صحيفة المثقف

فلسفة الاستنزاف النفسي

مهدي الصافيثقافة الصور الظاهرة..

الاديان.. الطقوس والشعائر والتراث..

العقل والمعرفة والاخلاق.. الذاكرة والذوق والاحساس والشعور والعاطفة والحب والجمال...

هذه الضرورات الانسانية المهمة، التي بدونها يفقد الانسان ادميته وحيويته في الحياة، ويصبح رقما مهمشا في ميزان التأثيرات الايجابية في المجتمع، فيكون ضرره اكثر من نفعه.

الانسان كائن بسيط ومعقد، تتحكم بقدراته العقلية والعلمية والجسدية (اضافة الى نسبة او ملكة الذكاء والعبقرية) حجم المعارف والمعلومات المكتسبة، وكذلك الظروف والبيئة والثقافة او الدين والموروثات الاجتماعية، يتعقد اداءه وفعله ومسيرته في الحياة، تبعا لطبيعة الجهل والتخلف والعقائد المصطنعة التي يؤمن بها، اضافة كما ذكرنا الى الظروف وطبيعة المجتمعات والانظمة السياسية والتربوية او الثقافية...

يقال ان بعض خطط الحكام المستبدين الذين يرغبون بزيارة معينة عامة (لمدينة او قرية او مؤسسة معينة الخ.)، تطلق اجهزتهم الامنية عدة اشاعات حول اماكن بديلة محتملة للزيارة، كي لا تتمكن قوى المعارضة المفترضة من رصده، ففي نظام الدكتاتور صدام كانت اجهزة الامن تتجه بعدة مواكب رئاسية في جهات مختلفة للتمويه، وفي اغلب الاحيان يتجمهر رجال الامن في مكان معين، ويحدثون ضجة شعبية فيه، الغاية منها اعطاء صورة ظاهرة اقرب للحقيقة، من ان الزعيم متواجد في هذا الموقع، ثم يظهر العكس...

الغاية من هذا المثال القريب من الواقع العملي، هو تبسيط شرح مفهوم الصور والمشاهد والاحداث والممارسات الظاهرة، التي تأخذ وتجذب او تتلاعب بعقل وروح ووجدان الانسان او المجتمع، لتسيره الى اماكن اخرى(فارغة لا تمثل جوهر الحقيقة)، حتى تتمكن القوى او الجهات المستفيدة من هذه الخدع البصرية الشاملة من البناء والترسيخ على تلك الظواهر وجعلها اشبه او اقرب للواقع الموثق، كما يحصل مع الموروثات الدينية (بعض منها يندرج تحت مقولة اكذب اكذب حتى يصدقك الناس)، فقد تحدث عن تلك الحالة الكثير من المفكرين، من انها جزء من سياسة الالهاء المتعمدة من قبل انظمة الحكم الراسمالية العالمية المهيمنة على الاعلام،

ولكنها في الحقيقة تعد اكبر واخطر من تلك الظاهرة بكثير، تصل في ابعادها الى مديات عقائدية تاريخية سحيقة، تخترق الذاكرة والثقافة الاجتماعية بشكل يومي عبر المؤسسات والشخصيات المنتفعة منها، متمثلة بالاديان والموروثات، والاثنيات، وتاريخ الامم والشعوب والحضارات..من الممكن جدا ان نعطي امثلة كثيرة عن تلك الظواهر المنسية...

الاديان:

الاديان لا تأخذ بيد الانسان او المجتمع المتخلف الى طاعة الله عزو جل..فالعرب جاءهم الاسلام، وقادهم الى مقدمة الامم في عهد الرسول محمد ص، ولكنهم منذ اكثر من اربعة عشر قرنا لازال ايمانهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى شكلي ظاهري، بالرغم من وجود القران الكريم، والسنة النبوية، والمذاهب والفقهاء، ويمارس اغلبهم العبادات والطقوس والشعائر بطريقة منتظمة يوميا ودوريا، ولكن الخلل والتراجع والانكماش والتأخر الحضاري مستمر في وتيرة تصاعدية، هذا يرجع الى ان الطرق والصور المقدمة لهم عن الدين، تستنزف منهم الطاقات العقلية والنفسية والروحية في الامور الظاهرة منه، اي ان الاهتمام والاجتهاد المذهبي الفقهي، الذي عمد الى تقريب المسافة بين عظمة الله عز وجل وقدرته، وبين امكانات الانبياء والرسل والفقهاء او مراجع الدين، صار حاجزا امام باطن الحقيقة، فظاهر الدين الحالي لا ينطبق مع باطن العبادة والايمان بالله عز وجل، انما حالة من الفراغ او الهوة الواسعة بين العقائد والممارسات الدينية (التي وجدت لتقريب المسلم او العبد من خالقه)، وبين التصرفات والسلوكيات اليومية لرجل الدين او الانسان المسلم العادي، لازالت المجتمعات والدول الاسلامية متخلفة وغارقة في الفساد والظلم والاستبداد والجهل ..

لازال السلاح والعنف طريقهم المعتاد في حل مشاكلهم الداخلية، اما ظاهرة النفاق فهي تحكم قبضتها على عقولهم وتفكيرهم وحياتهم الاجتماعية ...هذه الامة كانت تحارب الفلسفة والفكر، والثقافة والابداع ويجعلوها

في خانة البدع والانحراف..

طريق الحضارة هو السبيل الوحيد لا نقاذهم وجعلهم اقرب لله عزو جل مما هم فيه.. بمعنى لو كانت المجتمعات المسلمة متحضرة لاصبحت في مقدمة دول العالم اليوم...

ما يحصل عبر قرون هو تكرار لاستحضار صورة الماضي (التراث، والتاريخ المصطنع) لا عادة تصديرها وتسويقها للمجتمعات المسلمة الحالية، في حالة من الصراع والتطاحن العقلي والنفسي الداخلي، لا يراد للفكر الحر ان يخترق هذه الخطوط الحمراء المتوارثة، تماما كما يحصل في حالات التحشيد القومي او الطائفي او اليميني المتطرف، من اجل الكسب المادي او السياسي، وليست حاجة انسانية اخلاقية لزيادة في الوعي او ثقافة المجتمع، {الانسان يتفاعل مع ظاهر الصور سواء كانت ممثلة بالطبيعة الجميلة، او بالقناعات والاراء والافكار البسيطة السهلة الفهم، او حتى القريبة من مستوى الادراك والوعي لديه، فالانسان الذي يزور منطقة سياحية معينة (على سبيل المثال)، تأخذه صورة جمالية معينة في الطبيعة الساحرة، يبدأ بالتفاعل معها وفقا لمستوى الوعي الذي يملكه، اما ان يلهوا ويمرح وينطلق في الفراغ الكامل، واما ان يستغرق بالتفكير والتأمل كما يفعل الفلاسفة والمفكرين والشعراء والادباء (الخ.)، النتيجة ان المتعة حصلت، ولكن الغاية والهدف والفائدة اختلفت تماما، هذه المشاكل الاجتماعية الغير مشخصة بشكل واضح، ولم تعالج فلسفيا او فكريا لحماية الانسان او المجتمعات والاجيال القادمة من ظاهرة الاستنزاف والاستغراق العقلي والنفسي او الروحي بظواهر الصور الطبيعية او المصطنعة ماديا ومعنويا، دون الوقوف عند جوهرها وحقيقة امرها، سوف تزيد من الازمات والكوارث الثقافية او الدينية، كظاهرة عودة اليمين المتطرف لاختراق الحضارة التكنولوجية للانظمة العلمانية المدنية في اوربا وامريكا،

فالصور المقدمة عنها هي صورة الصراع والصدام الحضاري المستمر بين الامم (دينيا وعرقيا وثقافيا)، بينما ان الذي يختبأ خلف تلك الماكنات الصناعية التخريبية (ماكنات صناعة الصور الظاهرة المغايرة للحقيقة) هي المصالح الراسمالية الامبريالية (امبراطوريات الهيمنة، المال والسلطة)،

وهي بالطبع لا تختلف كثيرا عن الامبريالية الدينية للمؤسسات والاديان الاخرى، ففي اليهودية كما في المسيحية والاسلام استغل الدين لقرون في صناعة صورة الطاعة والعبادة والانقطاع لله المقدم من قبلهم، فابتعد الناس عن هذه الاديان الوضعية (الاديان الشعبية)، بالعقل والعلم والمعرفة والحضارة الالكترونية-الفضائية، ولا توجد اكثر صورة عن هذه الانحرافات الاخلاقية او الدينية، كتلك التي صورتها المعابد والكنائس والمساجد عن صكوك الغفران، ومفاتيح الجنة، والاجتهاد في الغيبيات والماورائيات الاخروية، واعطاء اهمية كبيرة للشعائر والطقوس والشعائر الدينية، واعتبارها اوامر الهية مقدسة، لابد ان يمارسها الانسان كي ينال رضى الخالق عنه، ليقبل اعماله او القرابين المقدمة منه اليه، حالة من الاسطورية الغارقة في الصور التقليدية المتوارثة عن الاديان الشعبية القديمة....

اكثر الطوائف او الفرق الدينية في تاريخ الاديان الحديثة، التي ميزت بين باطن الدين وظاهره، هي الطائفة الصوفية القديمة (المدارس الصوفية الاولى)، عرفت او كشفت ان حقيقة الايمان بالخالق ليست طقوس عبادية رسمية اوشعبية، انما هي حالة من الذوبان الباطني الروحي للانسان في صورة الاله الاعلى المقدس، لا يمكن ان تتجسد في صور

 العبادات والعقائد والممارسات الدينية الشائعة او الظاهرة، الا ان الخطا الكبير الذي وقع عندهم، وجعلهم لا ينفتحون علميا على الايمان بشكل اوسع، هي العودة الى نفس اسلوب الممارسات او الحركات والطقوس الروحية الظاهرة(تزكية النفس)، وهي حالة من حالات الاستنزاف الروحي الكبير، الذي لم يتمكن من اقناع عامة المسلمين، ولا مدارسهم المذهبية الكثيرة بقبول هذا النوع من العبادة المتناقضة ....

في السياسة والتجارة والاعلام وحتى في مجالات الثقافة والادب والفن وعموم الابداع، تنقل صور مغايرة للحقيقة احيانا عن الواقع الموضوعي او الماثل امام المجتمع.

فلكل شيء ظاهر وباطن، ثم تبقى بعدها حسابات معايير التفاعل بين فلسفة التفكيك المنطقي العقلي العلمي لتلك الحالات، وبين قدرة وقوة ظواهر الاستنزاف الروحي المهيمنة على الواقع الاجتماعي او العقل الجمعي، فهي الطريق والاسلوب الافضل للتحديد والتشخيص، لانتشال اغلب طاقات الانسان الضائعة من حالة الخمول والكسل العقلي، وكذلك لمنعه من ان يصبح مجرد رقم تجاري او صناعي او اجتماعي مؤدلج فكريا او مبرمج الكترونيا، لا يكترث احد لافكاره وطموحاته ومستقبله الشخصي،

بعد ان صار موقع ومكانة الفلاسفة والمفكرين والمبدعين في اخر الطابور الرسمي والاجتماعي (حتى في الدول المتحضرة التي تعترف بأن من انقذها من وحل الحروب والازمات والمعاناة، وشبح الماضي المظلم، علوم وافكار وايديولوجيات عظماء الفكر والفلسفة) ...

الاستنزاف الروحي او النفسي امر كارثي، لانه يصور الحياة على انها شيء اخر، غير الذي وجد من اجله الانسان...

تتجسد بعض صوره في التلوث البيئي وتغيرات المناخ، وتفاقم او تزايد مستوى الامية والفقر، وانتشار الجريمة والمخدرات والامراض النفسية، واندلاع الحروب وزيادة النزاعات الدولية والفتن الدينية او العرقية، الخ.

(ان بعض الدول تجرم وتحرم قطع الاشجار ولكن عندما يتدخل الاستثمار والحسابات المادية تصبح تلك الغابات او الاشجار عقبة امام التقدم الحضاري الراسمالي كما يدعون الخ.)

الانسان بحاجة الى فلسفة انسانية حديثة تبعده عن الاعتقادات والقناعات السطحية الساذجة في الحياة، وعن الانبهار والاستغراق والاستنزاف الروحي في الصور التراثية او الاجتماعية الجاهزة المقدمة اليه، دون ان يكون هناك تطابق فعلي بين جوهر الحقيقة وبين الصور النمطية (الدينية او الثقافية او السياسية) المعتادة، عليه ان لا يكون وعاء للخزن السلبي، الذي سرعان ما يصيبه العفن، فينفجر كالبركان ليدمر كل شيء...

يجب ان لا تستمر عملية الدوران في الفراغ القاتل، فتعاد صناعة خزائن واوعية جديدة، لتكرار عملية التعفن والانفجار الروحي او النفسي المتوارث...لابد ان يخضع كل شيء الى لغة العقل والعلم بما فيها الاديان والعقائد والماورائيات...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم