً، مزيلة أمامه كل العوائق المكانية والعرقية، بل وحتى الأسرية، فتعرفه على أقرب أقربائها وأصدقائها بالأسماء والعناوين، بل تُدخله إلى جوّ البيت ليتعرّف على أفراد ألأسرة ويشاركها أحاديثها وطقوسها اليومية .  

وبالرغم من أن السرد خارجي في الغالب، وأن الراوي لا يعرف عن شخصياته أكثر مما يروونه هم له، إلا أن ذلك لا يلغي دور الحواس في تنشيط لغة مشتركة لا تتجاوز محدداتها الطبيعية وخواصها البايولوجية، وتبقى الرسائل الإيحائية التي توصلها إلى الراوي عن المروي عنهم هي رسائل خاصة به، وخاضعة لتأويلاته، وأن التواصل الإنساني عبر تلك النظم الإشارية ذات الحساسية العاطفية العالية (ألعيون / نبرة الصوت / وجيب القلب / حركة الأصابع ... ألخ) لا يعني اختراقاً لظاهر الشخصيات، أو معرفة بخفاياها، بقدر ما يعني أن الإنسانية قمينة دوماً بابتكار وسائل اتصال غير مادية وغير مُقعّدة لإدامة التواصل بين البشر متخطية العوائق والحواجز التي يضعها البعض لتعويق الإتصال والتحاور المادي بينهم .

توظف النصوص تلك الممكنات الحوارية غير المادية للتواصل ما بين الراوي وشخصياته بحيث لا تكاد تخلو من تأثيراتها قصة، ومنها تكتسب إمتيازها، فالتعاطف الإنساني يتجاوز تابوات النظم السياسية الحاكمة والمتحاربة مع بعضها ليكون واسطة الإتصال الآمنة حتى بين الأسير الجريح والطبيب في الجانب الآسر، وهذا ما سنقف عليه لاحقاً .

سعد الصالحيأما لغة المراثي، فتتسم بطراوتها وحيويتها وجرأتها التي لا تتهيب ولا تتعالى على الحوشيّ والعامي والغريب سواء في الحوارات أو المفردات أو العبارات أو في العناوين، وتلك السمات تُضفي على النصوص أجواء واقعية حميمة وتُبعدها عن التكلف والحذلقة من دون تزويق بلاغي مبالغ به، مع عدم تنازلها عن القيم الجمالية الراقية وضمن موازنة تحتفظ بقدر معقول من الشعرنة . ولعل قمة الجرأة أن تُدرج بالنص رسالة بحروف عربية، وبلغة هجين هي ما بين العربية والفارسية كما في قصة (من جعبة الأسى) .

أما الإشكالية الأخرى التي تواجه القاري، وهو ما زال عند تخم العنونة (مراثي غيلان) فهي في كلا المفردتين اللتين تبدوان بحاجة إلى تفكيك، لكنه تفكيك من جانب واحد لا يُلزم به الكاتب الحرّ في عمله . فدواعي اختيار النوع الإدبي (مراثي) قد يبدو مفهوماً في ضوء نبرة التحسر والندم على ضياع القيم الإنسانية، وعلى زمن الماضي الرخيّ والجميل، وعلى أناسه الطيبين الوادعين، وعلى افتقاد الأجواء العائلية الأليفة والحميمة، وكذلك على خسائر الحروب وكوارثها، وعلى فقدان الأحبة . فهي مراثي للعالم الذي ينزلق باتجاه العزلة والقسوة والتوحش . ولكن ما لا يبدو مفهوماً هو نسبة المراثي إلى غيلان، فهل هي له؟ أم هي عنه؟ وإذا ما وجدنا الإجابة، وتجاوزنا المراثي إلى صاحبها ستواجهنا إشكالات أخرى تتمثل في تحديد هوية وملامح وأبعاد وموقع شخصية غيلان داخل النصوص، من يكون؟ ولماذا غيلان بالتحديد؟ وأين موقع هذه الشخصية الغائبة من النصوص؟ وهل هو – وتلك إمكانية تأويلية قابلة للنقض – هو الراوي المشارك نفسه؟ وهل الراوي، أو غيلان هو ذاته الكاتب يتخفى وراء قناع زجاجي عبثاً يُخفي ملامحه ليكتب من ورائه سيرته الذاتية؟ أسئلة كثيرة تثيرها العنونة، وتلقي ثقل حيرتها على النصوص . وقد تبدو الإجابة ممكنة لولا التخريج النظري الذي سبق أن ألمحنا إليه، والذي يفصل ما بين الشخصية الورقية والأخرى التي من لحم ودم .

ولو افترضنا جدلاً أن الراوي الذي هو في جميع النصوص راوٍ مشارك، لو افترضنا أنه هو ذاته المعني بالأسم (غيلان)، بالرغم من أن النصوص جميعها تعفيه من التسمية،  فستواجهنا إشكالية أخرى دار حولها جدال نقدي طويل تتمثل في ضرورة التوافق ما بين طبيعة الشخصية ودلالة تسميتها . فدلالة الإسم لغة هي نقيض دلالته سردياً، فالأولى هي جمع غول ذلك المخلوق الخرافي الوحش، أما غيلان النص فعلى العكس من طباع غيلان اللغة رقة ودماثة . بل وإنسانية أيضاً .

منذ السطور الأولى من النص الموسوم ب (من جعبة الأسى) وهذا النص نُشر في وقت آخر على ال facebook تحت عنوان (قصاصة الأسى) من دون تغيير في المتن . أقول منذ السطور الأولى يكشف الراوي هويته المهنية، فهو طبيب جراح عسكري موكل بإجراء عملية لجريح أسير . وهذه العملية هي التي تُفجّر التوتر داخل النص من خلال التناقض ما بين موقعي كل من الجريح / الأسير من جهة، وما بين الضابط / الطبيب في الجهة الأخرى . فالإثنان ينتسبان إلى دولتين في حالة حرب، وأن الأول هو جريح حرب تحت رحمة مباضع الجراح المنسوب للطرف الذي أسره . وبالرغم من انقطاع لغة التواصل اللساني بين الإثنين فهما ينتميان لأمتين مختلفتين، وللغتين مختلفتين ايضاً، إلا أن لغة أخرى ما فوق النظم اللسانية هي التي صارت اللغة المشتركة ما بينهما، وصار بإمكانهما تفعيل قاموسها الموروث من عصور البشرية الأولى لترجمة ما عجزت عنه لغة اللسان . أنها لغة الأواصر الإنسانية التي تجمع ما بين البشر على اختلاف ألسنتهم، وجهازها اللغوي هو العيون (لم تكن ما بيننا لغة مشتركة سوى ما تبوح به الأعين) .

لكن الجهاز اللغوي للراوي المشارك / ألطبيب الجراح لم يشأ أن يبقيه في منطقة لغة الإبصار (لغة العيون)، فغريزته اللغوية تعيده مهما ابتعد إلى لغة اللسان، ليُترجم بها ما قالت لعينيه عين الأسير، فإذا بلغة البصر تتحول إلى لغة طبيعية ملفوظة، وإذا بالدموع تتحول إلى كلام عربيّ فصيح (فقالها عربية فصيحة بصمت، وكانت دموعاً هطلت مصحوبة بنشيج امتنان ما قدرت على تحمله) . ولأن التحية لا تُردّ إلا بأحسن منها، لذلك كان ردّ الطبيب الجراح على تحايا الدموع نشيجاً موشكاً أن يتحوّل إلى نحيب (فغادرتُ الردهة، وأنا على وشك أن يكون نشيجي كذلك نحيباً مسموعاً) .

وكما استقبلت عين الطبيب نظرات الأسير وترجمتها إلى لغة عربية فصيح، أستقبلت عين الأسيرنظرات الطبيب ودموعه، وترجمتها بنفس الآلية العاطفية إلى لغته الفارسية . وبالرغم من أن النص لم يُفصح عن تلك الترجمة، إلا أنه ألمح إليها عبر محاولة الأسير الردّ متجشماً عناء التوفيق ما بين اللغتين الطبيعيتين في رسالة إلى طبيبه . وتلك الرسالة الغريبة التي وصلت للطبيب بيد أسير مريض آخر تستحق التوقف عندها، فهي رسالة غريبة حقاً، وغرابتها تتأتى من وجهين:

الوجه الأول: انها رسالة بخط فارسي، وبلغة مزيج هي في ظاهرها عربية، ولكن بقواعد فارسية . ولهذا المزيج دلالته الإنسانية، فهو مزيج ذي دلالات عاطفية من لغتين مستقلتين لبلدين متحاربين، أي أن ما أرادت أن تقوله اللغتان لبعضهما في فضاء الإنسانية، هو غير ما تقوله إرادة حربهما في جبهات القتال . بل إن الرسالة بصيغتها المفتوحة على اللغتين، هي نقض للحرب المنغلقة على نفسها وعلى لغة دمارها . لقد كان من الأيسر على الأسير إيصال شكره وامتنانه لمنقذه شفهياً عبر وسيطه / الأسير الآخر المريض، ولكن إصراره على المغامرة الخطيّة بلغة لا يجيدها هو بحد ذاته محاولة مخلصة للتعبير عن الإمتنان وكأنه أراد القول لمنقذه: من أجلك أتخطى عوائق اللغة التي باعدت بين أمتينا ودفعتهما للتحارب .

ألوجه الثاني: ليس من اليسير على القاريء العربي في خارج المناطق المتاخمة للحدود الشرقية من الوطن العربي تفهّم رسالة الأسير الإيراني، وقد يظنها من لغة أخرى شرقية ثالثة، فهي لغة هجين، لا هي خالصة للعربية من حيث المعاني، ولا الألفاظ، ولا الصياغات، إلا في المغزى البعيد الذي يدركه القاريء من علاقة يخمنها مع عربيته، وإن إدراج الراوي للرسالة في نصه بنفس صيغتها  يُعدّ مغامرة سردية لا أحسب أن سوى سعد الصالحي جرأ عليها، وهو بهذه الجرأة يُرسّخ واقعية الحدث، فليس من اليسير اصطناع نصّ مزيج ومثيل من قبل شخص يجهل إحدى اللغتين .

بيد أن الجانب الإنساني الدفاق بمشاعر صادقة تجاه الآخر المختلف، أو القادم من الطرف المعادي لا يكتفي بتبادل وترجمة لغة الحواس ملتقطاً مفرداتها الطافية من على سطح مقلة العين فحسب، بل يتخطاها بحثاً عن جهاز لغوي آخر مدفون في أعماق الصدر، أنه القلب الذي ينطق بلغة الوجيب، وجيب قلب الأسير الجريح، في لحظة حرجة ما بين الحياة والموت على منضدة التخدير، حيث تتداخل، وتتحاور معه حواس الطبيب (أحسست وجيب قلبه ينبض متسارعاً مع تسارع شجني) وليس بنا من حاجة للتذكير بأن التحاور اللغوي المتعسّر ما بين اللسانين المختلفين، ينضاف إليه التحاور الحسي ما فوق اللغوي عبر النظر والنبض، هو تحاور ما بين شخصين يفترض منطق القوة السائد وقت الحدث أن أولهما في موقف الضعيف المنكسر / الأسير، وثانيهما في موقف المهيمن / الطبيب في الجانب الآسر . ومع تلك المعوقات تمّ الحوار بشكليه الإثنين ليثبت أنه ممكنٌ، وأن الحواجز المصطنعة للفصل ما بين البشر هي حواجز طارئة وعقيمة، فاللغة بأشكالها المختلفة كفيل بمدّ الجسور، وإزالة المعوقات، وتحسين صورة الآخر .

واللغة البديل التي كانت واسطة الحوار الإنساني ما بين الأسير الجريح والطبيب، هي ذاتها التي لجأ إليها (العقيد الطبيب) في النص العفوي (تشريب الكبة والحصار)، وهو نص يُخفي أكثر مما يُعلن، ويوحي أكثر مما يتكلم، وسنرجيء نبش المخفي مؤقتاً معرجين أولاً إلى اللغة البديل التي تحمل صاحب الرتبة العسكرية العليا / العقيد، وصاحب المهنة الموقرة إجتماعياً / الطبيب، تحمله صباح - أو على حدّ تعبيره (مُصباح) بضمّ الأول – كل جمعة إلى مقهى الخرسان في الميدان، وهذا الحمل هو بدافع لغوي، وإن بدا الأمر عكس ذلك، أو بدافع البحث عن لغة بديل، وتلك اللغة هي لغة الصمت التي تتخذ من الأصابع جهازها اللغوي (كنت عقيداً طبيباً في الجيش، وفي (مُصباح) كل جمعة اعتدت المرور بمقهى الخرسان في الميدان، مصغياً لصمت نقاشات أصابعهم الصاخبة) . بيد أنّ هذا الجهاز اللغوي الفريد لا يجيد لغة الصمت فحسب، بل هو يفرضها على المتحاورين معه متخذاً من أحد مكوناته (أصبع السبابة) عارضة لإيقاف أو إسكات الجهاز اللغوي التقليدي / الفم، خصوصاً عندما يتطرق المتحاورون إلى موضوع حذر، وهذا ما يُفهم من حديث بائع الكُبّة المرتاب للراوي (وضع سبابته على شفتيه، واقترب مني هامساً: بابا لا تفضحنا ... ) . ومن الواضح أنّ عناية الراوي باللغة البديل قربته أكثر من المنظومة السيميولوجية المتعلقة بالملابس العسكرية، فالعلاقة الرمزية ما بين الدوال / القمصلات الزيتوني / الأحذية الحمر / ألرتب العسكرية على الأكتاف (أو بالأحرى إخفاء الرتب من الأكتاف) في المقبوس  (دلفت يوماً ما – ظهيرة سبت – مصادفة إلى محل بائع كبة بمرقة حمراء، لأجد نفسي بين عدد من العسكريين من مرتدي القمصلات الزيتوني بأحذية حمر، وبلا رتب على الأكتاف) وبين المدلول / الرتبة العسكرية، وهو مدلول مخفي تحت القمصلة العسكرية، نجد دلالتها في خاتمة النص عندما يتبيّن أنّ أحد هؤلاء ذوي الرتب المخفية تحت القماصل هو ضابط برتبة عقيد ركن .

ومن الواضح أن ثمة علاقة ما بين اللغة البديل، والنص المخفي الذي أشرنا إليه آنفاً، فكلاهما يلمحان ولا يصرحان . وفي مواجهة القاريء يستأثر الراوي بالمهمة الأولى / التلميح، وعلى القاريء أن يتكفل لنفسه بالمهمة الأخرى / التصريح . وإن كانت المهمة الأولى محصورة بسطح النص، مما يزيل أثر الخلاف عليها زيادة أم نقصاً . إلا أنّ المهمة الأخرى / مهمة القاريء هي التكفل بباطن النص، أي بما يُتوقع من النص، وفي الحالين فالمهمتان تخمينيتان وخاضعتان للسجال .

ولعل ذروة ما أراد الراوي إخفاءه أو إعلانه في وقت واحد، هو إحدى غايتين يقصد الراوي من أجلهما مقهى الخرسان في الميدان، أولهما ما يتعلق باللغة البديل، وقد أشرنا إليه آنفاً، وثانيهما هو (صفّ – القندرجية – لألمع قندرتي، ووجه – ذلك الذي في بالي دائماً – أيام الحصار، أمام محلات الكبة والمرق والتمن) . ولعل المعني ب (ذلك الذي في بالي) سيبقى مجهولاً إن تُركت الجملة، أو شبه الجملة على إطلاقها، ولكن تعمد الراوي تزمينها ب (أيام الحصار) يجعل المعني بها معروفاً للذين عاشوا مرارة الحصار .

وعوداً إلى العنونة (تشريب الكبة والحصار) وهذا الربط اللماح ما بي العبارة الشعبية (تشريب الكبة) ومفردة (الحصار) وهما من مجالين دلاليين مختلفين تمام الإختلاف، فالأولى – وهذا تعريف مبتسر لغير أهل هذه الدار من رجل لا يفقه في فن الطعام شيئاً - أكلة شعبية عراقية يعرفها الفقراء من عمال وطلبة وباعة الذين لا يجدون ما يأكلونه في بيوتهم وهم يُغادرونها صباحاً إلى مكاسبهم، فيتناولونها على الأرصفة أو لدى بعض المطاعم الشعبية . أما الثانية (الحصار) فمن البدهي أن المقصود به هي العقوبات الدولية الشاملة التي خضع لها العراق في أعقاب احتلال الكويت، والمفردة في العنونة، ومن ثمّ في النص ليست إحالة للعقوبات بصيغتها السياسية، بل هي إحالة لوقعها المدمر على حياة الناس .

ومن الوضح أن ربط العبارة والمفردة معاً بحرف العطف (الواو) هو لتشكيل نص مواز ودال، أريد منه تبيان عمق حالة العوز التي أوصل الحصار القاسي المواطن العراقي إليها بحيث استعصى حتى على عِليتهم تناول صحن الكبة، وصار مرقها وثريدها فحسب، وكما يقول الراوي أكلة (ملكية النكهة)، وقد انعكس هذا التأثير على النص في جملة مشاهد، منها مشهد الضابط الكبير في وزارة الدفاع الذي لم يمكنه ضيق حال اليد من شراء صحن الكبة، فتناول بدله صحن المرق .

وكما تحاور الطبيب مع الأسير بلغة النظر في (من جعبة الأسى) عاد محاوراً نميراً في (تخونوه) من دون أن يقدم – كعادته في كل نصوصه الأخرى - أي تعريف مسبق بالشخصية تاركاً القاريء يكتفي بالاستنتاج الموجز الذي يفي بحاجة النص فحسب، ومفاده أن نميراً هذا هو عازف أكورديون، وقد كان عزفه لأغنية عبد الحليم حافظ  (تخونوه) مع زميله الآخر محمود هو واسطة التعارف بينهما . بينما كانت لغتا الموسيقى والعيون اللغتين المشتركتين بينهما، وقد لحقتهما لغة ثالثة قديمة قدم الإنسان إنفرد بها الراوي حصراً وراح يعتمد قاموسها ليترجم ما عصيَ عليه من لغة العيون التي يتحدث بها صديقيه نمير ومحمود، وتلك هي لغة الصمت التي سبق للراوي أن أصغى لنقاشات أصابعها في (تشريب الكبة والحصار)، وقد عاد إليها في (تخونوه) معبراً عنها بثلاث صيغ، ثنتان منها فعليتان بلفظين مختلفين، ودلالتين منفصلتين ولكن متجاورتين ولو عن بعد / أنصتُ و أرقب، والصيغة الأخرى أسمية ومباشرة / ألصمت (شاهدت نميراً، وأنصتّ لعزفه على الأوكورديون صحبة محمود عازف الكمان الأول بانسجام روحي دفعني للصمت، وأنا ارقب مسحة الحزن المتدفقة من عينيهما على أنغام مقدمة أغنية تخونوه لعبد الحليم حافظ) .

ويمتدّ زمن السرد في (تخونوه) لخمس وعشرين سنة، وهو عمر العلاقة ما بين الراوي ونمير، لكن الأول يختصر هذا الزمن في حياة نمير بثلاث محطات وظيفية، أدى نمير في كل منها دوراً مختلفاً وكالتالي: 

ألمحطة الأولى: جندي في الوحدات القتالية خلال الحرب العراقية الإيرانية .

ألمحطة الثانية: ألخدمة في مدرسة الموسيقى العسكرية .

المحطة الثالثة: نزيل مستشفة الرشيد العسكري .   

أما المحطة الرابعة، فهي خارج مسيرته الحياتية لثلاثة أسباب:

ألسبب الأول: لأنها شهدت ميتته مصاباً بورم في الدماغ .

ألسبب الثاني: لأن الموت يُعطّل كل الوظائف .

ألسبب الثالث: لأن الموت حدث ضمن المرحلة الثالثة، أي في مستشفى الرشيد العسكري .

بيد أن هذه المحطات لا تمثل سوى المراحل الأخيرة من حياة نمير، أو الجانب الذي بمقدور الراوي الشهادة عليه، أما الجزء المهمل من مسيرة حياته، أو المحطات الأولى منها فهي خارج معرفة الراوي، أو خارج حدود تغطيته، فالنص يعبر عن رؤية موضوعية محكومة بزمن التعارف فقط، ولذلك يمكن عدّ النصّ بأنه نصّ الراوي الذي يتشارك مع المروي عنه في كتابة الجزء المشترك بينهما من حياة الثاني .

ومن ثمّ يغادر المروي عنه النص ليتركه خالصاً للراوي لا تشاركه معه به سوى أحزانه، وهذا التفرد الذي أخذ شكل الإحتجاج ضد الموت شمل حتى الأغنية التي كانت سبب التعارف بينهما (ولم أعد أستمع لأغنية تخونوه إلا بعد أن أكون مخموراً) . ومع ذلك، فالخمرة ليست وصفة سحرية لإدامة حالة التفرد بالدور، بل هي على العكس من ذلك الضامن الأكيد لاستعادة المروي عنه المغيب إلى الأبد عبر لغة العيون الحزينة التي كانت مع لغة الموسيقى واسطتي التعارف ما بينهما (ولم أعد أستمع لأغنية تخونوه إلا بعد أن أكون مخموراً جداً، كي أسترجع تلك المسحة الحزينة التي رأيتها في عينيه قبل خمس وعشرين عاماً) .

وعوداً على بدء، نجد أن اتجاه سير الأحداث في (من جعبة الأسى) هو عكس مثيلتها (تخونوه) ففي حين كانت بداية النص الأول مغلقة / أسر + عملية جراحية، إلا أن الخاتمة شهدت انفتاحاً / نجاح العملية الجراحية + شفاء الجريح ومغادرته المستشفى + علاقة ود بين الأسير الجريح والطبيب . وهذه الخاتمة تفتح بوابة التأويلات على مصراعيها في ضوء وجود كل من الراوي / الطبيب والمروي عنه / الأسير على قيد الحياة . أما في النص الآخر (تخونوه) فقد كانت البداية منفتحة / عزف موسيقي عذب + صداقة بين الموسيقي والراوي . إلا أن الخاتمة شهدت انغلاقاً / موت نمير / المروي عنه . وبموته فليس هناك ما يروى . لكن هذا الفارق ما بين النصين لا يلغي حقيقة الدوافع الإنسانية المحركة للأحداث في النصين، والتي نجد كذلك صداها البعيد في (تشريب الكبة والحصار) مدفوناً تحت طبقة من الكوميديا السوداء .

وكوميديا الحاضر السوداء في (تشريب الكبة والحصار) تتلبس صيغة زمنية أخرى هي كوميديا الماضي السوداء في (حرب وسيكارة وحكاية) . ففي حين كان الراوي هو الشاهد والناقل المباشر لتبعات الحصار وآثاره على الناس في (تشريب الكبة والحصار)، صار الراوي في (حرب وسيكارة وحكاية) هو الناقل بالسماع عن الجد / ألشاهد والراوي الفعلي لإحدى حكايات المعارك ما بين الجيش العثماني المندحر، والقوات البريطانية الغازية في الفاو . أي أنه في النص الأول كان يرى ويروي، بينما صار في الثاني يسمع ويروي، والفرق ما بين الحالين أن موقع التجربة في حياة الرائي عن قرب، هي أعمق من موقعها في حياة السامع عن بعد، وهذا الفارق يتجلى باكتفاء الراوي التعليق على ما يسمع، كما تجلى في عدم قدرته على تخمين نتائج المعركة المروية حتى نهاية الرواية بدليل سؤاله العفوي لجده (جدو، يعني أنهزمتوا؟) بالرغم من أن تفاصيل المعركة المروية وخسائرها كانت تنبيء بوضوح منذ أول الحكي بالنتيجة .

وربما يمكن فهم سؤال الراوي بطريقة تداولية من تقدير المقام الذي في إطاره رويت الحكاية على أنه سؤال مغرض ومتعمد كان من قبله الراوي وجماعته من الأحفاد الصغار يعوفون نتيجة المعركة تمام المعرفة، ولكنهم تعمدوا سماعها من فم الجد مباشرة، وفي هذه الحال يكتسب السؤال بعداً رمزياً، يمثل المتسائل فيه / الأحفاد الصغار رمز الحاضر، ويمثل الجد رمز الماضي، وإن إصرار الأحفاد على سماع النتيجة من فم الجد هو إصرار الحاضر على إقرار الماضي بهزيمته واندحاره، فالهزيمة التي يتحدث عنها الجد كانت في ساحة المعركة قبل عقود بعيدة من الزمن، وكانت يومئذ هزيمة جيش مقابل آخر، وأمة أمام أخرى . لكنها اليوم فقدت بعديها التاريخي والعسكري، وصارت على فم الجد هزيمة سردية يرويها من ذاكرة تجاربه الشخصية وليس من مضان التاريخ، فهي اليوم هزيمته هو، وهي هزيمة زمنية وحضارية للماضي أمام الحاضر الذي يمثله جيل الأحفاد / الرمز .

ولا بدّ لنا من وقفة عند هؤلاء الأحفاد الماكرين والراوي المشارك أحدهم، فقد حاول بدءاً من السطر الأول من النص تفرده في السرد من خلال ضمير المتكلم (الياء) المتصل بالفاعل (سيق جدّي ...) لكنه سرعان ما تنازل لجماعة الأحفاد عن المهمة بدءاً من السطر الثاني، وحتى نهاية النص:

- حدثنا وهو يولج طرف سيكارته ...

- يصمت على ترقبنا

- ونحن نتملى دخان لفافته

- نفث نفساً آخر من سيكارته على وجوهنا ونحن نتساءل

وبذلك تراجع صوت الراوي المفرد، وحلّ محله صوت الأحفاد .

وعوداً إلى هزيمة الجد وفراره اللذين ما عاد لهما بعد تقادم الزمن عليهما نفس وطأتها أيام الأحداث، فالزمن كفيل بتحويل الهزيمة إلى تندّر يتوارى خلف التشبيهات الساخرة (كان دخان بنادقنا القديمة أكثر تأثيراً علينا من رصاصاتها التي تسقط كالبعرور، لا تُصيب هدفاً، ولا تمنع عدواً) أو الصورة الطريفة والظريفة معاً (هرب بعدها منا من هرب، وقتل من قتل، وما وجدت خطاي قد توقفت عن الجري إلا على باب الدار في جيزاني الإمام) .

وفي حين كان الجد يروي، كان (الحفيد / الأحفاد) (لا يكتفي / لا يكتفون) الإصغاء (بأذنيه / بآذانهم) فقط، بل (هو / هم) (يصغي / يصغون) (بعينيه / بعيونهم) أيضاً (محاولاً / محاولين) إيجاد حالة مواءمة وتوافق ما بين الحاستين، أو ما بين ترقب و (تملي) دخان سيكارة الجد، وما بين الإصغاء لمرويته (... يصمت آناً على ترقبنا ونحن نتملى دخان لفافته، ليعاود الحكاية آناً آخر) وكأنهم لا يصغون للجد فحسب، بل يصغون لحديث الدخان أيضاً . والقصة تكشف عن منظومة تواصل أخرى غير منظومة لغة الحواس، فالدخان بشكليه (دخان سكائر الجد، ودخان بنادق المقاتلين) يتجاوز حدود صفاته الفيزياوية، ليصبح شفرة لرسائل موجهة من قبل الجد مباشرة / دخان السكائر، أو موجهة من الماضي البعيد إلى الحاضر / دخان بنادق المقاتلين .

ففي مرحلة ما قبل البدء يكون كلاً من الدخان والحكاية في الغيب المخزون لدى الجد، وأية علامة لتحرير أحدهما وظهوره، هي علامة لظهور الآخر . فالعلاقة بينهما جدلية (حدثنا وهو يولج طرف سيكارته)، إنها الإستعدادات الأولى لانطلاق سباق الحكي، فإذا ما انطلق الدخان وتأخر الحكي فذلك يعني أن خلالاً ما قد عطله، لذلك يستعجل السامعون / الأحفاد جدهم (أي جدو ... وبعدين)، فيستمهلهم مؤنباً فيهم عجالتهم التي ربما تعني له أنهم يشككون في قدرته على المواصلة واجتراح الحكي (دصبروا شوية، عليش مستعجلين ... تجيكم السالفة) .

وكما كان أحد القرينين سبباً لظهور الآخر في البدء، فأن غياب أحدهما سيكون علامة لغياب الآخر في الختام (ثمّ نفث دخان سيكارته بوجوهنا ثانية) .         

(ملحق بنماذج من نصوص مراثي غيلان ج / 2)

من جعبة الأسى

أدخلوه عليَّ إلى صالة العمليات وقد غطوا عريه بوشاح معقم . لم تكن سوى عينيَّ ظاهرتان من بقية وجهي المكمم بالكامل، لكنه عرفني ونظر إلي مباشرةً وقال بإيرانيةٍ واضحة لكنها بصوت متهدج:

- سلوم ألَيكم دُكتُر

وهم يتابعون إجراءات التخدير كان مستمراً بالتحديق في عينيَّ وأنا أقف لصق جانبه الأيسر متمماً فيهِ تسليمه لقدرٍ سوف تحفل به أكفي على صفحة وجهه الذي انكسر منه عظم الوجنة بحادث عرضي . أحسستُ وجيب قلبه ينبض متسارعاً مع تسارعِ شجني وأنا أشعر في نظراته نحو وجهي توسله لشيءٍ ما، أو حنينٍ ما، وأنه وحيدَ المضجع لا أهلٌ ولا رفيق أو قريب .. إلَاي .

فراح صارخٌ من أعماقي يتدفق مصوِّتاً، أما له من أمٍّ لا تعلمُ الساعةَ أن قد ترفَّ روحه فوق رأسها لطاريءٍ ما أثناء عملية من هذا النوع المحفوف بكل الإحتمالات المميتة؟ أو أبٍ أو أخٍ أو ... حبيبة؟

بعد أن أنهيت عمليته، عًدْتُهُ مساءً، ووجدته يتحدثُ ببهجةٍ مع أقرانٍ له من الأسرى في ردهتهم . حاول النهوض ليحتضنِّي فوضعتُ كفَّيَّ على كتفيهِ وأعدته الى وسادته . لم تكن بيننا لغة مشتركة سوى ما تبوح به الأعين . فقالها عربيةً فصيحةً بصمت وكانت دموعاً هطلت مصحوبةً بنشيجِ امتنان ما قدِرْتُ على تحمله، فغادرت الردهة وأنا على وشك أن يكون نشيجي كذلك نحيباً مسموعا .

وصلني بيد مريض أسير آخر، مغلَّفٌ صغير منه بعد ان غادر المستشفى بأسبوعين . كان المغلف يحتوي هديته إليَّ، معجون وفرشاة أسنان وعلبة سكائر، ورسالةً عربيةً كتبها بيده وبخطٍّ فارسي، مفادها كما رُسِمَت:

((تقديماً لحضور الدكتور السيد الرائد سعد فاضل، اطلب الله تعالى صحتكم وصحة اهلكم ومن جهتي اشكر من الطافكم واخلاقكم الحسنة، هذه الهدية الصغيرة يراوي اخلاص وحب قلبي لأنها بلا سعر ويراوي رضاية قلبية حارة وارجو الله ان يطوّل هذه العلاقات بيننا وبينكم وانا خجلان من خدماتكم واخلاق الرئوفة، اندعي عند الله تعالى ان الاسرى يرجعون وساذكرك انشاء الله عند اهلي، اسمح لي لان الاسير ماله شيءٌ، يا اخي العزيز ماانسيك انشاءالله وارجوك ان لا تنسيني،

اسير / اخوك الصغيرحسين نوشهري)) .

تشريب الكبة والحصار

كنت ُ عقيدا ً طبيباً في الجيش، وفي (مُصباح) كل جمعة اعتدت ُ المرور بمقهى الخرسان في الميدان، مصغيا ً لصمت ِ نقاشات أصابعهم الصاخبة، ثم صف (القندرجية) لألمِّع َ قندرتي ووجه (ذلك الذي في بالي دائما ً) أيام الحصار أمام محلات الكبة والمرق والتمن.

دلفت ُ يوما ً ما – ظهيرة سبت ٍ – مصادفة ً، الى محل بائع كبة بمرقة حمراء، لأجد نفسي بين عدد ٍ من العسكريين من مرتدي القمصلات الزيتونية بأحذيةٍ حُمر ٍ وبلا رتب ٍ على أكتافهم .

دفع أحدهم دينارين للبائع مقابل صحن مرق ٍ من دون (كُباية ٍ)، وأخرج من جيب قمصلته رغيف خبز ٍ ثرده فيه وراح يلتهم الوجبة كأنها ملكية َ النكهة .

بعد خروجه سألت ُ البائع هامسا ً:

- عمي الله يخليك ِ ما تكَـُّلي شنو سالفة هذا العسكري ابو الثريد بلا كبَّاية؟

وضع سبابته على شفتيه واقترب مني هامسا ً كذلك:

- بابا لا تفضحنه، هذا عقيد ركن بالدفاع ومغطي الرتبة بالقمصلة، بس الله مطيِّح حظه بهالحصار!

هذه ليلتي

وغربت الشمس في (راغبة خاتون)، فكان لابد أن أتم َّ رش أشجار (الرارنج) وشجيرات (الياس) وأرض الطارمة ليتولى بعدها رياض إبن عمتي توصيل (بلك) نشرة المصابيح أم (كَلوبات) الصِفِر بألوانها الزرق والخضر والحمر الخابيات بين الأغصان. فقد آن موعد وصول أبي ببضاعته الخرافية لليلة الجمعة .

صاح أبي:

- أم سعد جيبي (ميز) الفورميكا الأخضر بالعجل

وكان قد تأبَّط كيسين أسمرين من أمهات الخمس فلوس ملئن بما لذ وطاب . رحنا أنا ورياض نرتب فرش (الجرجف) الأبيض على صفحة ميز الفورميكا مع راديو سوني المتربع عرشه . جلس أبوك يا سعد وجعل يحرك ميله حتى استوى الصوت على إذاعة صوت العرب مترقبا ً أغنية أم كلثوم الجديدة . قال رياض:

- ها خالو تحتاج شي بعد

- إي .. جيبولي كاستين كبار

وفتح بعدها أحد الكيسين فأخرج عبوتين من جبس البطاطا، تلاهما كيس كرزاتٍ ولبلبي وبا قلاء ثم رمان مفرَّط، ذلك قبل أن تتوج أمي الطاولة بصحني زلاطة وجاجيك بالخيار والثوم من الدرجة الأولى ومن النوع المصلاوي، فهمس لي رياض:

- سعودي يمكن خالي اليوم راح يسويهه صدكَـ ويشربله عالأقل نص بطل عركّـ، خصوصا ً الشغلة بيها رمان مفرَّط وكاسة جاجيك؟

حانت الساعة وتناول كيسه الثاني وكلنا ترقب على اتساع أعيننا أنا ورياض .. لكنه قبل أن يمد يده تذكر شيئا ً آخر فنادى:

- روحوا جيبلي دولكة مي بارد وعليها ثلج

قلت ُ والله إنه قد قرر على عرق (المستكي) الذي اعتاد عليه أخوالي وأعمامي في سهراتهم على شواطي أبي نؤاس . صدح صوت أم كلثوم بعد ان أذاقنا من كل تحف مزَّاته نصيبا ً، ومد يده الى الكيس، فأخرجها – والله - قنينة بيرة (فريدة) واحدة فقط، شامخة ً بكل هيبة الوصول آمنة ُ على عرش الطاولة

نديم .. إبن عمو حافظ

أحبَّ ابنة عمتهِ واصطحبني معه ليقض مضجعي انتظاراً على باب دار أهلها ساعاتٍ وساعات في راغبة خاتون، ذلك بعد عودتي منهكاً من المتوسطة الغربية عند الرابعة عصراً. إستسلمتُ لنديم لأنه كتب لي كلمات أغنية (يا مسهرني) وقال لي إنها من ألحان رجل جديد على عالم أم كلثوم اسمه سيد مكاوي . فجدد لي بذلك عاماً آخر من حياتي .. إذ كانت أم كلثوم .. كل حياتي .

أُسِــرَ نديم في معارك الشوش – ديزفول عام 1982 أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وما رأيته ثانيةً في العراق إلا بعد إطلاق سراحه في العام 1997 .. بائساً، مكبوتاً، غير مرحِّبٍ بي في زاوية من أسواق أبيه (أسواق عمو حافظ) قرب شارع (ماجد أمين)، التي أغلقها بعد حينٍ وهجر محلتنا (راغبة خاتون) وتركني أتساءل:

من كان نديم؟

تخونوه

شاهدتُ نميراً، وأنصتُّ لعزفه على الأكورديون صحبة محمود عازف الكمان ألأول، بآنسجام روحي دفعني للصمت، وأنا أرقبُ مسحة الحزن المتدفقة من عينيهما على أنغام مقدمة أغنية تخونوه لعبد الخليم حافظ .

أحببتُ في نميرٍ صبره على خدمته العسكرية في وحدات القتال المحترقة خلال سنين الحرب الإيرانية - العراقية حتى توسطت له نقلاً إلى مدرسة الموسيقى العسكرية بباب المعظم في بغداد .

كانت لحظة فارقة يوم إستمعتُ لصوته عبر هاتف مستشفى الرشيد العسكري الداخلي ليخبرني أنه يرقد في ردهة المراتب المصابين بألأمراض العصبية . تركتُ خفارتي في ردهة الوجه والفكين وأسرعتُ مهرولاً إلى تلك الردهة المشؤومة، سلمتُ عليه بحرارة وقبلته وجلستُ على سريره متفاجئا بصحته الجيدة، طلبتُ من ممرض الردهة أن يجلب لي طبلته لأقرأ ما فيها، وكما أخبرني فقد كان يعاني من صداع بسيط ولكنه مستديم على الرغم من المسكنات التي بات يتناولها بشكل مستمر، قرأت التشخيص:

(ورم دماغي خبيث في الفص الخلفي من المخ) ..!

قال لي بصوت فيه الكثير من الأسى:

- دكتور، خابرت كل أصدقائي بمدرسة الموسيقى العسكرية بس ولا واحد منهم إجاني، آني والله مشتاق أشوفهم وخصوصاً محمود الكمنجاتي .

عدتُ صباح اليوم التالي إلى ردهته كي أطمئن على حالته من الطبيب المختص، وجدتُ السرير فارغاً، سألتُ ممرض الردهة:

- إبني وين نمير؟

- سيدي البارحة ورا نص الليل إنطاك عمره .

توفي نمير، وآمتنعتُ عن زيارة مدرسة الموسيقى العسكرية، ولم أعد أستمع لأغنية تخونوه إلا بعد أن أكون مخموراً جداً كي أسترجع تلك المسحة الحزينة التي رأيتها في عينيه قبل خمسة وعشرين عاماً .

أبو يونان

لابد لي من تذكره والحنين لروحه الغريبة والعجيبة، زميلي في إعدادية النضال للبنين في سنك بغداد وقلعة الشيوعيين أيامها ونحن على مشارف السبعينيات .. هنري واهان كَرابيت، يوم اعتلى رحلة وراح يهتف:

- إبشروا ياقوم، بطل البيرة صار بمية وعشرين فلس .. لحكَوا وياية على شارع سينما الخيام

ويا أبقاه الرب، ظل يزورني في بيت اهلي براغبة خاتون، وفي كليتي بطب الأسنان، وينير تواصله بالمحبة الجمة بلا تردد أو تأخر طيلة سنوات دراستي فيها ودراسته في كلية الإدارة والإقتصاد .

كنت ُ وما زلت ُ أذكر بريق عينيه، وسعادته بصحبتنا مع أقرانه بإعدادية النضال في الفرصة بين الدوام الصباحي والظهري عند ناصية همبركر أبو يونان في قلب شارع الرشيد ... يلتقف اللفة المدورة، ويلتهمها بشهية متقدة كدأبه مع كؤوس البيرة في البارات، أو ولعه بالقفز من درجة أبو الأربعين فلس في صالة سينما أطلس، إلى الدرجة الثانية أم المية وعشرين فلس أثناء انطفاء الأضواء وبدء تسارع الشاشة بالمقدمات النارية .

بعد أربعين عاما ً من افتقادي له، تكبدت ُ الإنترنيت والفيسبوك بحثا ً عن أثر له .. توقا ً وشوقا ً لصوته ومحياه الآسر ... لم أوفق .

حربٌ وسيكارةٌ وحكاية

سيق جدي توفيق العبو مع من سيق الى (السفر بر) لمقاومة الإنزال البريطاني في الفاو أثتاء الحرب العظمى . حدثنا وهو يولج طرف سيكارته بتُخْم الياسمين، يصمتُ آناً على ترقبنا ونحنُ نتملَّى دخان لفافته ليعاود الحكاية آناً آخر . قال:

- كان دخانُ بنادقنا القديمة أكثر تأثيراً علينا من رصاصاتها التي تسقط كالبعرور لا تصيب هدفاً أو تمنع عدواً .

ثم نفثَ نفساً آخرَ من سيكارته على وجوهنا ونحن نتساءلُ (إي جدو ... وبعدين؟)، قال:

- دصبروا شوية، عليش مستعجلين .. تجيكم السالفة

ثم أردفَ، نظرتُ إلى جاسم الجمون على يميني يصرخ من جرحٍ في جبهته، وما أن مددتُ يدي اليه حتى أصيبت بطلق من (الأنكريز)، صرختُ متألماً وأنا أصيح (وين الطواب؟) فإذا السماء تفتح علينا بقذائف مدفعية الكفار لا تبقي بشراً ولا مذراً على رمال الفاو . لم تدم تلك المعركة أكثر من (جارك) ساعة، هرب بعدها منا من هرب وقتل من قتل، وما وجدتُ خطايَ قد توقفت عن الجري إلا على باب الدارِ في (جيزاني الامام) ببعقوبة .

قلتُ:

- جدو، يعني انهزمتوا؟

- إي جدو ... انهزمنا، ذولة (الأنكريز) بلوة مال ألله، عدهم هاي (الفيكرس) ما يوكف كدامها بنيادم . والتُرُك طلع سلاحهم لا بي خير ولا غيرة .

ثم نفث دخان سيكارته بوجوهنا ثانيةً .

أنحني بكل الإجلال والإحترام والتبجيل لأستاذي وأستاذ الأجيال، الناقد الكبير البروفيسور شجاع العاني، الذي تكرم وكتب عن قرطاس (مراثي غيلان)، وعلى صفحته الشخصية ما مفاده نصا ً:

مراثي غيلان

الى صديقي سعد الصالحي

بشغف كبير قرأت قرطاسك الذي اطلقت عليه عنوان (مراثي غيلان) والذي ابدعت فيه صنفا جديدا في جنس السرد يجمع بين السيرة الذاتية والقص الجد قصير بحيث يمكن ان نطلق على كل صورة في هذا القرطاس مصطلح (قسيرة).

ولقد تذكرت وانا اقرأ هذه الصور التي سبق ان قرأت بعضا منها على الفيس بوك وكأنك تريد ان تقول للقارئ:

انتهى عصر الكتابة والطباعة الورقية ونحن نشهد عصرا جديدا هو عصر الكتابة والادب الالكتروني وها انا ابدع شيئا يناسب هذا العصر.

وانا اقرا قرطاسك تذكرت قول فلوبير عن رائعته مدام بوفاري:

مدام بوفاري هي انا!

لقد جاءت المراثي صورة لصاحبها فالابتسامة المشرقة تتسلل من بين الالام والموت والدمار لترسم للقارئ ضوءا وسط عالم ظلامه حالك. وقد اكسب البحث عن المفارقة والطرفة والنكتة لهذه الصور مذاقا فريدا لون هذه الواقعية الشعبية الغليظة التي تتميز بها.

واذا كنت ساستشهد هنا بصورة (تاريخ بلغاريا الحديث)، فاشير الى مواضع لاستخلاص الحكمة كما هو الامر مع صورة (الحبال)، على ان مما اكسب هذه الصور طابعا فنيا خاصا، هو هذه العفوية في السرد التي نجدها في السرد الشفاهي الشعبي للكاتب بالاستهلال او الختام في هذا السرد، فهو يقسم قائلا (والله العظيم) مستهلا احدى الصور او (والعباس ابو فاضل) في اخرى، هذا فضلا عن استخدامه اللغة المحكية في خطاب الشخصيات احيانا.

والكاتب والحق يقال يمتلك قدرة عجيبة لا في تصوير الشخصيات بل وفي تصوير لغاتها ايضا واحيل القاريء الى صورة (حسين بانزين) والى هذه اللهجة الموصلية (ول ابويي لقيتو مكَدي ..عيغجف من البغد، اعطيتو اللي الله قاسمو مني وشلحتو القاط ولبستو ودفيتو) ومن المؤسف ان الكاتب عاد ليترجم هذا الخطاب بالفصحى . والحقيقة ان اللغة المحكية هنا اسبغت على هذه الصورة طابعا خاصا بدونه كانت ستفقد الكثير.

اهنئك اخي سعد فانت لا تسجل خرقا في السردية العربية حسب بل وتضيف اليها لونا من حقك ان يسجل باسمك.

أول النساء

في الثاني متوسط، أرسلتني أمي لألبي طلب جارة لنا كي أظل معها وجيزا ً لغياب زوجها بعد الظهر . وقد كانت تلك المرأة تقلي الكباب، وتغسل الخضرة، وتعد الشاي لاستقبال ضيوفِ زوجها عشية ذلك اليوم . إقتربت الساعة من السادسة قبل مغيب شمس الشتاء، وكنت ُ أطالع قصة من قصص جبران خليل جبران، شغوفا ً بتلك الرومانسية الفتية في روحي بغرفةِ الإستقبال .

دخلت المرأةُ الغرفة، وقد كانت متدثرة بروب ووشاح كتف أبيض – ما زلت أتذكر أيضا ً أنها كانت ترتدي بيجامة شفافة – وقالت:

- بعد عشر دقايق راح يجون الخطار، تعال دا أبوسك كَبل ما تروح لبيت ماما

حشرتني خلف باب الغرفة، وقبلتني من فمي وهي تحرص على مضغ شفتي َّ باتقاد، ثم شعرت ُ – أول مرة ٍ في حياتي – بجسدِ أنثى، يطبق علي َّ، وهي تهصر فخذي بين فخذيها، حتى صَرَخَتْ بعد لحظات بتأوه ٍ شديد . كنت ُ لا أعلم لماذا فعلت ذلك !

لم أخبر أحدا ً بتلك الواقعة الغريبة إلا حبيبتي، التي كانت أكبر مني خمس سنوات، فأجابتني بغضب:

- إنجب أدبسز، مو عيب تحجي على باجيتي هالشكل؟!!

قصاصة الأسى

أدخلوه عليَّ إلى صالة العمليات وقد غطوا عريه بوشاح معقم . لم تكن سوى عينيَّ ظاهرتان من بقية وجهي المكمم بالكامل، لكنه عرفني ونظر إلي مباشرةً وقال بإيرانيةٍ واضحة لكنها بصوت متهدج:

- سلوم ألَيكم دُكتُر

وهم يتابعون إجراءات التخدير كان مستمراً بالتحديق في عينيَّ وأنا أقف لصق جانبه الأيسر متمماً فيهِ تسليمه لقدرٍ سوف تحفل به أكفي على صفحة وجهه الذي انكسر منه عظم الوجنة بحادث عرضي . أحسستُ وجيب قلبه ينبض متسارعاً مع تسارعِ شجني وأنا أشعر في نظراته نحو وجهي توسله لشيءٍ ما، أو حنينٍ ما، وأنه وحيدَ المضجع لا أهلٌ ولا رفيق أو قريب .. إلَّاي .

فراح صارخٌ من أعماقي يتدفق مصوِّتاً، أما له من أمٍّ لا تعلمُ الساعةَ أن قد ترفَّ روحه فوق رأسها لطاريءٍ ما أثناء عملية من هذا النوع المحفوف بكل الإحتمالات المميتة؟ أو أبٍ، أو أخٍ، أو ... حبيبة؟

بعد أن أنهيت عمليته، عًدْتُهُ مساءً، ووجدته يتحدثُ ببهجةٍ مع أقرانٍ له من الأسرى في ردهتهم . حاول النهوض ليحتضنِّي فوضعتُ كفَّيَّ على كتفيهِ وأعدته الى وسادته . لم تكن بيننا لغة مشتركة سوى ما تبوح به الأعين . فقالها عربيةً فصيحةً بصمت وكانت دموعاً هطلت مصحوبةً بنشيجِ امتنان ما قدِرْتُ على تحمله، فغادرت الردهة وأنا على وشك أن يكون نشيجي كذلك نحيباً مسموعا .

وصلني بيد مريض أسير آخر، مغلَّفٌ صغير منه بعد ان غادر المستشفى بأسبوعين . كان المغلف يحتوي هديته إليَّ، معجون وفرشاة أسنان وعلبة سكائر، ورسالةً عربيةً كتبها بيده وبخطٍّ فارسي، مفادها كما رُسِمَت:

((تقديماً لحضور الدكتور السيد الرائد سعد فاضل، اطلب الله تعالى صحتكم وصحة اهلكم ومن جهتي اشكر من الطافكم واخلاقكم الحسنة، هذه الهدية الصغيرة يراوي اخلاص وحب قلبي لأنها بلا سعر ويراوي رضاية قلبية حارة وارجو الله ان يطوّل هذه العلاقات بيننا وبينكم وانا خجلان من خدماتكم واخلاق الرئوفة، اندعي عند الله تعالى ان الاسرى يرجعون وساذكرك انشاء الله عند اهلي، اسمح لي لان الاسير ماله شيءٌ، يا اخي العزيز ماانسيك انشاءالله وارجوك ان لا تنسيني،

اسير

اخوك الصغيرحسين نوشهري)) .

مرت سبعة وعشرين عاماً والرسالة (القصاصة) مؤطرة ومعلقة على جدار من جدران الدار، وفي بقعة كبيرةٍ على ... شغاف قلبي .

السياسيون الكبار

 

فوجئنا بضحكاته المجلجلة ونفسه المتقطـِّع من شدتها، الجد العصملي ينادي بكلمات نصف منطوقة وقد دمعت عيناه من فرط قهقهاته المتلاحقة. (نريد استقلال كردستان)، خُطـَّت باللون الأحمر على واجهة دارنا في اربيل؛ ولما كان الجد العصملي هو المنوط بكل إجراءات العائلة السياسية فقد فسّر لنا وجه المفارقة المقترنة بوجود الشعار على جدار دارنا بالذات.. متسائلاً من سيصدق لحاق اللون الأحمر بنا من بدرة إلى أربيل..!؟ لكنه حسم الأمر بوعي تاريخي مباشر، ذلك أنه بكـَّرَ في صبيحة اليوم التالي وقد خط َّ باللون الأزرق على واجهة الدار (منحتكم استقلال كردستان)..!

ترتب على كل ذلك أن أجمعت كافة فصائل الحركة الكردية عبر مخيلتها الشعبية في أربيل على وطنيــــــة (العصملي) وضرورة ارتدائه الزي الكردي الخاص بالمدينة كلما تسنى له ذلك لاسيما في الدعوات التي ستقام لأجله، وأن يسمح لهم بزيارته في الأوقات التي يراها ملائمة ليكمل لهم أقاصيصه عن الحرب العظمى وعظمة آل عثمان المتأخرين ومناقب سندرسن باشا، ثم اتفقوا جميعا على التنازل عن استقلال كردستان إلى المطالبة بالحكم الذاتي جبراً لخاطره العزيز عليهم..! إلا أن كل ماتقدم لم ينقطع لحد الآن بفضل مؤازريه من أجيالهم اللاحقة

الشوفرليت 58

لن تتحداني على شدة التصاق انحناءات الجدران بباب الدار في مخيلتي أي أرقام، ذلك أن أنصاف الأقواس بقيت تحيط بكل الأشكال الدائرية للقلاع والسقوف المحدبة والأبراج وتكورات سراويل الكرد وعمامات رجال الدين، لكنما ظلت عقالات الأعراب وحدها عصية على التآلف مع الشحنة الذاكراتية .. ربما لأن الألتصاق ظل منوطا بنكهة اللبن الصباحية في أربيل !

 يعصف صوت منبه سيارة (نعمت علي الشكرجي) أمام إنحناءات الجدران المحيطة بباب الدار فيتضخم الصدى بأنغلاقه في المجاز الضيق لا ليوقظنا حسب ولكن ليسرع بنا الى جولة معبئة بالتجدد في كل لحظة من أعمارنا أنا وأختي هناء.

نتبوأ ُ مقاعد الصدر في سيارته الشوفرليت 58 الحمراء ونطوف في نطاق حول القلعة المتسامقة، ثم ينثني بنا الى المستشفى لنغني أناشيد مرتبكة أمام (منعم) ابن خالتنا (سعاد) الراقد بشلل الأطفال في ردهة خالية من الطفولة. يشاركنا الطفل المعاق بكردية بريئة غناء الأهزوجة:

- كريمة .. زعيمة، كريمة .. زعيمة

إن نعمت علي الشكرجي، زوج خالتي، سليل ظهور الجبال العنيدة والبرجوازية المضمحلة مازال عنيدا كصلابة قفا أجداده، يعيش وينفق العديد من الأولاد على مصائر كثيرة .. أغلبها لم يعد مجهولا

العنبة الهندية

في السينما، كانت لنا المقصورة - اللوج - تمتلئ بالكرزات والجبس وقناني الكوكا كولا وتعليقات أمي غير المنقطعة عن آفا كاردنر وإليزابيث تايلور وأيفون دي كارلو، ثم لفـّات العنبة الهندية بالبيض المسلوق وشرائح الطماطة..إنه ذلك المزيج الأسطوري الأصفر المضمخ بالفلفل الحار وقطع اللب الذي تأبـّدَ قرينة ً لاهوية لصالة عرض أفلام لي من دونها، لطالما ظللتُ أتحرقُ شوقا ً لتلك الظلمة المفاجئة والصفير الصاعق ومقدمات الأفلام السريعة.. لتلك النكهة الحريفة والمذاق اللاذع ؛ حتى أن رياض وهو مصابٌ بجراحه في مستشفى مندلي كان لايني يذكـّرني - على الرغم من آلامه - كيف كنت أصيح على بائعها في صمت الصالة وظلمتها:

- تعال أبو العنبة..

بلا استئذان منه أو حساب لجيبه الذي يعود به خاليا ًتكـّرما ً لي بالعنبة الهندية.. كيف تسنى له أن يتذكر شهيتي لها على فراش جراحه بلغم بتر نصف كف قدمه اليسرى؟

 قال فجأة:

- تتذكر سينما سيروان في أربيل؟

- نعم أتذكرها تماما ً

- كنت أكثرنا سعادة بأفلام الحروب

- نعم ومازلتُ

- لاتخدعنك أفلام الحروب، فالموت لا يحتمل مزاجنا، دعني أقـّبلـُك أيها العزيز.

وراح بعد هنيهات في إغفاءة عميقة !..

تمنيت ُ أن لا تجتمع نكهة العنبة الهندية التي ذكـّرَنيها رياض ونكهة المعقمات وعطن أكياس الرمل التي حـُصـِّنـَتْ بها شبابيك مستشفى مندلي .. بنكهة أخرى، مقرفة تماما، كان لابد من ألإحساس بها كلما تذكرت سعادتي بأفلام الحروب.

بلا استئذان منه أو حساب لجيبه الذي يعود به خاليا ًتكـّرما ً لي بالعنبة الهندية.. كيف تسنى له أن يتذكر شهيتي لها على فراش جراحه بلغم بتر نصف كف قدمه اليسرى؟

 قال فجأة:

- تتذكر سينما سيروان في أربيل؟

- نعم أتذكرها تماما ً

- كنت أكثرنا سعادة بأفلام الحروب

- نعم ومازلتُ

- لاتخدعنك أفلام الحروب، فالموت لا يحتمل مزاجنا، دعني أقـّبلـُك أيها العزيز.

وراح بعد هنيهات في إغفاءة عميقة !..

تمنيت ُ أن لا تجتمع نكهة العنبة الهندية التي ذكـّرَنيها رياض ونكهة المعقمات وعطن أكياس الرمل التي حـُصـِّنـَتْ بها شبابيك مستشفى مندلي .. بنكهة أخرى، مقرفة تماما، كان لابد من ألإحساس بها كلما تذكرت سعادتي بأفلام الحروب.

أربيل...لماذا؟

 لأنها خطوة إلى عالم فسيح أكبر، لأنها الغربة في حضن الوطن ولأنها الوطن في المنافي ! تلك أسباب لها ماعليها، ولها وجه خالتي وأبنائها الكرد، أولاد نعمت الشكرجي، سليل برجوازية مضمحلة بأذيال الأغوات؛ صالتان للسينما وكازينو وبقالة حلويات مضمخة بالدهن الحر وكلال السكر الإيراني وألف إعجاب بـِ (سامية جمال)، ولأجلها أقترن نعمت الكردي بشبيهتها (خالتي المصلاوية).. كما أنه مازال يعشق السينما وغرفة (المكينة) التي يحتفظ فيها دائما بطاولة على صفحتها ربع عرق وصحن باقلاء صغير وقطع من (النومي حامض) مع علبة سيكاير (كريفن أبو البزون)، جدران ملأى بقامات الراقصات وأوجه الممثلين المليئة بالرغبات العجيبة !! ألفُ حب ٍّ لنفسه وجنرالات حروبه الجبلية!..

يمضي الزمن ونحن أطفال ودمى من الخرق وعجلات من الأنابيب المطاطية وألعاب بلا هويات قومية، لغتنا الرصيف وعداءاتنا اختفاء خلف الجدران وتحت أغطية البراميل، بيتنا يطل على حرية الشارع وعلى فضاءات تتراءى في أفقها ذؤابات الجبال القريبة بجبروتها المطل على ربوة المقبرة القريبة. كنت أحس بامتداد رطوبتي عبر الفراش إلى جدران الدار وعفونة الباب والشوارع المكتسية بالبرد والحالوب.

أنها أربيل، الخلاص الذي عاد به أبي من نجيب الربيعي والمنفى بالوجه الآخر لعائلة ربما اكتشفت أخيرا أنها بلا مبادئ.

اليباب

نظرت عصر اليوم بسرعة الى الدور (الخاوية) المجاورة ...

لصقنا دار الرائد سعيد التكريتي رحمه الله (توفي اثر سكتة قلبية)، ثم دار العقيد حماد (خُطف واغتيل على يد مجرمي القاعدة)، تليها دار المرحوم الجار البطل عميد القوات الخاصة، ومعلم التدريب العنيف لقوات النخبة، صكَـر العجيلي (توفي بسرطان الكبد بعد معاناة شديدة).

وكان أملي شديداً أن يظل خليلي اللواء الطبيب الأستاذ الدكتور وزميل كل الأوقات الحميمة والعصيبة والجميلة .. قيس عبد اللطيف مصطفى الزبيري على قيد الحياة نتذاكر معا ً جيرة أولئك الأحبة، لكنه غادرني مستعجلا بعقابيل سرطان الكبد كذلك بعد أن شفي منه لوقت لا بأس به في مغتربه بالإمارات .

 (ألخمس دور) كما يسميها أهالي تكريت لم يتبق منها سوى داري المطلة على شارع البلاج .. وأطل على وحشتي وحيدا ً بعد انقضاء ثلاثين عاما ً بتلك الجيرة الطيبة أكابد فقدانها كل ساعة .. كأنني ألوم بقائي بعدهم على قيد .. السرطان

تاريخ بلغاريا الحديث

 (مراثي غيلان)

في زمن الحصار، وبعد أن سألني (سلمان داود محمد) لمَ تصر على ارتداء بذلتك العسكرية برتبتك حتى ونحن في سوك الهرج، تبعثرالزائرون للمريض الراقد في (الصورة) الملقاة على كونية أم القلمين، مبتسمين وحالمين بكشخة المناسبة .

 ثم تواتر الجمع في صورة أخرى على جمعةٍ في (سلمان باك)، ليندغم كل ذلك بعشق تجوالنا صباحاً في السوق أمام دكان مصور تراثي عرض تلك الصور لمئات المجهولين ببذخ الذكريات البغدادية على قارعة رشيــدٍ من بقايا الزوراء . وانتبهنا معاً مأخوذين بطوابق المنظر إلى كدس المكالمات المجففة في آلاف الهواتف العاطلة مع سمتِ استكان شاي وصديق يشارك صاحب الدكان عبر دخان سيجارة كلاماً عن السجاجيد الكاشانية العتيقة .

توقفنا قبل الرحيل عن السوق حذو فجة صوف مهترئة يشمخ على سطحها (تَـكْ) بسطال أحمرعراقي، تراصفت لصقه دمية بلاستيكية عارية، بكرة منضدة عاجية ارتجلت كرأس لها تَـبَـرَّجَ بألوان النساء، ثم سبانة (14)، مع رقعة حية ودرج، وسِـفْرٍ ضخم بألفين صفحة عنوانه (The History of Modern Bulgaria) .

وظل في ذاكرتي سمتِ استكان شاي وصديق يشارك صاحب دكانٍ عبر دخان سيجارة كلاماً عن السجاجيد الكاشانية العتيقة .

 

ليث الصندوق

......................

ألحلقة الرابعة من: أضواء على أدب ال facebook

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم