صحيفة المثقف

"بداية ونهاية" ابنة البيئة المصرية.. رواية محفوظية لا تشيخ

بكر السباتينما يميز نجيب محفوظ أنه ابن البيئة المصرية التي عبر عنها من خلال مشروعه الروائي الضخم متنقلاً في تعاطيه للمجتمع المصري ما بين الرواية الرمزية والواقعية والاجتماعية والتاريخية، ساعده في ذلك قدرة مجسّاته الفنية على سبر أغوار المجتمع وتشريحه ومن ثم إعادة تجميعه وفق رؤية فلسفية محفوظية يمكن إسقاطها على المشهد المصري في كل زمان ومكان فتتبدى لنا الحارة بكل عناصرها كأنها لا تتجدد إلا في حاضنتها التاريخية المتراكمة زمانياً بينما تحافظ البيئة على شكلها ونبضها وظروفها المتردية حيث السلطة التي تحاصر الروح المصرية وتمنعها من التحليق، فينشغل الناس ببعضهم، وتجأر أصواتهم عالياً بملء ما في أعماقهم من أسقام، وهم يكابدون مشقة الحياة في الدكاكين والمقاهي والجمعيات التموينية والمقاهي والخمارات والمواخير والدوائر الحكومية ومحطات الباصات ومراكز الشرطة.. ينفسون عن الكبت الرابض في أعماقهم من خلال الضجيج الذي عبر عنه محفوظ بواقعية صادمة حتى لا يجني القهر رؤوسهم المسلوبة الحجا، التي تونع كلما يغشاها الوعي فيحين قطافها وتنهزم أمام الأضاليل.. فضلاً عن تكرار المشهد السياسي المصري ومخرجاته من فقر وتشرذم وقهر وثورات تقمع وحكم عسكري يستحوذ على الإنسان المصري وإعلام هجين.. وتعتبر رواية "بداية ونهاية " لنجيب محفوظ من أهم أعماله الواقعية.

لقد تجلت واقعية أدب نجيب محفوظ بأدق سماتها في رواية" بداية ونهاية".. فالراوي العالم كان يتمتع بأسلوبه السردي الذي تعامل مع الجملة الخبرية متضمنة في سياقها تيار الشعور المتدفق، في رصد التوترات النفسية، والحوارات الجوّانية، مع تقديم الوصف الوافي للأمكنة، في إطار زمن تراكمي حُجِّمَتْ في سياقه الذاكرة البعيدة المتشرذمة.

أما الوصف فقد كان سمة بارزة في أسلوب كتابة هذه الرواية، سواء كان وصفاً بيئياً للشخوص والأمكنة، أو تحليلياً للأعماق البشرية في سياق مواجهة الشخوص للأزمات الداخلية والخارجية.

والبوح الذاتي مفتوحاً على المتلقي ضمن الجمل الخبرية في السرد، بينما كان منغلقاً في كثير من الأحيان بداخل الشخوص؛ ما جعل الأزمات أثناء حل العقدة التي جاءت في ذروة الحدث، تعتمل داخل الشخوص، فتتحول إلى دوافع باتجاه الموت انتحاراً. وكأن الكاتب يتنبأ للمجتمع بذات النهاية؛ إزاء الظروف التي كانت تعانيها الطبقة المتوسطة في مصر آنذاك، والتي هبطت بها الظروف إلى الطبقة الفقيرة الكادحة. وكأنه إعلان يحرض على رفض هذه النهاية بالمواجهة الفاعلة والتغيير.

لقد عالجت الرواية الفترة الزمنية ما بين عام 1935 م حتى 1939 م من تاريخ مصر. وحاول نجيب محفوظ أن يصور حياة الطبقات الثلاث في القاهرة وصراعاتها عن طريق رسم حياة أسرة فقيرة في هذه الرواية. فالكاتب يصور تطلعات کلٍّ من الطبقة الشعبية والمتوسطة والأرستقراطية من خلال صراع ملحمي في مجتمع تشاركي يقوم على البقاء للأقوى وقد تفشت في الطبقة التي تنتمي إليها هذه الأسرة عدة ظواهر موضوعية مثل: الفقر، الظلم، الدعارة، الأمية، العمل الشاق، ورفض الواقع المتأزم أو قبوله كأمر محتوم. وهذا التصوير في الواقع يعبر عن نقد الكاتب للمجتمع المصري آنذاك.

* ملخص رواية “نهاية وبداية”

الخط الدرامي في الرواية يقوم على صراع أسرة "کامل علي" مع الفقر بعد موت عائلها مخلفاً وراءه زوجته وابنته الشابة(نفيسة) وولدين في سن الدراسة (حسين وحسنين) وولد ثالث (حسن)عاطل عن العمل بعد فشله في التعليم. وترك للأسرة معاشاً محدوداً لا يتجاوز خمسة جنيهات مصرية في الشهر.

وتدور أحداث الرواية حول کفاح الأم وأبنائها في سبيل الحياة في وقت لا تتعدى فيه ميزانية الأسرة کلها شهرياً مبلغ الجنيهات الخمسة هذه. وفي غيبة التأمينات الاجتماعية وبسبب انتشار الفساد والاستغلال تتعقد الأمور أمام هذه الأسرة ويعاني أفرادها الکثير تحت وطأة الحرمان وأوضاع المجتمع القاسية.

وينتهي حسن الابن الأكبر إلى الحياة في حي الرذيلة تاجر للمخدرات والنساء، أما حسين الأوسط فيقبل العمل بشهادته المتوسطة، حتى يتيح الفرصة لأخيه حسنين ليكمل دراسته ويلتحق بالكلية الحربية. أما الابنة نفيسة فاقدة الجمال فيطردها سليمان البقال من حياته بعد أن زلت معه ثم تستمرئ السير في طريق الرذيلة دون أن يعرف أحد، وتساعد أخاها حسنين وأمها بالمبالغ القليلة التي تحصل عليها.

يتخرج حسنين ضابطا. فيتنكر لأسرته وخطيبته ووسطه الاجتماعي ويتطلع إلى الارتباط بالطبقة الثرية، عن طريق الزواج منها.

يعود حسن جريحا مطاردا من البوليس إلى أسرته، ويستدعى حسنين في نفس الوقت إلى قسم البوليس ليجد أخته متهمة بالدعارة. يدفع حسنين أخته للانتحار غرقا تخلصا من الفضيحة، ويتذكر حياته ويجد عالمه ينهار فيلقى بنفسه في النيل وراءها.

لقد حلل نجيب محفوظ المجتمع المصري بموضوعية تلقائية غير زائفة أو متكلفة.. من خلال صراع الطبقة المتوسطة مع الطبقات الأخرى.. راصداً بمجساته الفنية الصراع من خلال مقاومة أسرة (كامل علي) السقوط في طبقة الفقراء.. والتطلع نحو الطبقة الغنية.. موضحاً تداعيات الأزمة المتفاقمة التي تعتمل في كل شخصية حسب طبيعتها لرصد ردود الأفعال المتشابكة في سياق الحدث الرئيس، خلال زمن تراكمي؛ كي تصل التوترات التي ألمت بالشخصيات إلى ذروة الحدث بما فيه من تشنجات رافقت بعض الشخصيات المتقاطعة والمتنافرة، وصولاً إلى فاجعة النهاية وطرح الأسئلة الكبرى عن مصير الطبقة المعنية برمتها.

وكدأبه فقد حقق أدب نجيب محفوظ اندماجاً غير مسبوق في نسيج وطنه الاجتماعي والثقافي، وأصبح الإنسان المصري يدرك تاريخه في القرن العشرين من خلال عدسة نجيب محفوظ الثاقبة المنقبة، الجريئة المحايدة، بعيداً عن مدوني التاريخ الرسمي ومؤرخي الملوك، وباتت شخصياته الخالدة نماذج يحتذى بها أو يتعين تجنب سلوكها، ورصدت أعماله التي غطت مساحة عريضة من الوجدان العام محنة الإنسان وعظمته في كل مكان ما استحق جائزة نوبل عن مجمل أعماله الروائية.

وختاماً فإن رواية "بداية ونهاية" تعد تحفة فنية من روائع الأدب العالمي و هى تنذر العقلاء بأن الثورة الجامحة آتيه لا ريب لو لم تتحسن أوضاع المجتمع، وربما كانت نبوءة محفوظية بانهيار النظام الملكي بمصر وقيام ثورة 23 يوليو لأنه كان من المستحيل أن يستمر مجتمعا بهذه الآفات الاجتماعية الخطيرة و السوس ينخر في عظامه بكل هذه الشراسة

وهي أيضاً واقعية صادمة وأسئلة متشائمة تنبأ من خلالها نجيب محفوظ بالربيع العربي حينما خرجت الإجابات من معاقلها لتنفجر في وجه الطغيان.. فنجيب محفوظ روائي لكل الأجيال ورواياته لا تشيخ في وجه الزمن الذي مهما ابتعد بالحياة المصرية فلن يخرج من إطار التوقعات المحفوظية لكاتب يُعد ابن بيئته المصرية بكل أبعادها.

10 أغسطس 2019

***

بقلم بكر السباتين..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم