صحيفة المثقف

ضوء على أبيات من الشعر الشعبي (1)

قد لا أكون ممن يلمُّ باللهجة العراقية المتداولة والتي اختفت من التداول، ولكني أحاول تفسير بعض المتوارث لنفسي أولاً ثم للآخرين . ولقد صدف أن اطلعت على بعض الأبيات المتوارثة من الشعر الشعبي منذ طفولتي فحفظتها تلقائياً . أحببت هذه الأبيات على بساطتها  ووددت الآن أن ألقي نظرة تحليلية عليها لأفهمها جهد الإمكان ولأُشرك المتقلقي الكريم معي، والأبيات هي:

يابنات ويا بنـــون

وين أهلكم ينزلون

ينزلون بكاع زيزه

ويشربون ماي العيون

*****

يا بنية وكذلتج ريش التصلي

ردتج بالحلال وما حصل لي

سهيت وطاحت السبحة من إيديه

يا بنات ويا بنون

وين أهلكم ينزلون

*****

لعل هذه الأبيات أحد انواع الشعر الشعبي المعروف ب " بالموشح " وربما هي من الشعر المسمى ب " الهجري " فكلاهما يقومان على  بحر الرمل . وتامه    فاعلاتن  فاعلاتن  فاعلاتن

يرد المقطع الاول على مجزوء بحر الرمل وتفعيلته كالآتي  فاعلاتن  فاعلاتن

أما في المقطع الثاني فيأتي الرمل تاماً بتفعيلاته الثلاثة مع بعض التغييرات ففي الشطر الاول

يا بنية و     كذلتج ري        ش التصلي

_ : _ _     _ 0 _ _         _ 0 _ _

فا:لاتن       فاعلاتن           فاعلاتن

ثم يقضم أو يسقط الوتد المفروق من بداية التفعيلة الاولى في البيت أو الشطر الثاني  فتصبح لاتن  _ _  لتتكون التفعيلة من سببين خفيفين فقط، و قد يكون وهو الأرجح عندي أن قد سقط بعض الكلام هنا  فربما يكون الشطر كالآتي

أنَ ردتج     بالحلال وماحصل لي      يقصد أنا ردتج (2)

00_ _       _  0 _ _     _ 0 _ _

فعلاتن        فاعلاتن         فاعلاتن

أما الشطر الثالث فيتكون أيضاً من ثلاث تفعيلات أولاهن علاتن أي سقط سبب خفيف من بداية التفعيلة الاولى

سهيت و    طاحت السب     حه من ايديه

0 _ _      _ 0 _ _         _ 0 _ _

فقد يكون المحذوف هنا كلمة " هل " وهي هنا ليست حرف استفهام قطعاً بل هي بمعنى لذا

هل سهيت و   طاحت السب    حة من ايديه

_0_ _        _0 _ _         _0 _ _

فاعلاتن         فاعلاتن          فاعلاتن

هذا عن الوزن أما عن القافية ففي المقطع الاول جاء الشطران الاول والثاني موحدي القافية ثم اختلفت القافية عنهما في الشطر الثالث وعادت القافية في الشطر الرابع لنفس القافية المذكورة في الشطرين الاولين  .

اما المقطع الثاني ففي الشطرين الاول والثاني أيضا جاءت القافيتان متشابهتان أيضاً وفي الشطر الثالث تغيرت الى  ايديه . ثم ليعود

الشاعر بعدها الى نفس ألفاظ وقوافي البيتين الاولين في المقطع الاول جاعلاً منهما ما يشبه اللازمة .

أما عن المعنى فلعل أول ما أفهمه من هذه الأبيات إن المتكلم هنا إنسان وقور تجاوز مرحلة الطيش ويتسم بالتقوى والصلاح بدليل المسبحة التى في يده غير إن الوقار والصلاح لم يمنعاه من التغزل بمن علق بها فؤاده . وهو ليس أول عاشق يتغزل بحبيبته ذلك الغزل البعيد عن تناوش الحرمات، فذلك ما فعله الشعراء العذريون وغيرهم من شعراء الغزل العفيف . نرى الشاعر المجهول هنا في البيتين الأولين يسأل لفيفاً من الصبايا  والفتيان مرَّ بهم أو التقى بهم عن مواضع بيوتهم ومرابع ذويهم فنحسبه لا يعرفها . غير إنه في الشطر الثالث ينصرف بل يلتفت عن المخاطب الى الغائب - وذلك نوع من البلاغة - قائلاً إنهم يسكنون  بأرض صعبة متعرجة ويشربون من ماء العيون فهم لا يسكنون الحضر بل هم يسكنون بادية وعرة . إذن فهو يعرف مرابعهم ومساكنهم فيكون قد قصد بتساؤله هنا و أراد معنى آخر غير الاستفهام وهو بيان الحال التي هم عليها . ولأن كلمة زيزة بفتح الزاي (3) تحتمل معنيين (أولهما الأرض الصعبة المتعرجة وثانيهما الأجمة الوارفة الظلال) فقد  يكون الأمر لا كما ذكرنا بل قد يكون الشاعر فعلاً لا يعرف أماكنهم فهو هنا يدعو لهم بالخير دعاءً - كأنه يقول أن شاء الله ينزلون –   لعلهم ينزلون  - أو يرجو أن تكون مساكنهم  في أجمة وارفة الظلال ثم يدعو أن يُهيأ الله لهم أن يشربوا الماء الزلال من العيون الطيبة .

وفي المقطع الثاني وبما إنه كما يظهر من القول قد عشق إحدى الصبايا ممن رأى ورغب أن يرتبط بها بالحلال ويضمها الى بيته زوجة عصماء غير إنه لم يحظَ بتحقيق امنيته تلك . لذا نراه يحاول أن ينقل لها أحاسيسه وحبه . فهو يصفها بالجمال والصلاح معاً ويشبه ما بدا على جبهتها من شعرها الناعم البديع فكأنه ريش الحمامة التي تُسبّح لله و ربما تصلي في الحرم الشريف (4) وقد يقصد بالصلاة حركة الطير بخفض الرأس غالباً، أو قد يكون يصف غرتها التي تتهدل على جبهتها بريش النعام فلطالما شبه العرب الأشياء ذات النعومة اللافتة بريش النعام .

وإذ ما يئس من تحقيق حلمه بالاقتران بها علاه الحزن وانشغال البال حتى أخذ يسهو فتسقط مسبحته من يده لاستغراقه في التفكير في الصَبية وعودته ربما الى تكرار حلم يقظةٍ حيث يراها فيه كما رآها أول مرة ضمن لفيف من أقاربها وقريباتها لذا نراه هنا يكرر الشطرين  الأولين تماماً . وليس قائل هذا أول ساه عن عبادته بسبب الهوى بل سبقه الى ذلك كثيرون منهم ما ذكره الشاعر مسكين الدارمي في قوله  ضمن قصة متداولة معروفة :

قل للمليحة في الخمار الأسود       ماذا فعلت بناسك متعـــبد

قد كان شمّر للصلاة ثيابه         حتى وقفت له بباب المسجدِ

ردي عليه صلاته وصيامه         لا تقتـــليه بحق دين محمد (5)

ومن ذلك أيضا وفي معناه ما نظمه علي احمد باكثير (6) على لسان رجل يدعى القس (ورد ذكره في الفلم التراثي سلامة والذي مثلته ام كلثوم  وغنت فيه) إذ يقول:

قالوا أحب القس سلامة               وهو التقي الورع الطاهرُ

كأنما لم يدر طعم الهوى              والحب الا الرجل الفاجرُ

يا قوم إني بشر مثلكم                  وفاطري ربكم الفـــاطرُ

لي كبد تهفو كأكبادكم                   ولي فـؤاد مثـــله شاعرُ

***

سمية العبيدي

.......................

(1) - سمعت في طفولتي عدة نسوة يترنمن بهذه الأبيات في حضور صغارهن وهن يلاعبنهم من بعيد .

(2) - وجدت ابناء بعض جهات بغداد كانوا يلفظون الضمير أنا (أنَ) ... كما يلفظ في العربية الفصحى

(أنا الذي نظر الاعمى الى أدبي    وأسمعت كلماتي من به صمم

هنا لا نلفظ أنَا بل أن َ وفي غيرها من المواضع) أما الآن فنلفظ ضمير المتكلم جميعنا في اللهجة العراقية  - آني - كما تُلفظ في جنوب العراق آنه .

(3) - كثيراً ما سمعت على اللسان العراقي من يصف أرضاً ما بأنها :  زيزه كفره : وكفره فصيحها قفراء  .

(4) - من سورة الإسراء الآية 44 " تسبح له السموات السبعُ والارضُ ومن فيهن وما من شيء الا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفوراً " وأظن الصلاة مثل التسبيح ليست حكراً على البشر .

(5) - رواية التاجر الذي كسدت خُمُره السود فشكا لصاحبه فنظم هذه الأبيات وغناها ليلتها وفي الصباح هرعت نسوة المدينة المنورة لشراء الخمر السود جميعها .

(6) - استندنا  في ذكر اسم الشاعر على الانترنيت .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم