صحيفة المثقف

انثيالات طلال الغوار استرجاع للذاكرة من الشعر إلى التلقي

1068 talal2مما يميز التجربة الشعرية طلال الغوار في المجموعات الشعرية التي أصدرها من قبل تفاعله مع المكان والزمان معا، وإحساسه العالي بتجلياتهما من خلال الأحداث التي حفرت في الذاكرة ولم تغادرها، ليترجمها الشاعر إلى صور حيوية وفاعلة تعبر بصدق عن واقع مؤلم، إذ يتمظهر الوجود في شعره في صورة سـؤال تارة وتأمل ونقـد وبحث عن الحقيقة والجمال، فهو يحلم بقلب يتسع لعشق كل ما هو جميل، لتنساب الكلمات والعبارات والصور المحملة بالحب، وما تمتلكه من قدرة في إحداث الدهشة، فالشاعر يتحسس الخراب ويبادر في ترميم الروح وبناء الامل لما يمتلكه من حساسية الطفل الذي لم يغادره .

وفي كتابه الأخير (انثيالات) يكسر الشاعر طلال الغوار المألوف ليقدم مجموعة من القصائد و المقالات أدبية والثقافية التي يحاول فيها طرح آرائه في بعض القضايا التي تثير الجدل في الساحة الثقافية، فضلا عما يحمله الواقع من أحداث، وقد أضاف الشاعر العنوان الرئيس (انثيالات) إلى (الشعر، الطفولة، الحياة) دلالة على ان هـذه الانثيالات التي يقدمها الشاعر هي حسرات وآلام وآمال وأفكار، أراد الشاعـر التصريح بها بعـد أن كان يلمح بها في ثنايا قصائده، فجاء الكتاب على شكل مقاربات في الشعر والتلقي، إيمانا منه على حد رأي أرسطو بأن الغرض من الفن هو تجسيد الجوهر السري للأشياء وليس استنساخ أشكالها، ومن هنا جاءت القصائد التي تضمنها الكتاب لتلامس هواجس الشـاعر، وارتباطه بجوهـر الحـب والطبيعة والطفولة مـن خـلال البحث في الذاكرة عـن صور لهذه الثيمات لتشكل معادلا موضوعيا لما يتطلع إليه الآن، وهـذا ما نجده في قصائد (انا عندي حنين ما بعرف لمين، قصيدتان، بوح، قصائد، لصوص، الأقاصي، حلم، الليل، قصائد ) اذ تشـكل الحياة بمفرداتها وتفاصيلها ركيزة واضحة في هـذه القصائد، فضلا عـن المكان متمثـلا بالطبيعـة التي يسـقط عليها الشاعر مشاعره وانفعالاته، ولا ننسى الطفولة التي لم تغادر أحلام الشاعر وتطلعاته، اذ طالما اتخذها فضاءً يهرع إليه تحت وطأة الواقع بقسوته وعنفه، اذ يقول في قصيدة (انا عندي حنين ما بعرف لمين ...) التي يقول فيها :

ما أغربك أيها الحنين

لا أعرف إلى أين تمضي بي

وتحط رحالك

ربما نحو صبي كنته يوما

يجلس عند نهر

وهو يتصفح موجاته

ليقرأ وصاياه

ثم يقول في آخر القصيدة:

هل كنت ابحث عن ذات

أرهقها سفرٌ

في الحب

وفي الشعر

سفر في الحرب

أم كنت استشرف اللامرئي

من الآتي

فالشاعر يتعجب من ذلك الحنين الذي يأخذه عبر الذاكرة إلى الطفولة يحث الأمل (يقرأ وصاياه) ليعود في آخـر القصيدة ليصور رحلة المنفى للبحث عـن الحب، عبـر الشـعر ثم الحرب التي بعثرت الأحلام والآمـال لتتلاشى الرؤية في الأفق، ويأتي الاستفهام ليعكس حيرة الشاعر في رحلة بحثه عن ذاته فهل أرهقها سفر في الحب والشعر أم سفر في الحرب ؟ وهـذه الحيرة يؤكدها قوله (كنت استشرف اللامرئي مـن الآتي) فالصور التي تحققت بفعل الانزياح شـحنت المفردات بطاقة شـعرية عالية، حققها الشاعر مـن خلال استثمار السياق وما يمنحه للمفردات من دلالات جديدة، فضلا عـن التناص الموجود في عنوان القصيدة الذي يحيل الى اغنية المطربة فيروز، وهذا التوظيف قصد فيه الشاعر الحنين الى الماضي .

الوطن ... الطفولة .. الحلم.. الحياة قصائد بطعم الحزن

تشكل هـذه الثيمات هاجسا يؤرق الشاعر طلال الغوار أينما حل في وطنه أم في غربته، فتراه يعود إليها بين قصيدة وأخرى، وتكاد لا تخلو قصيـدة منها، ففي قصيدة عنونها بــ (قصائد) جعلها في تسـعة عشـر مقطعا خصص بعضا منها لهذه الثيمات فجاءت عبارة عن قصائد ومضة مكثفة ومؤثرة إذ يقول في بعضها:

2

أيتها البلاد

أية ظلمة ستندحر غدا

بخطوات أحلامنا

5

كن طفلا

كي ترى

ما لا يراه الآخرون

6

لم يعد لي مكان

أقيم فيه

أنا سفر دائم

في الكلمات

9

أفقٌ ضيق

ولحلمي

ترانيمه الواسعة

19

أحبابي أصحابي

بعد أن اختطفتهم أجنحة الغياب

ما زال قلبي يمتلئ بهم

لكنهم جميعا موتى

ها انا

احمل مقبرة في صدري

فهذه المقاطع عبارة عن قصائد ومضة نستطيع ان نضع لها عنوانات قصدها الشاعر واتضحت من خلال اللغة فالقصيدة رقم (2) الوطن: إذ يعبر فيها الشاعر عن خوفه على مستقبل الوطن الذي عبر عنه بالأحلام، والقصيدة رقم (5) الطفولة: فالشـاعر يرى أن الطفولة تمثل البراءة والنقاء والصدق، لذلك نرى مـن خلالها مـا لا يراه الآخرون، والقصيدة رقم (6) الغربة: التي التي جعلت من الشاعر بغياب الوطن سفراً دائما في الكلمات إذ يبحـر في القصيدة هربا من الواقع، والقصيدة رقم (9) الحلم: الذي لا يتسع الواقع لمفرداته، ويؤدي التضاد هنا وظيفة المفاجأة من خلال ما ينتج عنه من فجوة تخلق مسافة للتوتر، وفي القصيدة (19) الذكرى التي يختم بها الشاعر انطباعاته عـن الواقع في مكان وزمان محددين، إذ يمزج بين خسـائر الوطن بغياب الأحبـة والأصحاب وبين حضور الذاكرة التي يصور فيها استمرارية الحزن والألم، إلا انه يمزج أحيانا ذكرياته الشخصية برؤاه الذاتية ليرسم يوتوبيا خاصة في قصائده .

ورغبة منه في تعزيز ما يطرحه في النصوص الشعرية في هذا الكتاب، يقدم الشاعر طلال بعض المقالات التي تأتي أحيانا بعد النصوص الشعرية التي يعالج فيها الثيمات نفسها التي عالجها شعرا، مثل (حزن الصورة، وداعا أيها الشاعر الرائع، ثقافة الذاكرة، غرائب، غياب، سفر، دائما اعلق وجهي على الأشجار، بيت الطفولة صباح دمشق لا تقرأه إلا شعرا، بغداد بعد 2003 شارع المتنبي، لا بغداد في بغداد 2005) ففي هذه المقالات يعـود الشاعر ليعبر عن تلك الموضوعات التي طالما أرقته مثل : الوطـن والموت والذاكـرة والغربـة والسـفر والطبيعة والطفولة وبغداد، فهو يرى أن (الصورة القديمة تبعث فينا إحساسا بالانتماء الى الزمن المتصل في حقيقته بنا لأنه يشكل جزءا من تكويننا الممتد إلى ذلك الزمن) وفي وداع الشاعر وليد دحام الذي غيبه الموت يعبر الشاعر عـن عدم مفاجأته بالخبر لأن الموت اقترن بالعراق ويستحضر موت مئات الآلاف من العراقيين لكنه سرعان ما يعود الى مستودع ذاكرته، ليسترجع ذكرياته مع صديقه الفقيد بما تضمنته من مواقف وأحداث، ويتكرر هذا الأمر في مقالة (سفر)، التي يستحضر فيها الطفولة بما تمثله له مـن يتوبيا يحلم بها، ومما تتميز به هذه المقالات هيمنة اللغة الشعرية تارة، والحوار الذاتي والسرد تارة اخرى، وقد حاول من خلالها التعبير عن رأيه في الواقع الذي مر به الوطن، وما حل به مـن خراب خلفه الاحتلال، فضلا عـن واقع الثقافة التي عرج عليه في أكثر مـن مقال مثل (غرائب، غياب) مؤكدا أن دور الثقافة يجب أن يكون فاعلا في الارتقاء بواقع المجتمع، ولا يكون ذلك إلا من خلال المثقف الحقيقي الذي يأخذ على عاتقه انتشال الثقافة الى مستويات الرقي والتقدم .

الشعر والتلقي بين المفهوم والرؤية:

ومن الانثيالات التي أطلق الشاعر طلال الغوار لها العنان في هـذا الكتاب مقالات في القضايا التي تتصل بالشعر والتلقي، التي تثير جدلا واسعا بين الشعراء والنقاد، مثل ما يسمى بقصيدة النثر والتلقي ومفهوم الشعر، واللغة الشعرية، وقد حاول الشاعر ان يغادر موقع الشعر الى موقع التلقي، ليعبر عن انطباع الشاعر المتلقي للشـعر، وتارة نراه يفسر عملية ولادة القصيدة وطبيعة بنائها، ومـن هـذه المقالات (كتابة، البحث عن التكامل، الخروج، التعبير السامي، تناص، خفايا، لا منطق للشعر، جدل، قصيدة نثر، الشعر، المتلقي، شعرية النص) ، فتارة يصف ارهاصات القصيدة عنده كما في مقالة (كتابة ) إذ (تبدأ بعبارة، فكرة، صورة، وإحساس مبعثه مفردة طارئة من حياتنا اليومية اسمعها ) وفي مقالة (البحث عن التكامل) يفسـر كيف يتناول موضوعـة الحب اذ يتخذه رؤيا تكشـف علاقة الحضور والغياب، وهنا يأخذ الشاعر دور المتلقي (الناقد) لأن الشاعر ليس مـن وظيفته التفسير والتحليل لنصوصه، والشعر عند الشاعر طلال في مقالته (الخروج) هـو خروج عـن جاهزية اللغة مثلما الحب هـو خروج عن جاهزية الحياة، وهـنا يقدم مفهوما للشـعر يتفق فيه الشـاعر والمتلقي، وهـذا الامر في مقالة (التعبير السامي) الذي يشير فيه للشعر الذي وحده من يستطيع اقتحام الأعماق والمناطق السرية بحسب رأي الشاعر طلال، الذي يعود لموقع الشاعر ليقرر أن الإحاطة الكاملة بالتجربة الشعرية للشاعر غير ممكنة، الا ان الشعر لا يعبر عـن حقيقة ثابتة، فالخطاب الشعري يحتمل قراءات متعددة بحسب ثقافة المتلقي وتأويلاته.

ومن القضايا التي يطرحها الشاعر في هذا الكتاب الأشكال الشعرية وبشكل خاص ما يسمى بـقصيدة النثر، وذلك في مقالتين (قصيدة النثر، الشعر ) ولما كان الشاعر قد كتب في جميع أشكال القصيدة، فانه يطرح رأيه في هذه القضية، فالشعر عنده هو الشعر -على حد قوله- بأي شكل من الأشكال الكتابية كتب، ويـؤيد الشاعر الإشكالية التي يحملها مصطلح قصيدة النثر، إذ يراه وافدا من الغرب، وفيـه تناقض لأنه يخرجها مـن دائرة الشعر، وفي هذا المجال يحذر الشاعر من بعض الطارئين الذين يكتبون باسم هذا الفن، فهم ولا يمثلونه وتتسـم كتاباتهم بالسطحية والضعف على مستوى اللغة، وما يكتبونه هو أقرب إلى الخاطرة منه إلى الشعر، ولم يهمل الشـاعر مصطلحات مـثل التناص والمتلقي، إذ خصص لهما مقالتين وضـح فيهما وظيفة المتلقي في العمليـة الإبداعية، إذ يمثل ركيزة مكملة لا يمكن ان يغفل عنها الشاعر، وفي كلامه عن التناص يقر الشاعر أن (ليس ثمة نص صاف يكتبه الشاعر فهو مجموعة أصوات يصهرها بنبرات صوته) وعلى حد قول فاليري أن الأسد عبارة عن مجموعة كباش مهضومة، وتؤكد جوليا كرستيفا أن النص هو عبارة عن فيسفساء من الترسبات الراسخة في ذهن المبدع .

في الأخير فان الكتاب وان تنوعت أشكال الكتابة فيه من شعر ونثر إلا أن الموضوعات المحركة كانت ثابتة في جميع النصوص، وقـد نجح الشاعر في الربط بين النصوص الشـعرية بما تحمله مـن ثيمات ومواقف مـن جهـة، والمقالات التي عالجت في معظمها مـوضوعات الثقافة والمثقف، والوطن ومشكلاته، والشعر وتقنياتـه واشكالياته، والمتلقي ودوره من جهة أخرى .

 

بقلم: د. سعد التميمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم