صحيفة المثقف

نظرة الازدراء

عامر كامل السامرائيللكاتب الألماني: كورت كوشنبرك

ترجمها عن المجرية: عامر كامل السامرّائي

***

رَنَّ الهاتف.

رفع نقيب الشرطة السماعة وقال:

- تفضل.

- معك المفوض كارزيك. قبل قليل نظر إليَّ أحد المارة بازدراء من فوق الى تحت.

- قد تكون متوهماً، - قال نقيب الشرطة محذراً. - فأغلب الناس لديهم شعور بالذنب، وإذا ما التقى أحدهم بشرطي يُشيحُ بوجهه عنه، وهذا كاف لكي يبدو وكأنه انتقاص كبير للقدر.

- كلا. – قال المفوض- هنا المسألة تختلف تماماً. فقد شخصني بازدراء تام، من قمة بيريتي حتى كعب جزمتي.

- ولماذا لم تلقِ القبض عليه؟

- لقد كنت مذهولاً تماماً، وما أن فطنت إلى إهانته لي، حتى اختفى عن ناظري.

- هل تستطيع التعرف عليه؟

- بالطبع. كانت له لحية حنيَّة اللون.

- وماذا عن صحتك؟ كيف حالك اليوم، هل أنت على ما يرام؟

- كلا. حالي بائس بما فيه الكفاية.

- هون عليك. سأقوم باستبدالك حالاً.

فَتَحَ نقيب الشرطة المذياع، وبعث بسيارة مصفحة إلى المنطقة التي يناوب فيها المفوض كارزيك، وأمر بإلقاء القبض على كل مواطن له لحية حنيَّة اللون.

عندما تسلمت سيارات الشرطة الأمر كانت جميعها في الخدمة، سيارتان كان طاقميهما يتسابقان لمعرفة ايهما سيارته أسرع، وطاقم اخرتان كانوا جالسين في احدى الحانات يحتفلون بعيد ميلاد صاحب الحانة. وثلاثة آخرون كانوا يساعدون زميلهم للانتقال إلى بيت جديد، وكان البقية يتسوقون. غير انهم حالما عرفوا ما الخطب ركبوا سياراتهم واتجهوا بها نحو مركز المدينة.

غلَّقوا الطرق، ومشطوا الشوارع واحداً تلو الآخر. اقتحموا المحلات، والمطاعم، وفتشوا البيوت، ونقلوا إلى المخفر كل من كانت له لحية حنيَّة اللون. شُلَّت حركة المرور. كانت صافرات الإنذار تنعق، وترجف الناس، وانتشر خبر البحث عن قاتل جماعي. وخلال بضع ساعات جاءت المعركة حامية الوطيس بغنائم مُدهنة، فقد نُقِلَ إلى مخفر الشرطة ثمانية وخمسين رجلاً ذو لحية حنية اللون.

خطى كارزيك متكئا على ممرضين امام المتهمين، لكنه لم يتعرف على الجاني، فعَزَا نقيب الشرطة السبب إلى حالة كارزيك الصحية، وأمَرَ بالتحقيق مع جميع المشتبه بهم وقال:

- ربما تكونوا ابرياء من هذه الناحية، ولكن من نواحي اخرى فبالتأكيد يوجد في ذمتكم شيء ما. للتحقيق دائماً نتائج.

وبالفعل، كان ذلك صحيحاً، على الأقل في هذه البلدة الصغيرة. بالطبع لا ينبغي ان يذهب بنا الظن على أنهم مسوا المتهمين بأذى، ولا يمكن التحدث عن اي نوع من القساوة، فالأساليب كانت أكثر دقة. فمنذ زمن قام رجال المخابرات، وبدون اي الفات للنظر باستجواب اقرباء وخصوم كل مواطن محتجز لديهم، ودونوا محضراً لأشد ما يكره: كضجيج المطرقة الهوائية، والضوء الحاد، ورائحة الكافور، وصدح الأغاني الشعبية في الليل، والجرذ المسلوخ، والنكت القذعة، وعواء الكلب، وملامسة ورق مصيدة الذباب، وهكذا دواليك. هذه الذرائع، لو استخدمت كما ينبغي لأتت أكلها، ولأنتزع المحقق من المتهم اعترافاً ما، كيفما اتفق، صادقاً كان أم كاذباً فهذا لا يهم، المهم ان يشعر الشرطي بالرضى. وهذا ما كان ينتظر الخمسون ذوي اللحى الحنية اللون.

أما الشخص الذي كانوا يبحثون عنه، فقد وصل إلى البيت منذ وقت بعيد. لم يسمع قط صوت الجرس الذي قرعه الشرطة، فقد كان حينها يصب الماء في حوض الحمام. وعندما انتهى من سكب الماء، قرع ساعي البريد الجرس، وها قد سمعه هذه المرة، فأخذ منه البرقية.

لقد تسلم خبراً مفرحاً، فقد عُرضت عليه وظيفة في الخارج – ولكن بشرط ان يشد رحاله للسفر على الفور.

- حسنا – قال الرجل. ممتاز، شيئين يجب عليَ انجازهما حالاً: أن اقضي على لحيتي، فقد ضقت بها ذرعاً، وان احصل على جواز سفر، لأنني لم اضق به ذرعاً بعد.

استحم براحة وعناية تامتين، وارتدى ملابسه ثانية. وإجلالاً لذلك اليوم العظيم، شدَّ ربطة عنق مزركشة بشكل غريب، وسأل عبر الهاتف عن موعد اقلاع الطائرة. ثم انطلق عابراً الشوارع المسالمة، وعكف على إحدى محلات الحلاقة، وبعدما انتهى من الحلاق ذهب مباشرة الى دائرة الشرطة الرئيسية، فقد كان يعرف جيداً أنه لا يمكن ان يحصل على جواز سفر بهذه السرعة إلا بهذه الطريقة. هنا ينبغي أن اذكر أن هذا الرجل ازدرى الشرطي حقاً، لأن كارزيك كان يشبه ابن عمه تماماً، والذي يدعى إيجون، لقد كره ابن عمه المبتذل، والذي كان مدان له بمبلغ كبير من المال، فعندما وقع نظره على كارزيك، كان في نظرته وبدون قصد، نوعا من الازدراء، لذلك كان كارزيك مصيبا في تقديره للأمور، وادعائه كان موافقا للحقيقة.

شاءت الصدفة ان يلتقي هذا الرجل وهو داخل دائرة المركز الرئيسية بالشرطي نفسه مرة ثانية، ولكنه هذه المرة لم يشأ إيذائه، فأشاح بنظره فوراً، فلم يكن المسكين كارزيك على أحسن ما يرام، فقد قاداه ممرضان باتجاه سيارة الإسعاف.

لم تكن الأمور تجري بسهولة كما يتصورها صاحبنا، فيما يخص جواز السفر، ولم تكن لمختلف الوثائق التي كان يحملها اي جدوى، ولا معنى للبرقية التي أظهرها: فقد أصاب المسؤول الرسمي الفزع من استعجاله غير المبرر للحصول على الجواز.

- الجواز وثيقة رسمية مهمة. - وضح له. – وإصداره يحتاج إلى وقت.

هز الرجل رأسه.

- ممكن أن تكون هذه هي الآلية، ولكن لكل قاعدة استثناء.

- لست انا من يقرر بهذا الشأن، - رد عليه الموظف. -  مدير الدائرة فقط له الصلاحية بذلك.

- ليقرر إذن مدير الدائرة.

لملم الموظف الأوراق، ثم قام واقفاً، وقال:

- تعال معي، سنقطع أقصر طريق إلى المدير عبر غرف الموظفين.

عبرا سوية ثلاث او أربع غرف. كانت الغرف مكتظة برجال ذوي لحى حنية اللون،

- غريب- فكر صاحبنا مع نفسه- لم أكن اتوقع اننا بهذه الكثرة. ولكنني لم اعد واحداً منهم.

وكما هو عليه كل الدكتاتوريين، فقد كان النقيب مدير الدائرة الرئيسية يلعب دور بطل العالم عن طيب خاطر. وبعد أن ابلغه الموظف الرسمي الأمر صرفه، وأشار إلى زائره أن يجلس. وبصعوبة بالغة استطاع الزائر ان يرغم ابتسامة على وجهه، فقد كان مدير الدائرة يشبه ابن خالته أرتور تماماً، ولم يكن هو محبا لأبن خالته أرتور هذا أيضاً. ولكن عضلات وجهه قد أدت دوراً بطوليا في إظهار ابتسامته، فالأمر في نهاية المطاف يتعلق بجواز سفر.

- صغار الموظفين دائما قلقون. - قال مدير الدائرة- لا يتجرؤون على اتخاذ القرارات. حضرتك بالطبع ستحصل على الجواز، من هنا، الآن، فوراً. فدعوتك للذهاب إلى اسطنبول شرف كبير لبلدتنا، وتقبل أمنياتي بالتوفيق.

وقع الجواز، وضرب عليه الختم، وبلا مبالاة، وكأن المسألة تتعلق بدفتر عادي، ناول الزائر تلك الوثيقة المهمة.

- ربطة عنق سيادتكم ملفتة للنظر حقاً- قال المدير- خارطة مدينة، أليس كذلك؟

- نعم – قال الرجل- إنها خارطة اسطنبول.

- فكرة هائلة، -  ونهض المدير مادا يده، ثم قال: -  اسمح لي أن اتمنى لك رحلة موفقة، وخرج مع ضيفه مودعه حتى الباب، واومأ بيده بمودة، بعدها دخل الغرفة الثانية حيث يجرى التحقيق مع المتهمين.

لقد اعترف المساكين سيئ الطالع، بالكثير من الحماقات، لكي يتخلصوا من المرارة التي هم فيها، ولكنهم لم يتفوهوا بشيء عن الذي سيقوا من اجله الى هنا.

- استمروا بالتحقيق. - أمر مدير الدائرة، ثم ذهب لتناول الغداء.

عندما رجع، كان بانتظاره تقرير مفاده، إن حلاقاً ابلغ بأنه قام في ساعة مبكرة من هذا اليوم بحلق لحية زبون حنية اللون، ولم يتمكن من اعطاء اي مواصفات للشخص المذكور، ولكنه يتذكر عن لباسه شيء ملفت للنظر: فقد كان مرسوماً على ربطة عنقه خارطة لمدينة.

- يا لي من ثور. – ردد مدير الدائرة. وهرع ينزل السلم كل درجتين معاً. كانت سيارته تنتظره في الفناء.

- إلى المطار- صاح بالسائق، ثم انهار في المقعد الخلفي.

بذل السائق كل ما بوسعه ان يبذله، فقد دهس كلبين، وحمامتين، وقطة، واحتك بحافلة كهربائية، واصطدم بعربة يدوية محملة بنفايات ورق، وافزع الكثير من المارة. عندما وصلا المطار، اخذت الطائرة المتجهة نحو اسطنبول ترتفع فوق المدرج في الوقت المحدد لها.

 

............................

نبذة عن الكاتب:

ولد كورت كوشنبرك (Kurt Kusenberg) في السادس والعشرين من حزيران عام 1904، في مدينة كوتابورغ، من اب الماني الجنسية يعمل مهندسا في السويد. قضى ايام شبابه في اسبانيا في مدينة ليشبونة. درس تاريخ الفن بألمانيا في مدينة ميونخ، وتنقل بين فرنسا وإيطاليا. عمل في الصحافة الألمانية لعدة سنوات، محررا وناقدا. كتب الكثير من القصص، ودون افكاره في العديد من الكتب.

توفي كورت كوشنبرك خريف عام 1983 في مدينة هامبورغ

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم