صحيفة المثقف

لمَ تصلح الفلسفة؟

الحسين اخدوشترجمة عن لوك فيري [1]

إعداد الحسين أخدوش

"مؤخراً هناك اعتراف بأن الفلسفة أصبحت شكلاً من أشكال الموضة"[2]

يقال عادة إنّ الفلسفة ليست مجرد خطاب لدى الحكماء القدامى، بل طريقة عيش ونمط حياة. فكما أنها ليست مجرّد نظام فكري أو مجرد نظرية، فلذلك هي حكمة تنهج ويُعمل بها. إنّنا سعداء أن نقدّم سقراط (Socrate)، على سبيل المثال، باعتباره ذلك الذي لم يكتب شيئا إطلاقا مثلما فعل بوذا، وكذا المسيح.حقّا تبدو الفلسفة المعاصرة مناقضة لمثل هذه الرؤية للعالم، فهي بشكل طوعي متخصصة في مجالات معينة من المعرفة (نظرية المعرفة، فلسفة الحق، فلسفة الأخلاق، فلسفة السياسة، فلسفة اللغة، تاريخ الأفكار، الخ). لقد أصبحت بالضرورة مادة مدرسية، أو جامعية تدرس مثل المواد الأخرى.

فمن ذا الذي يمكن الاستفادة منها؟ وما هي هذه الفائدة التي يمكن أن تُجنى منها؟ وهل هي مجرّد تكوين لعقل الشباب؟ لكن هذا بلا شك يعتبر كثيرا مقارنة مع متطلباتنا البيداغوجية، لكنه قليل جدا بالمقارنة مع المثل الأعلى الذي حركه في الأصل (البداية) أن يتمكن كل واحد من قيادة وجوده أو الوصول إلى حياة جيدة ناجحة. هل ينبغي إذاً التخلي وإهمال هدا الجانب المثالي؟ هل ما زال بإمكاننا أن نعطيه مضمونا وجوهرا؟ هذه كلها أسئلة أود أن أتطرق إليها اليوم.

بداية، هناك اعتراف في الآونة الأخيرة بكون الفلسفة قد غدت شكلا من أشكال الموضة، فلم لا نكون مسرورين بذلك؟ إنّه رغم ذلك، وإلى جانب الأسئلة الاعتيادية (لماذا هذا الحماس؟ على ماذا يدل؟ وأي فراغ جاء ليملئه؟ وأية علاقة تربطه ب"التدهور السياسي"، و"التجديد الديني"، وإعادة اكتشاف الحكمة الشرقية، إلخ). ينبغي أن نتساءل عندما نتحدّث عن الفلسفة: بماذا يتعلّق الأمر بالضبط؟ ما يزعجني هنا، ليس كوننا نشكّ أنّ عددا كبيرا من الناس يهتمون بالمسائل الفكرية، بل لأنّ هذا الاهتمام بحد ذاته، غالبا ما يستند إلى سوء فهم، فأنا أخشى من الفلسفة، فهي ليست كما نظنّ. كما أنّ قضاء متعة شراء بعض الكتب والذهاب للمقهى حيث نتحدّث بكلّ فرح عن السعادة وعن الحرية، يرافقه إحساس لدي أنّ المتعلّمين الفلاسفة سوف يصابون قريبا بخيبة أمل، ففي واقع الأمر، من المستحيل قراءة مؤلّفات سبينوزا (Spinoza) أو هيغل (Hegel)، كانط (Kant) أو أفلاطون (Platon)، دون أن يكون لديك تكوين جيّد وقوي، ومن الوهم أن نظنّ بأن ذلك لن يتطلّب سنوات عديدة، كما هو الأمر بالنسبة لأندر كونت سبونفيل (André Comte-Sponville) أو بالنسبة لي.

كذلك، يمكننا القول أنّ سعة الاطلاع لا فائدة منها لأنها مسألة ضد إدارة الجامعة للتفكير والتبصّر الذاتي. ومن دون شك فإنّ هذا هو الهدف النهائي، غير أنّه، ومن أجل الوصول إليه، يجب أوّلا أن يحصل هنالك تواضع في التفكير من طرف الآخرين، ومعهم كذلك؛ وإلاّ فمثلما نقول عادة (...) لا يمكننا تعلّم كيف نتفلسف، دون أن نتعلّم قليلا، وعلى ما يبدو لي كثيرا، الفلسفة. وهذا الأمر صعب نوعا ما، ويتطلّب وقتا، وإنّي لا أريد بهذا أن أحبط أولائك الذين لديهم حسن نيّة؛وإنّما على خلاف ذلك، أود أن أقول لهم فقط بانّ تعلّم الفلسفة إنّما هو مثل تعلّم آلة موسيقية: حيث ينبغي أن يكون لديك حماس في البداية وصبر وتمرّن، وهي كلّها أشياء ضرورية. لذلك، من الضروري أيضا أن نكون قادرين على القول لأولئك الذين يحاولون المغامرة كلّ ما من شأنه أن يمكّنهم من أن يأملوا فيها.

أكثر من ذلك، هل يجب التوافق بقدر ما، ولو كان قليلا، بخصوص معنى المذهب والذي يعتبر تعريفه بعيدا عن الانطلاق منه هو بالذات. ما هي الفلسفة؟ هذا السؤال مذهل والكثير من الفلاسفة حاولوا الإجابة عنه، لكن هذه المهمّة كانت ولا زالت غير مجدية. أكثر سخافة من هذا يمكن أن يظهر، فقد مرّ أكثر من عشرين عاما وأنا أبحث لأستشف جوابا معقولا لهذا السؤال على الأقل في نظري أنا، في الوقت نفسه الذي كنت فيه طوال هذه المدّة أفعل ما بوسعي لتدريس العقائد الكبرى للماضي محاولا التفكير في ذلك أنا بنفسي. فهذا المساء كنت أودّ أن أشارككم ذلك،  وأقول كم أجازف لأن أكون أكثر تبسيطا ملتمسا، بشكل مبالغ في بعض الأحيان، عذركم.

غالبا ما نلخّص الفلسفة في أمرين مهمّين، سواء في الفضاء العام أو في الوسط المدرسي، فهي تاريخ مجموعة من الأفكار من جهة،  أو هي تمرين للتفكير والتأمل الذاتي من جهة أخرى؛ إلاّ أنّه يمكننا عند الاقتضاء إضافة "الالتزام" كنوع من شمولية السخط الأخلاقي، الذي يسمح بالتدخّل في شؤون العالم "ليهدم الدنيء" بين الفينة والأخرى. إنّنا نعترف في الحال أنّه لا يبدو أنّ أيّا من هذه التعريفات تجسّد جوهر الفلسفة؛فحتى لو كان واضحا أنّها تجمع اليوم بين التعريفات الثلاث. ولعلّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تاريخ الأفكار إنّما يعتبر مشروعا مناسبا للتدريس؛ولكن من سوف يدرّسه إن لم يكن الفلاسفة مجرد مؤرخين، أو أساتذة. أمّا بالنسبة للتفكير، فإنّه يقال من خلاله عن طواعية أنّه يمكن التفريق بين الفلسفة والعلوم الوضعية: فالأخيرة يتجلّى دورها في معرفة العالم،بينما الفلسفة هي التي تفكر في الفكر، ويسمى ذلك بالتأمّل؛ لذلك، فالفيلسوف هو الإنسان الذي عادة ما يسعى إلى "التفكير فيمن يكون" (هيغل).

أمّا وأن يكون المفكّر لا يتوقّف عن التفكير المستمر، فلأنّه في ذلك مثله مثل الإنسان العادي، حيث كلّما طال شكّه بالحياة، احتفظت العبارات بمعاني خاصة وكشفت عن تجربة حياة فضلا عن ذلك؛إذ ذاك لن يكون لا الإنسان العادي ولا المفكّر فيلسوفا بالمعنى الدقيق للكلمة. أخير، إذا كان الالتزام هو ما يميز، بشكل جيّد، موقفا معيّنا للمثقف، فلأنّه ليس لديه شيء آخر محدّد عداه. لذا، يمكننا أن نكون كُتَّاباً بشكل كبير للغاية، أو حتى فنانين، ومؤرخين، وعلماء، أو حتى صحفيين متابعين لقضايا دولية: اسبانية،فيتنامية، جزائرية، أو البوسنة والهرسك، حتى دون أن تكون لنا أيّة حاجة لنصبح أرسطو (Aristote) جديد!

إذا كنّا نريد أن نعرف ما الذي تعنيه الفلسفة اليوم، وكنّا لا نزال نبتغي إدراك كيف يمكن لهذه الفلسفة أن تخدم شيئا معيّنا، أو تفيد في شيء ما؛ فإنّه عندئذ يكون من الواجب علينا معرفة حقيقة المعنى الذي كانت عليه هذه الأخيرة في مختلف الأزمنة والأوقات، وبخاصّة في الغرب الحديث، أو على الأقل إلى حدود الزمن الراهن؛ أي باعتبارها محاولة علنية لعلمنة الديانة المسيحية. هكذا، أكون قد اقتنعت، فيما يخص هذه المحاولة، بأنّه لا نزال بحاجة إلى الفلسفة، وذلك من أجل تحديد موقعنا في هذا العالم بغض النظر عن أصالتها أو عرضيتها.

 

.........................

[1]  فيلسوف فرنسي معاصر.

[2]  عنوان المقال هو: « A quoi sert la philosophie contemporaine ? Penser l’ irremplaçable de nos vies »، أنظر بهذا الخصوص مصدر المقال في الكتاب المشترك بين لوك فيري وأندري كونت سبونفيل:

Luc Ferry et André Comte-Sponville  : La sagesse des Modernes : Dix questions pour notre temps ; éd Robert Laffont, S,A ; Paris, 1998, pp.521-523.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم