صحيفة المثقف

شذرات فلسفية مداخلة وتعقيب (٤)

علي محمد اليوسفشذرة اولى: دي سوسير واللغة

(رغم أن وجود الاشياء يسبق فكرتنا عنها الا أنه يمكن القول بأن تصوراتنا تخلق الاشياء) دي سوسير..(1)

هذه العبارة أوقعتني بتخطئتها عندما أخذتها بالتفسير الحرفي للمعنى ودلالتها الملتبسة تأويلا لغويا، بالصيغة المثبتة أمامنا أعلاه بين مزدوجتين، وهي صيغة تشي بمغالطة لغوية تعبيرية تذهب الى أمكانية الفكر أن يخلق وجود الاشياء بعد أن لم تكن موجودة في الواقع العياني المدرك، وكنت ناقشت العبارة في معرض مقالة منشورة لي بعنوان اللغة والاشياء..

الحقيقة أني وجدت العبارة الآن بعد مصادفة قراءتي لها ثانية أنها مقولة صحيحة في حال خرجنا من فخ وشراك أسر تعبير اللغة الحرفي في أدراك المعنى، أذا فسّرناها على وجه الدقة أن سوسيرلم يكن يقصد أن الافكار تخلق وقائع الاشياء في وجودها من لا شيء مادي يكون موضوعا للفكر، في نفس وقت سوسير يقّر على أن الواقع في تكويناته المتنوعة يسبق أفكارنا وتصوراتنا عن موجودات الاشياء ..، والحقيقة الأهم برأينا هي أن الفكر وتصوراتنا الذهنية المجردة المعبّرة عن مدركاتنا لعالم الاشياء ليست جديرة أن تخلق الموجودات والاشياء من عدم وجودي سابق عليها، وهذه المعلومة الجوهرية المطروقة جدا في ادبيات الفلسفة والمعرفة.. لم تكن بتقديري غائبة عن تفكير سوسير في عبارته تلك، فالواقع المادي المستقل للموجودات هو الحافز والانعكاس الحسّي المباشر الفكري والتصوري الاساس لأدراك وجود الاشياء.. والفكرهو مجمل تصوراتنا البعدية عن شيء موجود متعيّن واقعيا سابقا عليه في عالم الموجودات والاشياء قبليا.. ولو لم تكن تصوراتنا عن الموجودات هي من نوع الادراك القصدي المعرفي للاشياء في وجوب وضرورة معرفتنا أهميتها وأسباب وجودها وعلاقاتها السببية بغيرها من الموجودات لما كان للموجودات تلك الاهمية التي تسترعي منا وجوب وضرورة الاهتمام بها ودراستها.. رغم حقيقة أن الاشياء والموجودات هي متعينات أنطولوجية سابقة على معرفتها وأدراكها من قبلنا، وسابقة على تشكيل تصوراتنا الذهنية والفكرية والتعبيرية اللغوية المجردة عنها.. وموجودات العالم الخارجي مستقلة في وجودها المتعيّن كمواضيع مؤلفة من شكل ومضمون سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه.. فالاشياء في وجودها هي التي تبعث وتحرك أفكارنا بها، وليس أدراكاتنا لها هي التي تحدد وجودها المستقل السابق عنا..

وبهذا الفهم للوجود والافكار المجردة المتعالقة معه جدليا تكون مرجعية العقل الادراكية قسمة مشتركة تجمع بين المفهومين المادي والمثالي رغم فوارق الاختلاف الصارخ بينهما في تفاصيل آلية الادراكات وعلاقة الفكر بالواقع ومسائل خلافية جوهرية عديدة أخرى غيرها تجعل من فرز الفهم المادي عن الفهم المثالي في أدراك الوجود وتفسير العالم أكثر من ضرورة موجبة.. ..وليس هنا مجال تفصيلها، ويصبح أمامنا فهم كلا من بيركلي وهيوم ولوك المثالي لعلاقة الفكر بالواقع لا يمتلك كل الخطأ في تقاطعه مع الفهم المادي حين تكون وسيلة الادراك العقلي لكليهما المادي والمثالي لا تخرج عن أننا لا نمتلك من العالم الخارجي غير تصواتنا الذهنية وتمثلاتنا الادراكية عنه.. وعن طريق أمتلاك العقل لهذه التصورات الذهنية المجردة يكون فهمنا لموجودات العالم.. بمعنى المادة في وجودها المستقل لا يمكن أدراكها بغير تصورات الفكر الصادرة عن الذهن بالدماغ، وتمييز الفكر المادي عن الفكر والتفسير المثالي لا يحدده وجود المادة المستقل في عالم الاشياء بل تحدده التصورات المنهجية العقلية في فهم الاشياء بما يضفيه العقل عليها من مقولات تجعل من الفكر مثاليا او ماديا حسب تناول ومنهجية التفكيرالمفروزعن عالم الموجودات الواقعي والمتعالق بها ...

الحقيقة المشتركة التي تجمع التفكير المادي والمثالي أن كليهما يعالجان الواقع بتصورات الذهن التجريدية الفكرية ومرجعية الاحتكام للعقل بأختلاف نوعي جوهري في التفاصيل الخلافية على أمور كثيرة يحددها المنهج.. ومن غير هذه الادراكات التصورية الفكرية واللغوية في التعبير عن الموجودات لا يبقى معنا أهمية أستدلال معرفي قصدي يتيح لنا معرفة الاشياء والموجودات في واقعها، وفي أهمية معرفتنا الكاملة لها من زوايا رصد عديدة لا حصر لها....كما لا يبقى معنا معنى لوجود الاشياء بأستقلالية سابقة على أدراكاتنا وتصوراتنا في عدم أدراك عقولنا لها..

وهنا نضطر الاخذ بحقيقة أن الفهم المثالي للوجود عند أبرز فلاسفته التقليديين يقوم على تجريب حسّي عقلي صارم ينكر الوجود الخارجي والمادة في عجز العقل التجريبي التعبيرعنهما بتصورات العقل الذهنية الفكرية واللغوية، وما يدركه العقل موجود وما لا يدركه لا وجود له على حد تعبيرهم.. ونجد من ألمهم العودة الى ألاصل في الأقرار بحقيقة التقاء الفكرين المادي والمثالي أنّه ليس هناك فكرا ولا تعبيرا لغويا من غير الأقرار المسّبق لوجود الاشياء في أستقلالية عن تصوراتنا وعن أدراكاتنا أو عدم أدراكنا لتلك الموجودات.. فلا فرق بين الادراك من عدمه في تزامنه مع حقيقة أن الموجودات لها وجود مستقل عنا.. وجود الاشياء في عالمنا لا يقوم بناء على رغبة وأهمية وضرورة أدراكنا لها، بل في أهمية الاقرار أننا لا نمتلك أية قدرة على خلقها وأيجادها من لا شيء مادي بالفكر الذهني المجرد.... فهي موجودات واقعية من غير أهمية أدراكنا لها ومعرفتنا بها أو في تناولنا لها.. الافكار لا تمتلك قدرة خلق الموجودات بل الموجودات هي التي تخلق الافكار والتصورات والادراكات عنها..

شذرة ثانية: اللغة خاصية النوع الانساني

(دراسة اللغة بأعتبارها نسقا للعلامات كانت فتحا جديدا للنوع الانساني ) روزاليند كوارد (2)

من المهم الاقرار بالحقيقة الانثروبولوجية التي تعتبر أختراع اللغة خاصية نوعية في الانسان منذ وجوده البدائي في ملازمة محاولته ورغبته أختراع وسيلة التعبير التواصلي بغيره لغويا،، أن أول ماعرفه الانسان كما تذهب له الانثروبولوجيا وتؤكده الفلسفة البنيوية الحديثة هو الكلام الشفاهي الذي يعتبره البنيويون أصل الكتابة ومن بعدها اللغة والكلام سابق على أختراعهما.. ولم يكن الكلام قبل أختراع الكتابة هو لغة تداولية بالمعنى المعروف بأن اللغة هي مجموع الكلام والكتابة معا في رمزية الحروف والمقاطع المنطوقة الصائتة والمكتوبة.. وكان الكلام الشفاهي قبل أختراع اللغة هو أشارات رمزية وحركات جسدية ترافقها هذاءات صوتية تواصلية غير مفهومة في مصاحبتها أيماءات حركية تحاول تقريب توصيل المعنى للآخر، وقد تزامن الكلام الصوتي مع البدايات التصويرية للكتابة في أشكال لا ترقى الى مستوى الكتابة المعروفة التي قوامها الحروف والمقاطع بدلالاتها الصوتية التواصلية... التي وجدت رسوماتها البدائية على جدران الكهوف في العصور الحجرية الاولى، وهذه النقوشات الصورية البسيطة لا يمكن أعتبارها كتابة رمزية تمتلك أحرفا ومقاطع لها اصوات معبرّة عنها تحقق هدفا تواصليا...

كما وصل حال تطور اللغة في نهايات عصر الزراعة وبداية تشكيل المدن في العصر النحاسي أو البرونزي ألاول مع أختراع أبجدية الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين حوالي ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد لتعقبها بالتزامن اللغة الهيروغليفية الفرعونية في مصر الفين وخمسمائة قبل الميلاد وربما كانت السنسكريتية لاحقة لكليهما أو مزامنة لهما..

والمسمارية والهيروغليفية تعتبران لغتان تجمعان كتابة الحرف والمقطع على شكل صورة رمزية صامتة تعبّر عن معنى شيء ولا صوت لها حتى مع ملازمة الدلالة الرمزية والاشارية للصورة المقطعية مع أيماءة حركية جسدية.. وبقيت تلك الكتابة على أنها لغة تواصل تداولي تفي بالغرض من وجود اللغة في حياة الانسان وأهميتها في تلك العصوروما تلاها أي قبل أختراع الانسان أبجدية الكتابة واللغة بمفهومها المتطور الحديث..

أذن اللغة منذ بدايات تكوّنها وتطورها وقبل أختراعها بشكلها الحديث لم تأخذ صفة الفتح الجديد للنوع الانساني حصرا مع بزوغ فجر الدراسات الالسنية واللغوية في بدايات القرن العشرين، بمعنى بقي منجز أنسنة اللغة النوعي تحصيل حاصل التطور الانثروبولوجي للانسان في بناء الحضارة، ولا تضيف فتوحات الدراسات اللغوية الحديثة آفاقا معرفية أنسانية تتعالق باللغة لم يكن تطور اللغة عبر التاريخ يعرف بعضها متحققة في حياة الانسان...

وهنا تظهر أمامنا حقيقة أن تطور اللغة هو تطور الانسان أنثروبولوجيا ...بمعنى أيضا أننا لا نضيف جديدا مخترعا أو مكتشفا لغويا وصلته الدراسات اللغوية الحديثة بعد أن اصبحت اللغة نسقا علاماتيا أضفى على لغة الانسان بعدا آخر جعلت من وجوده الانثروبولوجي خاصية نوعية جديدة متقدمة لتوكيد خاصية أضافية أعمق مكتسبة فيه لم يكن الانسان يعرفها ويعيشها في بعضها على الاقل .. ..

مسألة توكيد الوجود النوعي للانسان في تطور اللغة تحصيل حاصل تطوره الانثروبولوجي، وهو نفسه يمنحنا الاقرار بحقيقة أن تطور اللغة في النسق العلاماتي الجديد المكتشف بالدراسات الانسانية الحديثة على أنه فتح آفاقا أمام الانسان كنوع في لغة يحتازها الانسان دون غيره من الكائنات..

وتطور اللغة النوعي في نسق علاماتي جديد تقوم عليه الدراسات الالسنية الحديثة والمعاصرة تؤكد خاصية الانسان النوعية أنثروبولوجيا التي هي خاصية أختراع القدرات النوعية في اللغة.. في جميع مراحل التاريخ الانثروبولوجي للانسان لم تكن اللغة غير لغة أنسانوية مؤنسنة بنوع الانسان تنم عن أقتدار فريد متطور خلاّق دائما يتسّم به الانسان كنوع وحده منفردا.. الشيء المذهل حقا في اللغة أن الانسان أخترع مئات الالوف من اللغات واللهجات المحلية بتنوع وثراء يغطي كافة دول العالم اليوم في توكيد أن الانسان كائن نوعي باللغة وليس نوعيا في خروجه منها أذا صح التعبير..

شذرة ثالثة: الجنس والصوفية

يذهب الفيلسوف الفرنسي جورج بتاي ألى أن لغة أشباع الأيروس الجنسي كفعالية بيولوجية غريزية تسعى الى الاشباع تلتقي بلغة التجربة الصوفية على أنهما فيضان لا تستوعبهما اللغة، ويجدر بنا التنبيه الى أن بتاي جمع نقيضين لا يجتمعان ليس على مستوى تعبير حميمية الجسد البايولوجية الحسيّة في تجربة الجنس، وفي أعدام هذه الحميمية للجسد في التجربة الصوفية،، وأنما يكون فيض الفعاليتين وعجز اللغة أستيعابهما في التعبير عنهما انما يكون على مستوى التجريد اللغوي الذي لا يجمع بينهما لأنه غير متحقق في أحداهما ولا في كليهما معا..

العلاقة الجنسية الحميمة بين الرجل والمرأة تجربة بيولوجية غريزية تلتقي في الاستعصاء التعبيري اللغوي مع عجز وأستعصاء لغة التجربة الصوفية في التعبير لكلتاهما على أنهما فيضان من الفعالية البيولوجية النوعية لا تستوعبهما اللغة.. وهي عبارة تحمل من الدلالة والعمق ما يوقف التوضيح لها عند توّخي حذر حدود الاخلال بصياغتها اللغوية الفريدة حقا في محاولتنا توضيحها..

بدءا يبدو التناقض في جمع نقيضين على مستوى الجسد ومستوى اللغة لا يجتمعان في أستحالة حقيقية،، فهي مسألة تحتاج تدعيم ومقبولية، ولا حاجة الى التذكير بأن بتاي الفيلسوف يعرف جيدا أبعاد هذا التناقض في حال محاولة جمعهما على مستوى بيولوجيا الجسد وعلى مستوى عجز اللغة التعبيرعنهما كفعاليتين للجسد خارج المعطى الحسّي، بين لغة الجسد الحسيّة الايروسية بأمتياز مطلق مع أفتراق لغة الجسد الروحية الصوفية المّحلقة بأطلاق لا محدود عنها، فتعبيرتجربة الفعالية الايروسية عن نفسها بالجسد حسيّا هي فعالية بيولوجية غريزية تنشد الاشباع لها، لذا فهي متقاطعة تماما عن اللقاء مع التجربة الصوفية التي تتسم بالتعالي الوجداني العاطفي الذي يعلو فوق لغة الجسد الحسّية وكل ما له صلة بالواقع المادي معها، والفعالية الجنسية الحميمة هي عملية أشباع شخصاني غريزي جسدي تحت وصاية العقل وحضور الحواس ومنظومة الجهاز العصبي المرتبط بهما.في حين نجد التجربة الصوفية تحررا تاما وخروجا على جميع هذه المواضعات الحسّية التي تحيط تجربة الجسد الحسّية في أشباعها أيروس الجنس الغريزية التي تتصف بها العلاقة الجنسية الحميمة،، فلا وجود لحضور عقل في تجربة التصوف ولا جسد حسّي ينشد اللذة ولا ادراك حواس ترتبط بمنظومة الجهاز العصبي.. وكل هذا التمايز لا يلزم المشابهة له في التجربة الايروسية مطلقا..

جورج بتاي جمع بين الفعاليتين الأيروسية الجنسية والتجربة الصوفية ليس على مستوى فعالية الجسد كنوع بيولوجي بل على صعيد أنهما فيضان لا تستوعبهما اللغة في التعبيرأيضا..وهو تعبير فلسفي غاية في جمال وعمق العبارة الموحية بكوامن تأويلات دفينة لا تحد، العلاقة الايروسية الحميمة في لغة الجسد وتعبيراته البيولوجية تكون فعالية تحت وصاية العقل ومنظومة الجهاز العصبي في تحقيق متعة ولذة الاشباع الغريزي للجسد وهي حتما تجربة يلازمها عجز وأستعصاء لغوي لا يختلف كثيرا عن حالة وصف أشباع الغريزة في أدراكات العقل القصدية الثلاث الاشباع الجنسي واشباع الجوع واشباع العطش فهي جميعها من نوع الاشباعات الغريزية عند الانسان... بخلاف العملية الجنسية في الاشباع حين تكون اللغة في أستعصائها عن التعبير في مرحلة متأخرة من قدرات التعبير غيرالممكن عن التجربة الصوفية.. ..

ولو نحن عدنا الى عقد مقارنة بين عملية أشباع غريزة الرغبة الجنسية مع أشباع تجربة التصوف الروحية المتعالية لوجدناهما يلتقيان كفيضين لا تستوعبهما اللغة ولا تحدّهما أيضا.. فيض حسّي أشباعي جنسي وفيض غير حسّي روحاني صوفي متعالي على بايولوجيا الجسد ومتعالي أيضا على كل ارتباطات الجسد في أنشداده الى عالم الواقع والشعور،، من عواطف وانفعالات النفس الحسية الدنيوية الأمّارة بالسوء..

عجز اللغة في تجربة العلاقة الحميمية الجنسية على أنها فيض من الفعالية الجسدية غير مسيطر عليها رغم أن العقل ومنظومة الجهاز العصبي تشرف في وصايتها عليها.. فالجسد في بعض فعالياته البيولوجية شديدة التعقيد تكون لغة التعبير عنها أو وصفها غائبة تماما ومعّطلة قصديا أو بدون قصد، فاللغة التعبيرية عند الصوفي مقصود تعطيلها لذاتها لديه وفي أهمية ووجوب تجاوزها كي لا تفسد التجربة، وتكون لغة التعبيرعفوية في الاستعصاء التعبيري غير مقصود تجاوزها في التجربة الجنسية... وتكون فعالية الجسد الحسية لا تحتاج لغة التعبيرعنها التي تحدّها حسّيا،،

فاللغة غالبا ما تكون تعبيرات تحدّ الجسد حتى عندما يقوم بأيحاءات حركية سيميائية رمزية خارج متداول اللغة التواصلي يستقبلها المتلقي ويفهم دلالاتها.. بعيدا عن لغة التوصيل المسموعة الصوتية المقترنة ببايولوجيا الجسد خارج فعالية أيروسية الجنس..

للجسد أكثر من لغة تعبير وأكثر من فعالية تلزمه عدم الحاجة الى مصاحبة وتلازم تعبير اللغة التداولية الصوتية لتلك الفعاليات العديدة... ونجد ذلك واضحا كما في أبرز وأهم مثال هو أنكفاء وعجز حضور اللغة في تفسير معنى التجربة الصوفية وكيف حدثت وماذا تبغي تحقيقه..بل في تجربة التصوف تكون اللغة بكل تنوعاتها التواصلية والدلالية خارج أهتمامات المتصوف في تغليبه لغة القلب والوجدانات والعاطفة والتسامي الروحي الذي لا يشّل حضور اللغة فقط بل يشّل العقل ويوقف كل متعلقات ألارتباط بالواقع.. وجميعها صمت موحي ومعبّر لا يحتاج لغة توصيل ولا لغة شرح تواصلية..

شذرة اربعة :توما الاكويني وحقيقة الوجود

يعتبر القديس توماس أكويناس (أن الحقيقة هي المساواة بين العقل والاشياء، بحيث يستطيع العقل أن يقرر ما هو كائن موجود وما هو غير كائن ليس موجودا)(3)، هذه المقولة الفلسفية تلقفها عن وعي وأدراك أو بدون وعي أو شعور جميع الفلاسفة المثاليين الذين توالوا من بعد القديس توما الاكويني وصولا الى قطب الفلسفة الذرائعية البراجماتية وليم جيمس قوله ( كل تجربة حسّية أو تصورية يجب أن تطابق الواقع لتكون حقيقة ).(4)

عبارة توماس الاكويني تشي بتطرف غير مسبوق في أنكاره أن يكون أدراك الوجود وعالم المادة والاشياء كما اخذها عنه بيركلي وهيوم ولوك وصولا الى مور ورسل، فجميعهم يلتقون على حقيقة أن العقل وحده رفقة وسيلة الحواس وليس الوجود هو الذي يقرر بالذهن المجرد ماهو كائن وما هو غير موجود، والوجود لا يصبح حقيقة من غير أدراكات الحواس والعقل له.. متغافلين عن حقيقة أهم مما يعتقدون به أن الوجود كحقيقة وعالم قائم بذاته هو موجود سواء أدركه بيركلي أم لم يدركه.. وما لا يدركه بيركلي يدركه الألوف غيره.. الوجود الخارجي في أستقلاليته لا يحتاج الحواس ولا العقل في أدراكه كي يثبت وجوده...فهو موجود خارج أدراكات الحواس والعقل وموجود مع أدراكات الحواس والعقل له أيضا.. ولا يتعيّن وجود الاشياء في رغبتنا أدراكها من عدم رغبتنا أدراكها.. عليه يكون أدراك الموجودات والاشياء في العالم الخارجي لا يرتبط وجودها سببيا في وجوب أدراكنا الحسّي والعقلي له وجود الاشياء في استقلالية تامة لا تلزم الحواس والعقل ادراكها،، وليس صحيحا أبدا أن ما لا يدركه العقل فهو غير موجود سوى عند بيركلي وهيوم وأشياعهما.. أن أدراك العقل للاشياء ليس لتعيين وجودها من عدمه، وأنما يقوم العقل بادراكها من أجل معرفتها بخصائصها وأهميتها وضرورة تواجدها السببي وعلاقاتها بغيرها من الموجودات وبالانسان أيضا.....ليس مهما أدراكنا وجود الاشياء بمقدار أهمية كشف معرفتنا بها ولماذا هي موجودة وما علاقتها بنا وأهميتها لنا...وتطابق مدركات العقل الآتية أليه عبر منافذ الحواس مع وجود الاشياء العياني لا يعني معرفة حقائقها وأدراكها التام، ولا كاف معرفة وجودها من عدم وجودها فهذا لا يمّثل معرفة حقائقها بشيء،، لأن ما تدركه الحواس في توصيله للعقل لأثبات وجود الاشياء يبقى أدراكا ناقصا لأنه يعتمد الحواس أولا ويعنى بالصفات الظاهرة ثانيا ولأنه أدراك شخصاني لا يمكن تعميم مصداقيته ثالثا..

لذا يكون مطابقة ما تدركه الحواس من موجودات الاشياء في عالمها الخارجي لا يلزم عنه أن يكون وعيا جمعيا أدراكيا وليس شخصانيا منفردا،، بل استحالة مثل هذا التعميم.. والادراك الشخصاني الهادف لا يكون بالضرورة وعيا قصديا هادفا لآخرين.. وهذا ما يجعل أدراك الحواس والعقل في معرفة عالم الاشياء يظل ناقصا وغير حقيقي تماما على الدوام..

نرى من المهم التأكيد على أن ألاحساسات تكون عقلية صادقة في نقل مدركاتها للعقل متى ما وجدناها متطابقة فعلا مع الاشياء في وجودها الخارجي المستقل، وفي حال عدم التطابق يكون الخطأ بالحواس وليس في وجود الاشياء..ومن هنا تبقى حقيقة أن وجود الاشياء لا يحدّها الادراك العقلي لها،، وأنما الحقيقة يحددها الوجود في حقيقة معرفته وليس حقيقة أدراكه..

شذرة خامسة :اللاوجود بين بارمنيدس وهيراقليطس

يذهب هيجل الى أن ما يدركه العقل واقعيا يتحتم وجوده الادراكي في عالم الاشياء بالضرورة السببية.. وبضوء هذا الفهم الهيجلي يكون من الخطأ معنا أن نفهم عبارة بارمنيدس (اللاوجود غير موجود، والوجود كائن واللاوجود غير كائن) متناقضة مع تعبير هيجل أن لم تكن تمّثّل أمتدادا متجانس المعنى معها،، وبضوء فهم بارمنيدس لا يمكن أن يصدر الوجود عن اللاوجود الذي يفهمه البعض خطأ أنه (عدم) لا يدركه الفكر ولا يدركه العقل...فاللاوجود ليس عدما ولا فراغا وأنما هوأفتراض وجودي غير متعيّن حدسيا ولم يدرك وجوده زمنيا ليصبح وجودا مدركا.. يمكننا القول أبتغاء التوضيح أن الادراك أربع فعاليات متداخلة ومتكاملة معا، فكل مدرك واقعي يحتاج الى وجود مكاني وحيّز متعين كموضوع للادراك أولا، ثم الى حواس تدركه ثانيا والى عقل يتمّثله بمقولاته ثالثا، والى زمن يلازمهم في تداخل معهم ثلاثتهم رابعا..

والوجود عند بارمنيدس ثابت لا تحكمه الحركة ولا يطاله التغيير،، بخلافه أذا ما أستعرنا مفهوم هيراقليطس أن الوجود تحكمه الحركة والتغيير وكل الاشياء هي صيرورة دائمة من التبدل والتغيير المستمر.. لذا من الممكن أن يصبح ما هو غير غيرموجود موجودا وعّلة وجوده هو الحركة، التي بتأثيرها على الوجود واللاموجود في كل تنوعاتهما وتمظهراتهما يصبح ماهو غير موجود موجودا في لحظة زمنية واحدة، وفي ذلك يصبح اللاوجود هو أنزياح للوجود المحكوم بالأخلاء والمغادرة زمنيا سواء في أتخاذه تمظهرات متغيّرة جديدة أو في مغادرته وأخلائه حيّزه المكاني بأنحلال عدمي يفنيه ويقصيه أن يكون مدركا في عالم الاشياء والموجودات... وبهذا يكون توضيحنا الاشكالية التعبيرية المتناقضة لهيرقليطس عند قراءتنا لها لأول وهلة قوله (اللاوجود هو وجود وغير موجود معا) يقصد كليهما وجودين في حركة آنية زمنية واحدة..

والخروج من أشكالية هيراقليطس هذه اللاوجود هو وجود ولا وجود معا،، أنما يقوم / ويكون بحل هذا التناقض في أعتمادنا (الحركة ) التي تحكم كل شيء في أننا نكون أمام عبارة هيراقليطس في أن الوجود غير موجود وغير الموجود موجود.. التي كما أشرنا تضعنا أمام أستحالة أدراكية لا يمكن التسليم بها لأننا ملزمون حسب العبارة وجوب التسليم بأدراك الوجود واللاوجود في زمنية واحدة التي هي زمنية متحركة تزيح الموجود في تراتيبيته وأسبقيته مع غير الموجود أدراكيا في أستقدام الحركة اللاوجود أن يصبح وجودا مدركا في زمنية أنزياح الموجود بحكم تأثير الحركة والزمن.. هذا الاستطراد يجعلنا نستنج على أنها تتناقض بالفهم مع عبارة هيجل السابقة..ولكن نجد في توضيحنا أمكانية عدم التناقض..

ولتوضيح نجده مقنعا في عبارة بارمنيدس يكون اللاموجود موجودا بمعنى أننا لا يمكننا تحديد وجود الاشياء كمتعينات واقعية من غير الاستدلال الافتراضي بأن اللاوجود سيكون موجودا أيضا في برهة زمنية حركية لاحقة غير مدركة ولا محسوسة حضوريا لكنها مدركة حدسيا بمقارنتها في منظومة التراتيبية الادراكية المتعاقبة للوجودات التي تأتي زمانيا بعد تأكيد حضور اللاوجود الغائب السابق على وجوده المتّعين بعاملي الحركة والزمن.. بهذا المعنى تكون جميع الموجودات التي لم تكن موجودة سابقا ووجودها الحضوري المدرك أنما يكون متوقفا على أدراكها الحركي والزمني اللذين يكونان عّلة حضورها ..أي أن كل غير موجود سيكون موجودا لاحقا في زمنية وجودية تلازمه وتحكمه بالوجود بعد أن كان غير موجودا،، وكل موجود سينزاح في أخلاء حضوره ألادراكي المكاني زمانا لما سيعقبه ويأتي بعده..الوجود هو زمن أدراكي متغّير على الدوام.. هذا الفهم يصبح صحيحا أكثر عندما ننطلق من التفريق بين اللاوجود هو ليس عدما ولا فراغا وأنما هو وجود لا يتمتع بزمنية حضوره الادراكي الغائبة..

شذرة سادسة أخيرة: هيدجر والعدم

يعرّف هيدجر العدم بأنه النفي القاطع لكل وجود أو شيء يحكمه الفناء الحتمي القطعي بالموت..

هذا التعبير أجده خاطئا غير موّفق ولا صحيح منطقيا فلسفيا،، ولا مجال تعليق هذا الخطأ على مشجب خيانة اللغة في التعبير كما يذهب رولان بارت،، فألخطأ هنا بالفكر وليس في مخاتلة وخيانة تعبير اللغة.. وتعقيبنا أن العدم ليس وجودا قبليا متعيّنا يسبق وجود الموجودات في عالم الاشياء التي يستهدفها الفناء، كما هو ليس وجودا بعديا يخلف نهاية الاشياء المحكومة بالعدم.... أي حقيقة وجوهر العدم أنه أستدلال أفتراضي يسكن جوهر الاشياء كما تسكن الدودة قلب الشيء المحكوم بالنفي العدمي على حد تعبير سارتر،، العدم هو أستدلال أفتراضي لوجود غير بائن للادراك لا كمظهر ولا كجوهر على السواء..وأنما هوحقيقة مطلقة نعرف نتائجها بالحدس ولا نعرف ماهيّاتها بالادراك.. ولمعرفة الموجودات على حقيقتها قبل أستهداف العدم الحتمي كما الموت أفنائها من الوجود.. وأبلغ تعبير عن ذلك أنما جاء على لسان سارتر في تعريفه معنى العدم بقوله أن العدم يركب ظهر الوجود المحكوم بالفناء والزوال لا يتقدمه ولا يسبقه بل يلازمه ملازمة الظل.. وهو كالدودة في باطن الموجودات والاشياء.. العدم هو غير اللاوجود أو الفراغ الذي يتوسط موجودين محكومين بالفناء بل هو يلازمهما كجزء من تكويناتهما كلا لوحده وصولا الى حتمية فنائهما لا قبليا ولا بعديا عنهما بل في ملازمة حتمية لا أنفكاك لها.. فالعدم لا يسبق الوجود ولا يأتي بعده، بل هو دلالة أفتراضية يستهدف غيره من الموجودات والاشياء بالفناء،، وهو لا يفنى بالفناء ولا يعدم نفسه كما في تعبير هيدجر، بل هو نتيجة منطقية متبقية بعد فناء الموجودات المحكومة بحتمية العدم والزوال.. أنه كالموت الذي يعدم الحياة ولا يعدم نفسه في أستمرارية بقائه كحقيقة أزلية في معايشته الحياة والانسان والطبيعة والموجودات.. ..

 

علي محمد اليوسف/ الموصل

................

الهوامش:

1- د. جعفر عبد الوهاب /الفلسفة واللغة /ص 23

2- نفس المصدر ص 27

3- نفس المصدر ص 29

4- نفس المصدر ص 34

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم