صحيفة المثقف

منفى سيزيف

عبد الاله الياسريتوقّفتْ حافلةُ المسافرينْ،

وازدحمَ السُيَّاحُ نازلينَ صاعدينْ.

كان الصباحْ.

وكانتِ الساعةُ، في"مَرَّاكُشَ"، العاشرهْ.

وكنتُ، وحدي، الجالسَ الغريبْ.

ليس معي من أحدٍ غيرُ العراقْ،

ولعنةِ الذاكرهْ،

والسمِّ في سيجارتي.

أَمزجُه بالسمِّ في الآهاتْ.

وأَحتسيه جرعةً فجرعةً منادماً "سقراطْ".

ــــ:"مِن أَين جئتَ سيّدي؟"

ـــــ:"جئتُ من الرباطْ

غادٍ لـِـ "وَرْزازاتْ"*

يَستفهمُ الركَّابُ بالعيونِ عن هويَّتي.

مختلفٌ في صورتي، في ملبسي.

وانطلقتْ تَسلّقاً حافلةُ المسافرينْ

قاطعةً بنا جبالَ "الأَطلسِ"**

صاعدةً تدورْ

بين الجنانِ الخضْرِ والصخورْ.

ترفعُنا من جنّةٍ لجنّةٍ حتَّى دخلنا آخرَ الجنّاتْ.

ثم خَرجْنا فدَخلْنا الجحيمْ.

كأنّها، وهي تدبُّ في دهاليزِ الجبالْ،

تَسيرُ من فوق الصراطِ المستقيمْ.

وانقطعتْ بنا الحبالْ.

وبانتِ البيوتُ في السفوحِ، والمنائرُ الطوالْ

أَبعدَ من خطِّ هلالْ،

أَصغرَ من نقطةِ حرفٍ في كتابْ.

وارتفعتْ حافلةُ المسافرينَ، في مدارِها الى السحابْ،

صاعدةً تدورْ

بين شعابِ الموتِ تَحبو مرَّةً،

ومرَّةً بين شعابِ الحياهْ .

ومرَّةً تَطيرُ كالنسرِ بنا،

ومرَّةً تَزحفُ كالسلحفاهْ .

وضاقتِ الأَبدانُ بالأَنفسِ،

حتَّى بلغنا قمَّةَ "الأَطلسِ".

فانعتقتْ أَرواحُنا من قبضةِ الأقدارْ

واحتفتِ الشمسُ بنا

وقد بدتْ أَسفلَنا الغيومُ والأَمطارْ

إِنقلبتْ خريطةُ الوجودْ

واختلفتْ طبيعتي

واختلف الهواءْ

والرملُ والمياهْ

وانفجرتْ أَسئلتي:

(عبدُالإلهِ) أَم أَنا نِدُّ الإلهْ؟

وتحتَنا أَم فوقَنا السماءْ؟

وامَّحتِ الصفاتْ

وصِيحَ:يا آدمُ قفْ.أَوشكتَ أَنْ تبلغَ عرشَ اللهْ

وزالَ عن جلالِه الغشاءْ

وحينما رأيتُهُ،

أَريتُه حزنَ جياعِ الأَرضِ في وجهي،

وفي حنجرتي أَسمعتُه البكاءْ.

أَخبرتُه جروحَهم، ملءَ فؤادي من مُدَى الأَثرياءْ.

قلتُ لهُ:

أَخرجتَني من جنَّة الخلودْ،

للأَرض للقيودْ.

هَبـْـني أَكلتُ مُخطئاً من شجرٍ في الجنَّة التفّاحْ.

هَبْــني عملتُ مُخطئاً بما ارتأتْ حوَّاءْ.

سألتُهُ:

أَتنصحُ العبادَ بالعفو وبالسماحْ؛

وتحرق العبادْ،

في ساعة الميعادْ؟

أَتاجراً فيكَ أَرَى أَم حاكماً جلَّادْ؟

جعلتَـنا لنارِكَ الوقودْ.

وكلَّما شويتَـنا؛جدَّدتَ في النار لنا الجلودْ.

أَيُّ إِلهٍ أَنتَ يا حقودْ؟

بك اقتدَى الحكَّامْ،

في طُرُق التعذيب والإعدامْ...

وفجاةً تَخضَّبتْ ملابسي البيضاءُ بالنزيفْ،

وصكَّ مسمعي نداءْ:

سيزيفُ! يا سيزيفْ!

أَنا الإلهْ.

أَفعلُ ما أَشاءْ،

بالأَرضِ والسماءْ.

أَجئُ بالإنسانْ.

وأُهلكُ الإنسانْ.

أُقرِّرُ العقابَ والثوابْ.

حكمي عليكَ اليومْ:

أَنْ تحملَ الأَثــقالْ.

من أَرض"ورزازاتْ"

لقمَّةِ الجبالِ في" تُــبْـقـالْ"***

حتَّى تموتْ،

باليأسِ والهمومْ.

وانتابَ بركاني السكوتْ.

أَفرغتُ ما في الكأسِ من سمومْ.

وانحدرتْ حافلةُ المسافرينْ،

من قمَّةٍ للأَطلسِ،

نازلةً تدورْ،

بين الرمال الحُمْرِ والصخورْ.

تهذبُ مثل الفرسِ.

ولم تعدْ مقلوبةً خريطةُ الوجودْ.

أَلأَرضُ كالأَرض بدتْ، وفوقَها السماءُ كالسماءْ.

وصلتُ "ورزازاتْ".

كان المساءْ.

أَلساعة الثالثهْ.

نزلتُ كالطفل بها مذعورْ.

موحشةٌ كأَنَّها معسكرٌ مهجورْ.

خالٍ من الطيور والزهورْ.

كأَنَّها مقبرهْ،

وجثَّتي تبحثُ عن قبرٍ بها في زحمةِ القبورْ.

واحتشدَ العجاجْ.

يستقبل الزوَّارْ،

بالرملِ والغبارْ،

والعصفِ والحفيفْ.

أَعجبني العجاجْ.

رأيتُ فيه هبًةَ الثوَّارْ،

ودفقةَ النزيفْ،

في ساعة احتجاجْ.

وكلَّما رأيتُ في مناميَ الجزَّارْ،

والدمَ والمماتْ؛

أَحببتُ "ورزازاتْ"،

وهمتُ بالعجاجْ؛

كما يَهيمُ الجرحُ بالسكِّينْ.

أَحببتُ"ورزازاتْ".

ليس بها من مُخبرينْ،

ولا بها من خائنينْ.

مدينة الشمسِ التي لم تعرفِ الضبابْ.

مدينة الإنسانْ.

***

شعر عبد الإله الياسري

.............

* ورزازات: مدينة صحراوية تقع في الجنوب الشرقيّ المغربيّ

** سلسلة جبلية يتراوح ارتفاعها بين 4.000 و4.500م

*** توبقال:اعلى قمم سلسلة جبال الأطلس في المملكة المغربية4167 مترا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم