صحيفة المثقف

تنوير مناسك الحج

(وأشرقت الأرض ُبنور ربها). هذه الآية تجلت أمامي حين بدت الكعبة المشرفة شاخصة بشموخها وجلالها وجمالها لأول مرة عام ٢٠٠١، حين أتيتها حاجة تعتريني مشاعر الخوف والرهبة والشوق العارم.

أي أحد منا تشرّف لحج البيت الحرام في أي فترة من عمره، بالتأكيد كان يفكر بفريضة صعبة يريد أداءها، وهو إن أدّاها خفف عن ظهره ثقلها كونها واجبة وشاقة. التفاعل معها حسب طبيعة الشخص. البعض يؤدي مناسكها أداءً عاديا كمن يؤدي رياضة بدنية خاصة تتخللها تمتمات بأوراد وأدعية، وينتهي كل شيء. والبعض عاشها بحالة شبه متخشبة، وبلا أدنى تفاعل كما رأيت وسمعت من بعض المثقفين في مكة في المشاعر المقدسة؛ أنه أتى لإستطلاع الحج بحد ذاته فيؤدي المناسك أداءً روتينيا، ثم يعود ليكتب تجربته في الحدث. والبعض عاشها تجربة روحية مكثفة وخصبة جدا. بكل الأحوال هنيئا لمن أدّاها بصبر وإخلاص، والأجر على قدر المشقة و(إن الله لايضيع أجر المؤمنين).

بمرور الزمن حين أتذكر تجربة الحج، وأتفحص بعمق فيها؛ أراها تنفرد بمعانٍ عدة؛ أود تسليط الضوء عليها خطوة خطوة حسب تدرجّها:

- الميقات: هو نقطة الانطلاق للسفر الروحي ؛ يعني سفر الروح الى عالم المعنى. حين الإحرام يتجرد الجسد عن اللباس الدنيوي. الكل يتّزي بزي يختزل في طياته كل الطبقات والفوارق والأعراق واللغات، فهو موحد واحد. الجسد يرتدي لباسا خاصا يناسب عالم الروح، تماما نفس اللباس الذي يلف جسده حين الولادة وحين الوفاة اذ يختصر كل اختلاف البشر(يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير).

- التلبية: هي إعلان لله أن الجسد تجرد عن عالمه المادي، وهاهو ياربي قادم لرحابك فاقبله جاءك منصاعا طائعا موحدا اياك.

- الولوج في المسجد الحرام: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال). طمأنة الروح رويدا رويدا استعدادا لسفرها. في هذه النقطة بالذات تعتري الحاج مشاعر الوجل والرهبة حيث سيلقى ربه.

- الطواف حول البيت: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس). يبدأ تحديدا من ركن الحجر الأسود. يقف في نقطة الشروع بالطواف، موليا وجهه باتجاه الجانب الأيسر، عكس اتجاه عقارب الساعة معلنا الانفصال عن الزمن المادي تماما، ويستدير باتجاه الزمن المعنوي. هنا يرفع يده محيّيا ومصافحا ربه، فالحجر الأسود حجر سماوي يأخذ شكل كف يد يمنى، قيل انه هبط من السماء، و يعني: الله يصافحك ويحييك أيها المسافراليه، فاستعد، لتنطلق الى ساحته المقدسة. بمجرد تخطو خطوة واحدة ستلج وسط الامواج البشرية المتدفقة كالسيل. هنا تتلاشى الأجساد والألوان والأسماء والألقاب؛ لكنك بكل جوارحك غارق في جو يبعث فيك مشاعرالحيرة والدهشة والرهبة ويحبس كلماتك وينسيك نفسك وماحواليك، انت مشغول بسفرك، تماما حالك حال مخلوقات الله التي تدور في حضرته (وكل في فلك يسبحون).

- الصلاة خلف مقام ابراهيم (ع): لازلت في حضرة الله المقدسة ؛فالصلاة بعد الطواف هي شكر له على اتمام سفرك. وتمجيد للنبي ابراهيم (ع) وإحياء ذكره، فله فضل بليغ في بلورة توحيد الله في هذا المكان (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى).

بالنسبة لي، في رحلة الحج كنت أرى صورة النبي ابراهيم (ع ) متجسدة في كل رجل يرتدي ثوب الاحرام، ولا أعرف كيف تسلل لي هذا التصور لحد اليوم. هل كان يرتدي هذا الزي وهو يبني البيت الحرام ؟ لا أدري.

- السعي بين الصفا والمروة: (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكرعليم ).خرجت من الطواف وفي روحك نور من انوار الله، متخففا من أثقال وقيود جثمت على ظهرك. الآن انت على وشك سفر ذي فضاء آخر؛ فيه تصوير يشابه كثيرا تضاريس الحياة... مشوار فيه تسلق وهبوط وهرولة وصعود. انت في حركة دائبة متواصلة حتى بلوغ الهدف. يشابه تماما رحلة الحياة الشاقة (ياأيها الإنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه). بعد إعياء ونصب تكون قد بلغت نقطة مقصدك وأصبت هدفك.

- الوقوف على جبل الرحمة: (الحج عرفة) الوقوف على صعيد عرفة هو بالأحرى احتفاء البشرية بذكرى ولادتها، لقاء آدم وحواء بعد أن تاها وضاعا وافترقا عن بعضهما حين هبطا الى الأرض. في هذا اليوم تعارفا وعلى الجبل تحديدا. وفيه يتجسد معنى آخر هو نهاية الحياة البشرية على الأرض، والمضي للحياة الأخرى يوم يقوم الناس لرب العالمين، فالحجيج مجتمعون كلهم ومن كل فج عميق. كل واحد مشغول بنفسه وروحه وعمله؛ يتضرع، يدعو، ويبتهل، ويرجو الله (لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه).

- مزدلفة: الإفاضة نحو المشعر الحرام لأخذ الحصى. هي وقفة قصيرة لكن فيها عبرة، فيها استعداد وتأمل وطمأنينة وهدوء، واستمداد العون من الله لمواجهة شيطان النفس، منظر الحجيج وهم يلتقطون الحصى يبدو للرائي عن بعد كأنهم حمام أبيض منتشر على الأرض يلتقط حبات طعامه (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعرالحرام كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا).

- المكوث في منى، ورمي الجمرات: هنا يتدفق الحجيج وتشرئب أفئدتهم صوب خطوات (ابراهيم، هاجر، اسماعيل). هنا واجه الشيطان ثلاثة من البشر يعلمون الناس كيفية الانتصار في معركة جهاد النفس. أقوى مواجهة للانسان مع عدو؛ هي جهاد نفسه. مكوثه ثلاث ليال في منى، يعني خوضه معركة حامية مع شيطان النفس. الشيطان تتركز فيه كل الصفات الشريرة، وأهمها: كيده، بطشه، سلطانه، حبائله، فتنته، غطرسته، نزعاته، هذه السبع خصال هي التي يرجمها بسبع حصيات، لذا فهو نزاع بطيء، ينتصر فيه بإذن الله حين يرمي الحصى (ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا).

- الهدي (النحر): (لن ينال الله لحومها ولادماءها ولكن يناله التقوى منكم).أجلى وأبلغ صورة لتضحية المحب لحبيبه والحبيب لمحبه، فالتضحية هنا متبادلة لاتعني طرفا واحدا يعني لأجل حبك ياربي أضحي لك بأعز ماعندي؛ فلذة كبدي(ابني)، ولأجل حبك لي ياعبدي؛ اقدم تضحيتي فداء (كبش) تقديرا لتضحيتك العظيمة (وفديناه بذبح عظيم).

- التقصير: بعد النحر يأتي، يعني انت نجحت في امتحان الهي عظيم، بعد فداءك الهدي (ولاتحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله). فقصر وطهرجسدك وانطلق خفيف الظهر، انت في حلّ مني.

- طواف النساء أو طواف الوداع عند بعض المذاهب: هنا يكرر الحاج السفرالروحي الجديد في رحاب البيت الحرام، الله جل وعلا أراد له ذلك، فالطواف حول الكعبة فيه جاذبية مغناطيسية لقلب الحاج اكبر من كل مناسك الحج. فيه يختطف قلبه حزمة روحية ملهمة من نور الله؛ فيعود منير القلب، مطمئن الروح، وهادىء النفس.

- النفرة الى مكة المكرمة: يوم يكون فيه الحجيج بإذن الله في صيرورة جديدة. هم طاهرون كيوم ولدتهم امهاتهم. أكبر مسيرة توحيدية على صعيد العالم أجمع... المشهد فيه عظمة وهيبة يضلله غمام كرم الله. تصدح حناجرهم بشعار واحد: الله اكبر الله اكبر لاإله الا الله والله اكبر الله اكبرولله الحمد. شعار عظيم يحتوي ويختصر حياة المسلمين، توحيد الله خلقنا لأجله، ولا أقصد هنا نجلس ونردد عبارة: لاإله الا الله. توحيد الله أقصد به التحرر من كل الأصنام البشرية وغيرها، التي تستنزف قوى الناس الجسدية والنفسية (لاتكونوا عبيدا لغيركم وقد ولدتكم امهاتكم أحرارا). الله جل وعلا أراد لنا الخلاص من كل انواع الشرك، والانشغال بالانصياع لأوامره ونواهيه في العمل الجاد الدؤوب والسيرورة الحثيثة لبذر الخير والعطاء في كل خطواتنا باستقامة وأمانة ( فسيروا في مناكبها وكلوا من رزقه)، دون غش وتدليس واتباع هوى.

هنا استدرك موقف (هاجر) ومعركتها من أجل التوحيد، وجهودها المضنية في ذلك؛ في تحمل وحشة المكان وظلامه ورهبته (بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات). تجوب في شعاب صحرائه باحثة عن الماء الذي يروي ليس رضيعها فحسب؛ انما شريان حياة ستقام على هذه البقعة الجرداء. تدفق الماء هنا، يعني تدفق حياة أمة، وحضارة أمة لم تكن تعرف أن للحياة معنى. نعم هاجر سعت وأحيت الصحراء القاحلة، فقامت أمم ومدن حواليها، ولولاها لما قامت قواعد البيت، ولما صار البيت بؤرة نور لتوحيد الله تستقطب الملايين كل عام، ولما هفت اليه القلوب؛ فلنعتبر.

أتمنى للجميع سفرا قاصدا.. باحثا عن المعنى في رحاب مكة البيت الحرام، وهل أولى منها في الدنيا رحابا؟!

 

بقلم: إنتزال الجبوري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم