صحيفة المثقف

المقاومة الشعبية الفلسطينية.. ضرورة وطنية بامتياز

باسم عثمانالمقاومة الشعبية الفلسطينية عنوان لحديث غالبية الأوساط الفلسطينية،الثقافية والسياسية والجماهيرية، ويعود ظهور هذا المفهوم إلى تجارب عالمية في نضال الشعوب ضد مستعمريها (تجربة غاندي والمؤتمر الافريقي)، ولم يكن طرح خيار المقاومة الشعبية ذو الطابع السلمي وليد اللحظة في الحالة الفلسطينية؛ إذ كان مطروحاً طيلة المرحلة الماضية؛ وكان أساسيًا في الانتفاضة الأولى عام1987؛ إلاّ أن الزخم الذي حظيت به المقاومة المسلحة إبان انتفاضة الأقصى حشر هذا الخيار في زاوية هامشية، وأضعف فاعلية الدعوة إليه، في ظل أشكال العدوان الإسرائيلي القمعية والعنيفة التي مورست ضد الفلسطينيين.

وبدأ خيار المقاومة الشعبية يستعيد زخمه وأهميته في الآونة الأخيرة؛ وذلك في ظل غياب المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وحالة التهدئة السائدة نسبياً في قطاع غزة؛ ما جعل المقاومة الشعبية القاسم المشترك والحل التوافقي المتاح، في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ القضية الفلسطينية.

وبالتزامن مع الجمود و الموت السريري الذي تمر به "عملية السلام" المزعومة، وتعثر المفاوضات؛ بسبب إصرار الاحتلال الاسرائيلي على مواصلة التوسع الاستيطاني والتهويدي للأراضي الفلسطينية المحتلة؛ كان لزامًا على القيادة الفلسطينية اللجوء إلى خيارات أخرى من المقاومة: شعبية ودبلوماسية مقبولة دوليًا، لكسر هذا الجمود الذي رافق سياسة الاحتلال الإسرائيلي القائمة على انهاء القضية الفلسطينية ومرتكزاتها؛ وللتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وسياساته.

ان خيار المقاومة الشعبية السلمية؛ يهدف الى ممارسة الضغط على قيادة الاحتلال، من خلال إعادة تفعيل الحراك الشعبي والجماهيري، الذي يشكل عامل إزعاج حقيقي لسياسات ومخططات الاحتلال، والذي وقف عاجزًا أمام هذا النوع من المقاومة.

ويهدف إتّباع هذا النهج من المقاومة إلى محاولة تحريك المجتمع الدولي وتفعيل قراراته الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وبهدف إعادة العمل على المسار التفاوضي الفلسطيني – الإسرائيلي، والتدخل لتليين المواقف الإسرائيلية المتشددة، وحشد التأييد الدولي لمناصرة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. 

اما على صعيد الاحتلال الإسرائيلي، فإنه لا يُخفي خشيته من اعتماد هذا الخيار الوطني؛ إذ إن قدرته على إسباغ الشرعية على قمع المقاومة السلمية، أضعف من قدرته على مواجهة المقاومة المسلحة؛ فذلك يعني نزع الصفة الأخلاقية والإنسانية عن المواجهة غير المتكافئة التي يستخدم فيها الاحتلال أدوات القمع والقتل ضد الفلسطينيين، وضد الحجر الفلسطيني المجرد.

وإذا حاولنا التمعن في مبررات المقاومة الشعبية؛ نلاحظ عدة أسباب أهمها:

- ضرورة استنهاض البعد الجماهيري الفلسطيني والعربي لمساندة القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال في ظل انشغال اغلب دول المنطقة في ترتيب بيتها الداخلي نتيجة الهزات العنيفة التي اصابت المنطقة برمتها.   

- ضرورة إبقاء روح المقاومة حية ومتقدة في نفوس الفلسطينيين.

- ضرورة إحراج الاحتلال الاسرائيلي دولياً، والعمل على تشويش وإرباك مخططات التهويد والاستيطان؛ فكل يوم يمر دون فعل كفاحي فلسطيني يُنقص قدرة الفلسطينيين على مواجهة مخططات وإجراءات وجرائم الاحتلال، ويجعل مهمتهم في كبح التوغل الإسرائيلي على الأرض والمقدسات أكثر صعوبة.

- الخروج من مأزق تناقض البرامج والأجندات الفصائلية والفئوية، عبر التوافق على برنامج عملي – ميداني لمواجهة سياسة الاحتلال، يلقى تأييداً وتجاوبًا من الجميع، ويضمن قبول ومشاركة الفصائل الفلسطينية دون استثناء.

 لقد حققت المقاومة الشعبية لغاية الآن، وفي ظل ما يجري، الكثير من الإنجازات على صعيد مقاومة الاحتلال والتصدي لسياساته العنصرية و الاستيطانية و التهويدية للأراضي الفلسطينية المحتلة، و فرضت نفسها على عناوين الصحافة العالمية، وعززت الرأي العام العالمي ضد سياسة  الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي وخطورته على تحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية.

لقد قدمت المقاومة الشعبية السلمية، ونموذجها المثالي( مسيرات العودة) رمزية وطنية و كفاحية عالية جدا وأسلوب متقدم للمقاومة الشعبية الوطنية، يظهر أن الاستمرار في مقاومة الاحتلال بطريقة سلمية وبأقل الخسائر، يشكل إزعاجًا وتحديًا كبيرًا لقوات الاحتلال وللمستوطنين الغاصبين ودحر مخططاتهم و تفكيكها. 

 لهذا كله، فإن مسيرات العودة كنموذج متقدم لأشكال المقاومات الشعبية و الجماهيرية، تكتسب أهمية فائقة ليس - لكونها تشكل العمل الجماهيري، الذي يوحد الحركة النضالية الفلسطينية، في المناطق المحتلة، وفي الشتات، رغم حالة الانقسام و التي اظهرت الحالة الفلسطينية منشقة على نفسها، إدارياً، وسياسياً، وتدور في ظلالها ابشع الحروب والتراشقات الإعلامية التي الحقت الضرر بالحركة الوطنية الفلسطينية، وشوهت مشهدها أمام الرأي العام الفلسطيني و العربي و العالمي، لما فرطت من رصيدها النضالي و تضحياتها الوطنية الجسيمة - بل لكونها تمثل جسر العبور للأمان الوطني الذي تخطى حالة الانقسام في النظام الرسمي الفلسطيني، ووضعه في سياقه الطبيعي المتمثل في صراعات سلطوية و فصائلية، رافضة كل محاولات تجييشها في خدمة اطراف المعارك الانقسامية.

 مع كل الادراك و الوعي لتعقيدات و خصوصية المرحلة الراهنة للحراك الوطني الفلسطيني و حاضنته العربية، شكلت مسيرات العودة كمقاومة شعبية رداً صاخباً و مناسبا على كل محاولات شطب حق العودة، ومحاولات إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، و نزع الصفة القانونية والاممية عنه، من خلال محاولات فرض الحصار على وكالة الاونروا و تجفيف منابعها المالية، ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة و تحولها الى جمعيات خيرية إنسانية.

ولعل ما أعطته مسيرات الغضب الجماهيري - مسيرات العودة - فاق كثيرا توقعات المشاركين، وأكثر توقعات المراقبين، وأحدثت "هلعا سياسيا – أمنيا واقتصاديا" لقادة الاحتلال الإسرائيلي، حيث جسدت الملحمة الكفاحية يوم 14 مايو 2018، بسقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، ردا على قرار ترامب بنقل سفارة بلاده الى القدس،  عنوانا وطنيا و كفاحيا لشعبنا المقاوم فوق ارضه.

لقد تجلت المقاومة الشعبية الفلسطينية في أروع صورها عندما هبت الجماهير الفلسطينية، وفي مقدمتها أبناء مدينة القدس، لمواجهة قرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي إغلاق المسجد الأقصى المبارك في الرابع عشر من تموز 2017م وللمطالبة بإزالة البوابات الإلكترونية والممرات الحديدية والجسور والكاميرات الذكية، وغيرها من الإجراءات الإسرائيلية التي أعقبت عملية الإغلاق؛ إذ سارع المواطنون إلى تنظيم المسيرات والاعتصامات والمرابطة وإقامة الصلوات على عتبات المسجد الأقصى؛ وكان باب الأسباط العنوان الأبرز لهذه المقاومة الشعبية السلمية، وقد صمد المواطنون الفلسطينيون صمودًا أسطوريًا وملحميا دون الالتفات للاختلافات الفصائلية والفكرية رغم لجوء جنود الاحتلال إلى العنف والعنجهية في محاولتهم فض اعتصام المواطنين ومرابطتهم في محيط المسجد الأقصى.

ومن أساليب المقاومة الشعبية ايضا، اهمية المقاطعة الاقتصادية للاحتلال و منتوجاته، التي تعدّ خطوة تدق مساميرها في نعش الاحتلال دون عنف؛ فالشعب الذي يريد مقاومة عدوه مقاومة مستمرة وجادة يبدأ أولًا بالمقاطعة الاقتصادية التي تلحق ضررًا فادحا باقتصاد الاحتلال، وتشجع المنتج المحلي الذي يعتبر أحد أركان استمرار المقاومة؛ ما يحتم ضرورة نشر الوعي الوطني الذي يرسخ المسؤولية الفردية والجماعية لدى أبناء الشعب الفلسطيني لتغليب القيم الوطنية على القيم الاستهلاكية.

الحرب ليست خياراٌ، دون أن نسقط معها كل إمكانات الرد أو المواجهة في نقطة تصعيد محدودة، اوعدوان غاشم من قبل طغمة الاحتلال على القطاع في غزة، او على المقاومة الفلسطينية، وكما ان "الرد الحربي" ليس خيارا، ايضا "وقف المسيرات"-  النموذج الامثل للمقاومة الشعبية -، هو خيارا تدميريا سياسيا ومعنويا، وكأنه إعلان هزيمة لا أكثر، وهو ما تسعى له "أطراف الحصار" لكسر روح الشعب الفلسطيني ليس في القطاع فحسب، بل في كل أماكن تواجده.

لقد بدأت مسيرات العودة بهدفٍ معلن، يتمحور حول رسالة واضحة محددة إلى المجتمع الدولي، بان قرارات الأمم المتحدة حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين لا زالت حبراً على ورق، وأنه المسؤول عن إفلات الاحتلال من العقاب في الوقت الذي ما زال الشعب الفلسطيني مناضلاً ومقاتلاً لنيل حقوقه. لذلك عملية المراجعة باتت أكثر من ضرورية، لضمان استمرار مسيرات العودة في سياق أهدافها التي أعلنت لدى انطلاقتها، ولاستعادة استهدافاتها السياسية والإنسانية و القانونية، بعيداً على توظيفها الفئوي و الفصائلي، ولضمان المسيرة الكفاحية الوطنية الجامعة والتوافقية، وبما ينسجم مع تطلعات شعبنا الفلسطيني و حقوقه المشروعة.

ان الإبداع الفلسطيني المقاوِم تجلّى بأبهى صوَره في ابتكار أسلوب المقاومة الشعبية السلمية،و التي تهدف الى أن يأخذ اللاجئ الفلسطيني زِمام المبادرة في تطبيق حق العودة المكفول له دولياً و قانونيا، والتأكيد على منطق الثوابت الفلسطينية التي تُعزّز الوعي المقاوِم لدى الجماهير الفلسطينية، و التي نجحت بالتأكيد في إعادته إلى ساحات الوجدان الفلسطيني، والوعي العربي، والضمير العالمي، بعد أن ظنّ نتنياهو أن الصمت العربي لن يعلو على أصوات احتفالاته مع الجميلة "إيفانكا ترامب" بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.

الأمر الذي يتطلّب الحفاظ على ديمومة استمراريتها كفعل شعبي كفاحي، مع الحرص الدائم على تقييم أدائها، ومراكمة إنجازاتها، وعدم التسرّع بقطف ثمارها، وقراءة مُتجدّدة للبيئة السياسية المواكِبة لها، كل ذلك من خلال وحدة المشاركة الفلسطينية في القرار الوطني تجسّيدا للوحدة الوطنية الشاملة و البرنامج السياسي التوافقي، مع الالتزام بالخطاب العقلاني الموجّه لحاضنة المسيرات الشعبية.

يجمع التحليل السياسي الفلسطيني او يتفق بشكل عام على ان مسيرات العودة شكلت تحولاً استراتيجياً مهماً، لأنها شكلت تطوراً جديداً في استمرارية قدرة الفلسطينيين على تبني أسلوب او مفهوم كفاحي شعبي- ميداني لمواصلة الاشتباك مع جيش الاحتلال وترسانته العسكرية وتطبيقات "صفقة القرن" المزعومة.

ان معالجة الثغرات والأخطاء لكل المقاومات الجماهيرية وصولاً لتطويرها وتوسيعها لتمتد إلى كل ساحات تواجد شعبنا، شكلا من اشكال الانتفاضة الشعبية العامة و وصولا الى العصيان الوطني الشامل، ما تعززه نقاشات وطنية عميقة لتحويل (مسيرات العودة و كل الروافع الوطنية والمجتمعية)، الميدانية منها و السياسية الدبلوماسية، إلى مقاومة مستمرة في وجه كل مخططات التسوية" لتلاقح" اليمين المتطرف الامريكي- الاسرائيلي.

نحن أحوج ما نكون الى استراتيجية وطنية لمواجهة خطر الاستيطان الاسرائيلي، الذي بات يشكل تهديدا وجوديا للشعب الفلسطيني كجزء من سياسة الاشتباك مع صفقة القرن الامريكية، والدخول في حوار وطني شامل لطي صفحة الانقسام ومتطلبات فك الارتباط بدولة "الاحتلال الإسرائيلي" والغاء استحقاقات أوسلو و ليس تجميدها فقط، وايضا متطلبات تدويل الحقوق والقضية الوطنية الفلسطينية وخوض معاركها في المحافل الدولية.

 

د. باسم عثمان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم