صحيفة المثقف

في الذكرى الثانيةِ والعشرين لرحيلِ الجواهري.. حكايةٌ وقصيدتانِ

عبد الرضا عليحينَ عرضتْ جامعةُ الموصل على ثالث النهرين ضيافته، ليفتتحَ موسمها الثقافي للعام 1980م،  اشترطَ أنْ يصحبه في الزيارة صديقاه الحميمان: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور عليّ جواد الطاهر (رحمهم الله)، فما كان من رئيسِ الجامعة المرحوم الدكتور محمّد مجيد السعيد(آنذاك) إلاَّ أنْ يُبادرَ بفرحٍ غامرٍ إلى تكليفِ زميلي الدكتور سعيد جاسم الزبيدي بالاتصالِ بهم، وتحديدِ موعدِ الزيارةِ، ومرافقتهم في الرحلةِ إلى الموصلِ .

لكنَّ سعيداً الزبيديَّ لم يوفقْ في إصعادِهم الطائرة في اليومِ المحدّدِ للسفرِ إلى نينوى، فقد أُلغيتِ الرحلةُ، فهاتف رئيس الجامعة، وطلبَ موافقتهَ في نقلهم بالسيّارات إلى الموصل، فأرسلَ السيِّد رئيس الجامعة سيّارتين إلى بغداد، كانت الأولى سيّارته، وكانت الثانية سيّارة نائب رئيس الجامعة، ويقول الدكتور سعيد الزبيدي: (وانطلقنا صباحاً، ركبَ الجواهري والمخزومي والطاهر في سيَّارةٍ، وركبتُ سيَّارةً أُتابعهم بتا، وبعد أن تجاوزنا حدود مدينة بغداد وقفتْ السيارةُ التي تُقلُّهم جانباً، فظننتُ أنَّهم يبتغونَ أمراً، فوقفتْ السيّارة التي أستقلُّها خلفهم، ورأيتُ الأستاذَ الطاهرَ يترجَّلُ، ويتَّجهُ نحوي، وطلبَ منّي أنْ أُشاركَهم في السيّارةِ التي يستقلُّونَها، فكانت فرحتي لا توصفُ وأنا أتوسّطُ المقعدَ بين المخزومي والطاهر، ومن فُرجةٍ بين مقعدِ الجواهري، ومقعدِ السائقِ لمحتُ الجواهري يُمسِكُ ورقةً ويكتبُ في أوَّلها كلمة لم أتبيَّنها،ثمَّ يكتبُ كلمةً في آخرِ السطرِ منها، فاستغربتُ من صنيعِهِ هذا، ثمَّ التفتُّ إلى أستاذي الطاهرِ لأخبرهُ بما رأيتُ، فقال: هكذا تولدُ القصيدةُ الجواهريَّة!)¹

1056 الجواهري4

وكان الأستاذ سعيد الزبيدي قد هاتف رئيس الجامعة قبل انطلاقهم، محدّداً ساعةَ وصولهم الموصل، فارتأى السيّد رئيس الجامعة أنْ يتمَّ استقبالُ الضيوفِ على مشارف مدينة الموصل بمبعدةٍ لا تقلُّ عن ثلاثين كيلومتراً، عند موقعٍ معيّنٍ، ففرحنا،لأنّنا سنلتقي بالجواهري عن قرب، ووجهاً لوجهٍ، فخرجَ المستقبلون من الأساتذة وأبناءِ الموصلِ الكرامِ بسيّاراتهم، وببعضِ سيّارات الجامعة، وكان على رأسهم السيّد رئيس الجامعة، وأعضاء من مجلسها.

1056 الجواهري8

وصل الموكبُ عصراً (في العشرين من شهر شباط من العام 1980م)، وبعدَ أن تمَّ استقبالهم بالأحضان والقبل، والترحيب، سارَ الموكبُ إلى المركزِ الثقافي لجامعةِ الموصل حيثُ دارُ الضيافةِ، فحلّوا ضيوفاً مكرّمين، وبعد استراحتهم (بضعِ ساعات) أُقيمت الأمسيةُ الشعريَّة في قاعةِ مسرحِ المركز الثقافي لجامعة الموصل، فألقى الدكتور أحمد الحسّو الأمين العام للمكتبات كلمة جامعة الموصل، ثمَّ تولّى الدكتور طارق عبد عون الجنابي رئيس قسم اللغة العربيّة في كلية التربية إدارة الأمسية، فدعا الأستاذ سعيد جاسم الزبيدي لإلقاءِ قصيدته الترحيبيّة بالجواهري، فألقى بين يدي ثالثِ النهرينِ قصيدةً من أربعةٍ وثلاثين بيتاً كان مستهلها:

أطلقْ جناحَ القوافي أيُّها الغردُ

                           فما يُشنِّفُ آذانَ الورى أحدُ

فكان صدى وقعها على الجواهري محبَّباً مريحاً.

1056 الجواهري3

ثمَّ قدّمَ الكتور طارق الجنابي الأستاذ العلاّمة الدكتور عليّ جواد الطاهر، فألقى دراسةً تعريفيّةً نقديَّة وسمها بـ (هو الجواهري)، وبعد انتهاء الطاهر من دراستِهِ النقديّة، ارتأى العلاّمة الدكتور مهدي المخزومي أنْ يتنازلَ عن الوقت المخصَّصِ لدراستِه النقديَّة لصديقهِ الجواهري، وآثرَ أن يتمَّ نشرَ دراستِه النقديّة التي وسمها بـ (في لغة الجواهري) مع ما سيدورُ في الأمسية في الكتابِ الذي أسندَ السيّد رئيس الجامعة مهمّة إصدارهِ للصديقِ سعيد الزبيدي، ولكاتبِ هذه السطورِ، فأصدرناهُ موسوماً بـ (الجواهري في جامعة الموصل، كلمات ومختارات) بعد وقتٍ قصير من الزيارة.

1056 الجواهري2

ثمَّ قدّمَ الدكتور طارق الجنابي الجواهري قائلاً: (تقرأ الجواهري فتـشمُّ رائحةَ الترابِ العربيّ المضمَّخِ بدماءِ الشهداءِ، وبالحضارةِ العربيَّةِ، وبالوجودِ العربيّ، ثمَّ تسمع الجواهري، فتسمع صوتاً عربيَّاً دافئاً دافقاً يتحدَّرُ إليكَ عبر التأريخ الطويلِ، نسيجٌ عربيٌّ، وكلامٌ عربيٌّ، وضميرٌ عربيٌّ، لكأنَّنا نعيشُ مع الجواهري تاريخنا المعطَّرَ كلَّهُ.

أيها الأعزَّاءُ، أقدّمُ لكم بحبٍّ، وودٍّ، وإخلاصٍ صادقٍ، الكلمة الصادقة في كلِّ مكانٍ، وكلِّ زمانٍ أُستاذَنا أبا الفراتينِ، ابن الفراتينِ)²

فارتقى الجواهري الكبير المنصّةَ مُستهلاً قراءته بكلمةٍ قال فيها: (أشكُرُكم جزيلَ الشكر. أنا خجلٌ، ولخجالتي أكثر من سبب... أنا خجل لأنَّني مغمورٌ بألطافٍ أكثر ممّا أطيق التعبير عنها... وأنا خجلٌ مما غمرني به الأخوانُ: وفي الطليعةِ والأول منهم سيادة الرئيس، رئيس الجامعة (أبو غدير) والأستاذ الشاعر المبدع السيّد سعيد، أمَّا الدكتور علي جواد الطاهر فكما رأيتُم فهو أنا، أكثر ممّا أنا... ولا أريد أنْ آخذ من وقتكم.

أولاً: النثرُ بوجودِ الأستاذ الطاهرِ، والدكتور المخزومي، ووجودِ أساتذتكم أولى منّي بهذا الموقف، سبق لي أن قلتُ: (لقد أكلتْ القوافي لساني، ولم تترك منه شيئاً لغيرِ الشعر.)

وثانياً: لا حاجة للنثرِ، فكل كلمة نثر تأخذُ منكم قافيةَ شعر، فلا حاجة لها... إنَّما أعيد شكري، وشُكري الجزيل، لأنَّني سعيد بهذه الفرصةِ التي أتاحها لي سيادة الرئيس، رئيس الجامعة، والأخوان.

هذه فرصةٌ أعدُّها من العمر. وأسالُ اللهَ ألاّ يذهب هذا العمر دونَ أنْ أراكم مرَّةً ثانية، ثمَّ أشارَ إلى ظروفِ الرحلةِ، وكيفَ كادت أن تُلغى بسبب إلغاءِ رحلةِ الطائرةِ، منبِّهاً إلى أنه كتبَ (أُمّ الربيعينِ) في الطريقِ ما بينَ بغداد والموصلِ بصحبةِ الأستاذينِ الدكتور علي جواد الطاهر، والدكتور مهدي المخزومي، مختتماً مستهلَّهُ النثري بقولهِ: (وجئتُ، وفي الطريقِ قلتُ: يجبُ أن أُقدِّمَ شيئاً للموصلِ العظيمة،لأبناءِ الموصل، لشبابِ الموصل، وكنتُ بينَ لحظةٍ ولحظة أُسجِّلُ كلمةً، وهذهِ هي المُسوَّدةُ، وأنا أعِدكم – إن شاء الله- أنَّها قريباً ستكون لديكم كاملة)³

1056 الجواهري6ثمَّ استهلَّ قراءاتهُ الشعريّةَ برائعتهِ (أمَّ الربيعين) التي حيَّا بها الموصلِ، وأبناءها:

أُمَّ الربيعينِ يا منْ فُـقْتِ حُسنَهُما

              بثالثٍ من شبابٍ مُشـرقٍ خضلِ⁽⁴⁾

وحين وصل إلى قولهِ:

ويا محطَّ المُـنى فـي كلِّ مأزمةٍ

               ويا مِجنَّ الحِمى في الحادثِ الجلَلِ

عهدٌ بأنْ سأصونُ العهدَ في قفصٍ

                 من الضلوعِ، وفي زاهٍ من الحُلَلِ

ويا عطوفـينَ لمَّتـني شمائلُهمْ

                   كمـا يلِمُّ الكميُّ السـيفَ من فَلَلِ

شوقاً إليكمْ مدى عمْرٍ تجيشُ بهِ

                شتَّى الدواعي وما زالتْ ولمْ يَزَلِ

توهَّـجتْ وهْوَ في مُزْبَدِّ عارِمِهِ

                 وتغتلي فيهِ، وهْوَ اليومَ في وشلِ

شوقاً أمِنتُ جَناني أنْ يَزِلَّ بـهِ

                   وقد يزِلُّ الفتى خوفاً من الزَّلَـلِ

شوقاً تعثَّرَ بي في زحمةِ الخجلِ

                    ألاَّ أُطيقَ لهُ وصفاً على عجَـلِ

ضجَّتِ القاعةُ بالتصفيقِ المرتفعِ ارتياحاً، وإعجاباً، وتكريماً للشاعر.

ثمَّ بدأ بقراءةِ  مختاراتهَ التي أعدَّها في قصاصاتٍ لا يستطيع أحدٌ غيره قراءتها، لأنَّه يكتبُ أحياناً مفردةً واحدةً من صدر البيت، ومثلها من عجزه، وأحياناً مطلع الصدر برمَّتهِ، وأحياناً المفردة الأولى من العجز، وأحياناً قليلةً جدَّاً يكتبُ البيتَ كاملاً، وسيرى القارىء الكريم أُنموذجاً من خطِّ الجواهري، وكتابتِه مع هذه الدراسة.

وكانت تلك المختارات:

يا دجلة الخير.

لغزُ الحياةِ.

ليلة عاصفة على فارنا.

وصرفتُ عيني.

وحيُ الموقِد.

أرِحْ ركابك.

أزفَ الموعد.

يا أمّ عوف.

رسالة مُملَّحة.

***

وبعد انتهاءِ الزيارةِ مباشرةً شرعنا بإعدادِ الكتاب، وتوزَّعتْ موادُّهُ في ثلاثةِ أبوابٍ، بعد المقدّمةِ، ولقطات من الزيارة هي:

الباب الأوّل: احتوى على ما قيلَ في الأمسيةِ من كلمات، وشعر، ودراسات، وتعليقات.

الباب الثاني: احتوى على قصيدة (أمّ الربيعين) وما قرأ الجواهري من مختاراته الشعريَّة، وهي:

1 – يا دجلة الخير.

2 – لغز الحياة.

3 – ليلة عاصفة على فارنا.

4 – وصرفتُ عيني.

5 – وحي الموقد.

6 – أرحْ ركابكَ.

7 – أزفً الموعدُ.

8 – يا أُمَّ عوف.

9 – رسالة مُملَّحة.

1056 الجواهري7الباب الثالث: لمَّا يُنشرْ في ديوان، وهي تلك القصائد التي لم يحوِها (حتى ذلك الحين) أيُّ ديوانٍ مطبوع، وكانت:

1 – رسالة إلى محمَّد علي كلاي.

2 - آهٍ على تلكمُ السنينِ.

3 – لُغةُ الثياب.

4 – سجا البحر.

5 – فتى الفتيان..المتنبِّي.

6 – محمَّد البكر.

7 – تغنَّ بـ (تمُّوز) .

8 – إلى المجد.

9 – دمشق.

10 – فتيان الخليج (المقدِّمة).

11 – التحيَّة.

12 – فتيان الخليج (القصيدة).

1056 الجواهري1

واتفقنا مع مطبعة جامعة الموصل على أن يكونَ ورقُ الكتابِ صقيلاً ملوّناً (آرت 80)، وأن يكونَ طبعُهُ عرضيّاً (بالعَرضِ) وليس طوليَّاً.أي يكون كالكرّاسِ، لنستفيدَ من وضعِ لوحاتٍ تخطيطيَّةٍ على بعضِ تلك الصفحاتِ الداخليّةِ العرضيّة.

كما اتفقنا مع الفنّانِ التشكيليِّ الموهوب المهندس شاهين عليّ ظاهر(أطالَ الله في عمره) أنْ يتولَّى هو وضع تخطيطات للجواهري، ولبعضِ قصائدهِ، وزوَّدناهُ بصورٍ عديدةٍ لأبي فراتٍ التُـقِطتْ له في أثناء زيارتهِ لجامعةِ الموصل، باستثناء لوحةِ الغلافِ الأول، فقد كانتْ للفنان المرحوم عبد الحميد الحيالي، لكونها لوحةً فنيَّة جميلةً للموصلِ القديمة.

أمّا الخطُّ، فقد تولاّهُ الخطَّاط الكبير الأستاذ يوسف ذنون.

***

وصدر الكتابُ كما أردنا، ونفَّذتِ الجامعةُ القسمَ الأوّلَ من العقدِ الذي أبرمتْهُ معنا، فسلَّمتْـنا أربعينَ نسخةً من الكتابِ تقاسمناها، فضلاً عن المكافأةِ التي كانت ألفِ دينارٍ عراقيٍّ، فحمل الصكَّ صديقي الأستاذ سعيد الزبيدي، ونزلَ بهِ إلى بغداد، وسلَّمه إلى الجواهري، (لأنَّنا اتفقنا سلفاً أنْ نتنازلَ عن حقِّنا في المكافأةِ لصالحِ أُستاذنا الجواهري)، فما كانَ من الجواهري (كما أخبرني الزبيدي) إلاَّ أن سلَّمه  لنجلهِ المرحوم فرات.

وبعدَ عشرةِ أيّامٍ من صدورهِ نفدتْ نُسخُنا الأربعون التي زوَّدتنا بها الجامعة، لأنّنا أهديناها لزملائنا الأساتذةِ في قِسمي اللغة العربيّة في جامعة الموصل: (التربية والآداب) وبعض الأصدقاء خارج الجامعة، وأردنا تنفيذ القسم الثاني من العقد المبرم مع الجامعة ببيعِنا خمسين نسخة من الكتابِ بنصفِ السعر،  فصدمنا بخبرٍ اختفاءِ الكتابِ من مخازنِ المطبعةِ، ومن المكتبات، دونَ أنْ نحظى بالسببِ، وعندما ألحفنا في السؤال قيلَ لنا: لقد تمَّ شحنُه إلى بغداد بأمرٍ من المهيمنين على الثقافةِ في جمهوريّةِ الخوفِ ومنظّمتِها السريّة، فبقينا حيارى، لكنّ صديقنا المرحوم (سامي محمَّد) الذي كان يعمل مترجماً بمجلَّةِ ألف باء ضمن وزارة الثقافة والإعلام  ببغداد همس بأُذني حين زرتُه في مقرِّ الوزارة  قائلاً: كان ذلك بسبب نشركما  لقصيدة أزعجت المنظّمة السريّة، لما تثيره من تأويلات بشأنِ حادثةٍ معيَّنة، فكان ظنُّ الجميع أنَّها قصيدة الجواهري في رثاء محمّد البكر(والله أعلم)، علماً أنَّ القصيدة حتى ذلك الحين لم يضمَّها ديوان، مع كونها قد نُشِرتْ في جريدة الجمهورية، العدد 3231، الأربعاء 29 آذار 1978م، عندما كان والدهُ أحمد حسن البكر ما زال رئيساً لجمهوريَّة العراق.

***

1056 الجواهري5وقبل بضعةِ أيَّام، أي بعدَ ما يقرب من أربعين عاماً على زيارة الجواهري للموصلِ وجامعتها، وصدور كتابنا عن تلك الزيارة فاجأني صديقي الدكتور سعيد الزبيدي بإهدائه (لي) قصيدةً جميلةً تعاطت مع أسئلةٍ ملحَّةٍ بشأنِ قصيدة الجواهري (يا أُمَّ عوفٍ)، وهي أسئلةٌ تريدُ الوصولَ إلى خلاصاتٍ تفتحُ مغاليق الشعرِ، وما كانَ توريةً بين سطور قصيدة الجواهري، فحاولتُ (قدر استطاعتي) معارضته شعريّاً كي أجاري (بقصيدتي) قصيدتَهُ العصماءَ (أخا عوف)، وأجيب عن أسئلته الذكيّة فنيَّاً، وليسَ علميَّاً، فرأيتُ عرضهما معاً في هذه المقالة، فضلاً عن عرضِ ما كان متعلِّقاً بكتابنا (الذي صادرته منظّمة جمهوريَّة الخوف الثقافيَّة آنذاك) من صورٍ، ولوحات، وتخطيطات⁽⁵⁾.

مع عظيمِ الامتنانِ للصديقِ الشاعرِ المرهف الدكتور سعيد جاسم الزبيدي على تلك المفاجأة التي استولدت قصيدتي (رفيق الدرب..) وهذه المقالة الأدبيَّة.

***

أخا عوف ٍ...

سعيد جاسم الزبيدي

(مهداة إلى أخي الناقد المبدع د. عبد الرضا علي)

أتيتُكَ سائلاً يا خـيرَ إلـف ِ

                       أتدري ما ليـالي أُمِّ عوف ِ؟

أسـرٌّ لم يبحْـهُ أبو فـرات ٍ

                       فلمْ يُبدِ الذي قد كانَ يُخفـي؟

أم التبَسَ الأنيـنُ فساءَ ظنِّي

                    بنونات ٍ الرويِّ صدىً لحيفِ؟

ألم تكنِ الليـالي موحيـات ٍ

                      لدى الشّعراءِ مُذْ ألفٍ وألفِ؟

بلى، مُلِئتْ على أرَقٍ شَـكاةً

                       وهمَّاً ناصِـباً يُودي لحتْـفِ!

فهل عَرَضتْ عليهِ أُمُّ عـوفٍ

                   بما عانتْ ضنى جَورٍ وعسفِ؟

وهل دارتْ مطـارحةٌ فأوحتْ

                      إليهِ ليستَعيرَ ثيـابَ ضَـيفِ ؟

وقد عُدَّ الحديث قِرىً وأضحى

                     كربِّ البيتِ من كـرمٍ ولُطْـفِ

أخا عـوفٍ وأسـئلةٌ بأخـرى

                       تُلاحِقُـني وتُـشرِكُني بطيفي

(عجيباتٌ ليـاليهِ) وأولـى

                        يكنَّ اللائقـاتِ لـنا بوصـفِ

فـكانت أمُّ عـوفٍ مسـتراحاً

                         وتسـريةً لَهُ تُغـني وتَـُشفي

ولكنْ هـل تلفَّـتَتِ الليـالـي

                          إليـنا عـندَ غربتِـنا لتـكفي

فلا بُـسُطٌ تُمـدُّ ولا حَشـايا

                       ولا مُـسِحتْ مدامِعُـنا بكـفِّ

وكـم بلـداً حسـِبْناهُ مـلاذاً

                       نبا فيهِ المقامُ لطــولِ خسفِ

ولم نأمَـنْ بلـيل ٍ أو نهـارٍ

                       كأنَّا في البـيوتِ بغيرِ سقفِ

أجبـني إنَّـني مُذْ رُبعِ قرنٍ

                       مُدمَّى ألتظي من غيرِ نزْفِ

فهل حقَّاً ليـالي أمِّ عـوفٍ

                       عجيباتٌ إذا قيـستْ بظرفي

سـأفرُكُ خيـبةً راحاً براح ِ

                        كأنِّـي لم أعُدْ منها بخُـفِّ !

تقاذفني هنا السـبعون قهراً

                    ومن ضـعفٍ يُسلِّمُني لِضعف ِ

ومن نِعَم ٍ وجدْتُ بكـم ملاذاً

                         أتيـتُكَ سـائلا ًيا خيرَ إلـفِ

               ***

رفيقُ الدرب...

عبد الرضــا عليّ

1056 عبد الرضا عليمهداة إلى أخي اللغوي الثبت الدكتور سعيد جاسم الزبيدي

(معارضةً أجاري بها قصيدته العصماء أخا عوف)

وتـسـألُني أبا زيـدٍ بلطـفِ

                     بما قـد كان من سـرِّ امِّ عوفِ

فهل لي أنْ أُجيـبَ وأنتَ أدرى

                     بما قاسـيتَ من حـالٍ وظرفِ

عرفتُـكَ كاشـفاً فطِناً مجيـباً

                       ولم أعرفْـكَ تَسـآلاً  لمخـفي

ولكـنَّ الكبـيـرَ أبـا فـراتٍ

                      يـورِّي خادعـاً قصـفاً بعزفِ

فكـانتْ أُمُّ عوفٍ خَـيرَ بـابٍ

                     ليمضيَ كاشفاً مـا كان يُخـفي

نظامٌ شـنَّ فـي بغدادَ جَـوراً

                   وآذى الناسَ في عَـنَتٍ وخسفِ

فلمْ يـرَ ثالـثُ النـهريـنِ إلاّ

                   رحيلاً عن أذى صَـلِفٍ وجِلْفِ

فولَّى شـطرَ ميـسانٍ مسـيرأ

                 فكانَ لهُ (علي الغربي) يُعَـفِّي¹

كمـا أخـفتْ منافيـنا (تـباعاً)

                        رؤانا، ثـمَّ غـطَّتْـنا بسـجفِ

              ***

لنا يا صـاحبي كُـتِبتْ نجـاةٌ

                      من الأزلامِ والبعـثِ المُسـفِّ

أتذكرُ يـا رفـيقَ الـدربِ أنَّا

                   مشينا صوبَ موتٍ دونَ خوفِ

فأخرجنا سـجيناً ذاتَ ليـل ٍ

                     وأحكمنا التمـوُّهَ والتـخـفِّي²

من المشـفى أخذنـاهُ لبـيت ٍ

                     وعندَ الفجرِ عادَ وكانَ يُغْـفي

وعُدنا ضاحكـينَ بشـأنِ قولٍ:

                      إذا عرفوا سنُـنتَفُ شرَّ نتـفِ

                    ***

أبا زيـدٍ رحيـلُ الـروحِ دان ٍ

                        فهذا القلـبُ أضنـاهُ بنـزْف ِ

فعزفُ الناي باتَ خفيضَ صوتٍ

                     ومنخفضاً بدا  لحنـي وعزْفي

فهل لي أنْ أرى وطني سعيداً

                     وهل لي أنْ أُعيدَ بناءَ سقْفي؟

***

عبد الرضا عليّ

..............................

¹ - يُعَفِّي = يستر، يخفي.

²- كان زميلنا المرحوم مزاحم أحمد البلداوي قد اختطفته المخابرات الصداميّة  من قاعة الامتحان في جامعة الموصل في العام 1982، ثمَّ حكم عليه بسبع سنوات، ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة، وبعد أربع سنوات تعرَّض إلى أزمةٍ قلبيّة حادة، فتمَّ نقله إلى مشفى قرب اتحاد الأدباء، لعلّ اسمه (ابن النفيس)، وحين تحسّنَ وضعه الصحيّ قليلاً اتصل بزوجه الشجاعة أمِّ أحمد، فبادرت هي واتصلت بنا، فخططنا لحملهِ ليلاً إلى بيته، وإعادته في الصباح الباكر إلى المستشفى، لأنّ الحارس الشخصي كان سكّيراً مدمناً، وكان المرحوم مزاحم يغريه بالمال يوميّاً، فيتركه في الساعة الثامنة مساء، ويعود إليه في السابعة من صباح كلِّ يوم، فخطّطنا لنقله إلى داره مساءً، والعودة به إلى المشفى فجراً، ونجحنا في ذلك، وقد كتب عن مجازفتنا تلك الدكتور قصي الشيخ عسكر رواية أسماها بـ(الساعة الثامنة والنصف مساءً) وقد يطول الحديث في تفاصيلها.

.......................

إحـــــــالات

(1) الدكتور سعيد جاسم الزبيدي (من معجم الجواهري) 17، ط1، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الأردن/عمّان،2015م.

(2) عبد الرضا عليّ، وسعيد جاسم الزبيدي (الجواهري في جامعة الموصل، كلمات ومختارات)، ط1، ص 36، منشورات جامعة الموصل 1980م.

(3) نفسه، 35.

(4) نفسه، 37.

(5) التخطيطات، وغلاف الظهر للفنان التشكيلي البارع شاهين عليّ ظاهر،، أمّا لوحة غلاف الكتاب الأوّل، فهي للفنّان التشكيليّ المرحوم عبد الحميد الحيالي، وثمَّةَ صورتان لخطّ الجواهري حين يهيئ مختاراته للقراءة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم