صحيفة المثقف

خالد السلطاني.. من (حرفيات) فن العمارة إلى (جماليات) التشكيل

جمال العتابيمازال المعماري خالد السلطاني منحازاً إلى كشوفاته المعمارية التي يعبّر عنها دائماً بالبحث والدراسة الأصيلة، والمتابعة لفن العمارة، بحرصٍ متناهٍ، وكأنه يعالج أمراً جديداً في غاية الدقة والتعقيد، ثمة حوار خفي بين الصورة والمثال لديه، بين الغائب والحاضر، بين المنظور والمضمور، لكنه حوار محكوم بإمتحانات الإنسان ومجاهداته وأقيسته، ذلك لأنه حينما أقام وحدته مع العمارة، أصبح منحاه الوجودي، وهو تاريخ مقروء بالصورة، والمعاودة الحرة للأصوات الداخلية التي تبعثها العمارة .

وإمتلك خالد السلطاني حقه التاريخي، انه إستطاع من أن يحيل هذا الفن إلى مادة مكتوبة ومقروءة، مكّن بها القارىء غير المتخصص أن يجد في ما يكتبه السلطاني عبر الصحافة، قدراً من التناغم والتوازن مع الفن المعماري الذي تتسع فضاءاته ما بين العلم والهندسة والتشكيل، فألف مبانيه الخاصة بمعانيه المبسطة والجميلة، إلى فن يفهمه العامة من الناس ويتذوقوه، فهو يقول: تمكنت من نقل العمارة من خانة الأرستقراطية اللمّاعة، أو من برجها العاجي، وأحلتها إلى فن يهفو إليه الإنسان، وإستطاع أن يستبدل (حرفيات) فن العمارة، (بجماليات) تشكيل منظورة ومقروءة، وإذا جاز لنا التشبيه، يمكننا القول ان السلطاني في منطلقاته تلك، يماثل الأثر الذي تركه ماركس في الفكر الإنساني، إذ جعل الفلسفة تمشي على رجليها، بعدما كانت تسير على رأسها مع (هيغل)، ليظل الفن المعماري موصولاً بالإنسان، متآلفاً معه .

بدأ خالد السلطاني رحلته الإبداعية في هذا العالم من جوف تلك المدينة المظللة بالنخيل، والمطلة على نهر دجلة، من (الصويرة) الواقعة جنوب العاصمة، التي يختصرها بـ(كراج الصويرة) والإذاعة، لأنهما الموقعان الوحيدان اللذان يعرفهما السلطاني في بغداد، وتحسست يداه زمناً من خشونة المدن العراقية وفقرها، وعانى من شحّة الحياة، وتقاسم وعائلته طعم الفاقة مع أبناء مدينته، عائلته التي فقدت الأب بحادث سير منذ سنوات عمره المبكرة، وكان هذا الحال محفزاً للتفوق في مراحل الدراسة جميعها، بدءاً من المتوسطة والثانوية في الكوت، وفي أعلى مراحل الدراسة في (الإتحاد السوفييتي)، إذ تمتع ببعثة دراسية حكومية بعد تموز58 .

إمتدت رحلة السلطاني سنين طويلة كان يبحث من خلالها عن حافز مثير يحمله على تكوين مأثرته الفنية المعاصرة، فوجد في العمارة العراقية مفردات متناثرة، إستطاع أن يحيها على رجيع نبض قلبه وروحه، وأسئلة وجوده، ووجد فيه باعثاً يغرينا بالتأمل في النقوش والأقواس والحجارة ومواد البناء والشناشيل، والتصاميم الهندسية، وظهرت محاولاته وكأنها مصائد سحرية لإقتناص أسرار هذا العالم الذي لاسبيل إلى إدراك إبعاده، إلا بفهم الأنسان الفنان الذي أوحى بها.

يقول خالد السلطاني بتواضع شديد عن نفسه: أنا معلّم ناقل للمعرفة، مهنتي معلم، وهي مهنة عظيمة ونبيلة، وقادر على أدائها، كنت مغرماً بكتابات يوسف السباعي منذ صغري، تعرفت على تفاصيل حياته، قرأت في الأدب، القصة والرواية، وبدأت رحلتي في القراءة منذ أن أطاعت على مجلة الهاتف لجعفر الخليلي في أربعينيات القرن الماضي، لفت إنتباهي مشهد أحد شهود محاكمات (محكمة الشعب) عام 59، وهو يحمل حفنة من التراب، يعبرعنه كرمز للإرتباط بالوطن . هذا الرمز تحول إلى ديوان شعر للجواهري رافقه طوال سنوات الدراسة .

كان السلطاني يعدّ الجواهري قديساً للشعر، فراح يبحث عن ديوان له في مكتبات المتنبي، ووجد ضالّته في المكتبة العصرية، وكانت اولى الخطوات للقاء الجواهري بمكتبه في جريدة الرأي العام على مقربة من مقهى الزهاوي، ملتمساً إياه أن يذيل الديوان بتوقيعه، فنال مراده وحقق مبتغاه، ولابد أن يقطع مسيرة الزمن وهو يحمل قصائد الجواهري، يستعيد بها الوطن، وصوته العميق، وضفاف الصويرة وبساتينها .

همست للسلطاني وهو يأخذني في جولة بمتاحف كوبنهاغن وعمارتها الجميلة، هل تأثرت بفن العمارة الروسية؟ كيف لا! يجيبني: أود أن ألفت إنتباهك الى ان الحداثة في العمارة بدأت من هناك، منذ عشرينات القرن المنصرم، من صنع كل هذا الجمال في المتاحف والقصور والمباني ؟ كيف تآلفت كل الرموز التاريخية والفنية بقوة الأداء والأصالة والتعبير؟ والوفاء للمدرسة الروسية في الفن المعماري، فتحولت إلى أثر إنساني خالد لا يمحوه الزمان، انه الينبوع الذي نهلت منه .

السلطاني وهو يقترب من عامه الثمانين، ما يزال يمتلك أعلى طاقة روحية ممكنة، ليضعنا دائماً نقف بدهشة لقدراته الإبداعية ومنجزه المعرفي والمعماري.

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم