صحيفة المثقف

تغريدات الماضي والحاضر في كتاب: الموسيقى بين الشرق والغرب

1117 علي الشوكعلي الشوك مثقف رفيع، واسع المعلومات، كثير القراءة والاطلاع بالعربية والإنكليزية، ملم بمعلومات عصره، فهو بدون مبالغة كان من أثقف أبناء جيله. ما كتبه علي الشوك في التراث والحياة تصعب الكتابة عنه، ويصعب تلخيصه، لأنه أشبه بتغريدات بلابل متعددة منتشـــرة في بستان شاسع يمتد أفقا ليشمل عالمنا الشرق أوسطي كله، وعمقاً ليطوي تاريخنا المغرق في القدم. هذا الكـــتاب عــبارة عن منمنمة هائلة، مكونة من أجزاء لا تحصى، لا يظهر شكل أي جزء، إلا بوجوده مع أجزاء أخرى، لكي تظهر اللوحة المرجوة.

دهشة البحث

ليس هناك كلمة زائدة موضوعة في السياق، أو مرادفة لأخرى سبقتها لمجرد تحسين التعبير أو تزيينه، لتحقيق غرض بلاغي، فكل الكلمات جاءت لتبليغ معنى محدد، بدون زيادة أو نقصان، فعلينا فهم الكلمة في سياقها، وإن لم نفعل ذلك تفككت اللوحة وفقدنا متعة التملي في جمالها. وعلى سبيل المثال، لم أكن أعلم مطلقاً، أن كلمة «شعر» موجودة في لفظها نفسه، أو قريب منه، في لغات قديمة، بعيدة عن العربية، لأن كلمة شعر العربية من خواص لغتنا وحدها، لكن ظهر لي بعد قراءة الكتاب أن لها شبيه باللفظ والمعنى لا بلغة اخت للعربية حسب، بل في لغة بعيدة عن العربية جذرا وصوتا وتصريفاً وحروفاً، هي السومرية، فشعر تلفظ في هذه اللغة «شِر، وسِير» ونقشت في أقدم وثيقة عالمية، في الكتابة السومرية، وكلمة «شعر» تصبح : «شور» بالآرامية، و «شيرو» بالبابلية، وشمل معناها الغناء ثم تتحول إلى «شير» بالكنعانية، وبالعبرية، فـ «شير هشريم» هي نشيد الإنشاد، في العهد القديم، وهي «شور» باللغة السنسكريتية البعيدة عنا بعداً ساحقا، ومن يدرس جذور اللغات وأصولها سيجد اشتراكاً هائلاً بين أصول أقوام وأعراق لا يتوقعها، تكشف أخوة تتسامى عن الفرقة التي نعيشها الآن، وتسمو عن العداء الذي تأصل فينا وأراق دماءنا بغير حق ولا معنى. في اللوحات الآشورية صُوّر الشيوخ العرب الأسرى، الذين قاوموا الغزو، في غير لوحة، آنذاك كانت كل أمة تغزو كل أمة في العهود الفارطة، وكان ذلك طبيعياً، لكن من غير الطبيعي أن يطرب الملك الغالب إلى صوت الأسير المغلوب، وهو يغني ويعزف بشكل باهر، يأخذ بمجامع قلب آسريه، فيطلبون منه أن يزيدهم طرباً، ولعل هذه مفارقة مؤلمة جداً، فالأسير المشغول البال بأسره وسجنه ومصير عائلته، وظروفه اليائسة البائسة، عليه أن ينساها كلها، ويبدأ بالتفريج وإطراب آسره، خلي البال المطمئن إلى ظروف حياته.

أغنيات الحب والموت

«يعزو تشارلز دارون نشوء الأغنية إلى تقليد أصوات الحيوانات في موسم السفاد»، هذا الكلام يؤسس إلى أن أغاني الحب، كانت أقدم النماذج الموسيقية التي عرفها الإنسان. وتأثر بهذه النظرية فرويد وتلميذه جون الليغرو المتخصص في اللغات السامية، الذي يحاول تقديم تفسير جنسي للموسيقى والآلات الموسيقية، «فالقيثارة آلة العواهر، وحسب النبي أشعياء تكمن فيها قوة الإثارة الجنسية عند الرجال، فهو يخاطب امرأة في العهد القديم: خذي قيثارة طوفي في المدينة أيتها الزانية المنسية، أحسني العزف، أكثري الغناء لكي تُذكري».

لا يقتصر الكتاب على ذكر أخبار الموسيقى في الماضي والحاضر، لكنه يذكر أهم الملامح الحضارية عند شعوب الشرق كلها بدءً من اليونان وانتهاء بإيران، عارضا معلومات مهمة منتقاة، لا يستطيع غير المختص معرفتها، ويصعب على غيره العثور عليها

بدأ الشوك كتابه بالهلاهل كعلامة للفرح عند الشعوب القديمة وكيف تطورت، ثم أصوات التفجع، حيث كانت أول الأمر أشبه ببوق بشري للإعلان عن الموت، أو حادثة وفاة، وكيف تطورت كلمة «يبا» الآرامية التي تعني النفخ في البوق، وألفاظ أخرى في لغات متعددة إلى صيحة «يبووو» المتفجعة، ولعل أغرب ما نتصوره أن حاصدات القمح في سوريا قبل آلاف السنين كانوا يتفجعون على إله القمح القتيل، الذي يتصورونه يلقى مصرعه تحت وقع المناجل أثناء الحصاد. بدأ التفجع بعشتار وانتهى إلى هللوليا القداس المسيحي، لكن التفجع لا يبقى إلى الأبد، فهناك مناسبات مفرحة، تتطلب التعبير عن الفرح كالهلاهل، التي بقيت في شعوبنا حتى الآن، وهي «ترعيش اللسان ليطلق أصواتاً تتردد فيها مخارج حرف اللام، على نحو احتفالي يعبر عن الفرح والبهجة، ما يأتي مصداقاً لما قاله القديس أوغسطين في تعقيبه على المزمور الثاني والثلاثين في التوراة، «وهل هناك حديث إلى الرب في صمته أبلغ من هذه الـ»تهاليل»، إذ أن اللغة قاصرة عن الكلام عند سبحانه».

الموسيقى والحضارة

لا يقتصر الكتاب على ذكر أخبار الموسيقى في الماضي والحاضر، لكنه يذكر أهم الملامح الحضارية عند شعوب الشرق كلها بدءً من اليونان وانتهاء بإيران، عارضا معلومات مهمة منتقاة، لا يستطيع غير المختص معرفتها، ويصعب على غيره العثور عليها، فهو يذكر على سبيل المثال عشرات الآلات الموسيقية في العراق وأوصافها، ومن كان يستعملها، لكنه لا يسردها مرة واحدة، بحيث يدفع القارئ إلى الملل، بل يمر عليها على شكل دفعات حسب ورود موضوعها وأهميته، وفي صفحات أخرى من الكتاب نعرف أن الأطفال في مصر القديمة كانوا يتعلمون القراءة والكتابة والأغاني، و«صنفاً معيناً من الموسيقى، الأمر الذي أذهل أثينابوس الفيلسوف معترفاً بأن اليونانيين والبرابرة (غير اليونانيين)، كانوا يتعلمون الموسيقى على يد اللاجئين من مصر، وأن بإمكان المصريين اجتراح أصوات نادرة من آلات موسيقية قليلة الأوتار، رغم وجود آلات متطورة صناعة وتقنية وزخرفة عندهم، فهم يمتلكون أكثر من عشر آلات وترية فقط، وقد خلدت أغنية مصرية لأنها تعبر عن كدح الطبقات الفقيرة، وهي «أغنية الثيران» وشاعت خارج مصر وداخلها، لأنها من الأغاني الإنسانية التي تظهر البؤس اليومي المصري

أدرسوا الحنطة لأنفسكم أيها الثيران

أدرسوا لأنفسكم

القض علف لكم

والحنطة لأسيادكم

أجهدوا أنفسكم كثيراً

وفي نقش على قبر أمينحيت في طيبة، يظهر أول قائد فرقة أمام عازفين في التاريخ، وهو يضبط الإيقاع بكعبه الأيمن، ويفرقع بإبهاميه وسبابتيه إلخ.

العرب

وفي الأساطير العربية أن شخصاً عربياً «لمك» كان أول من صنع العود والدف والطبل، وأن اخته «دلال» صنعت القيثارة، وإشارة الأسطورة إلى أخته تثبت دور المرأة في الحياة من خلال الموسيقى عند العرب منذ القدم، فهي على قدم المساواة مع أخيها، وربما كان العرب أول شعوب العالم اكتشافاً للغناء من خلال الحداء، لكسر رتابة السفر الدائم على رمال لا تنتهي، ولا بد أنهم كانوا يقرنون الغناء بالتراتيل الدينية، الأمر الذي سرى إلى الإسلام، فقد منعت قراءة القرآن من دون غناء أو لحن، حتى الشعر كان يغنى، وعبارة «أنشد يقول» كانت ملازمة للكلام عن الشعراء. واشتهر (ابن مسجح) كألمع موسيقي في الجاهلية وصدر الإسلام، وتنقل بين سوريا وشمال الجزيرة واليمن وإيران، وأرسى أسس نظام موسيقى عربي صميم، مع إغناءات فارسية وبيزنطية.

من الرشيد إلى لوركا

أحب أن أذكر قصة شيقة وردت في الكتاب لأغنية عربية انسلت من قصر هارون العظيم، ووصلت الأندلس، فأثارت لا زوبعة وحسب، بل زوابع، وما زالت تدور كسحابة عطر فريد حتى الآن.. جاء الفضل بن الربيع «الوزير» إلى مجلس الرشيد، متأخراً، ثم شرح سبب تأخره لحدوث قصة ظريفة، فقد طلبت ثلاث نساء مقابلته، وكن بارعات، جميلات، ذكيات فتاه في ربوع قصصهن، ونسي وقته، وعندما جلبهن إلى المجلس، وجدهن الرشيد كما قال الفضل، فقال الرشيد فيهن ثلاثة أبيات اشتهرت، وتغنى بها الشعراء والمغنون:

مُلكُ الثلاث الآنســـات عناني

وحللن من قلبي بكل مـكان

ما لي تطاوعني البـرية كلها

وأطيعـهن وهن في عصـياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قوين، أعزّ من سلطــاني

فغنتها عُريب المأمونية، بإيقاع معين، أذهل من سمعها، وانتقلت من فم إلى آخر، في جميع أنحاء بغداد وبقية المدن، لا العراقية حسب، بل العربية كلها، وربما كانت أول أغنية توحّد العالم الإسلامي، قبل وجود الراديو والأجهزة الإلكترونية الأخرى، فقد ذكر أحد المورخين عن رجل حج مع الرشيد، آخر حجته، فسمع الناس يتناشدون الأبيات الثلاثة في كل مكان، ويستبدلونها بأخرى في المعنى نفسه واللحن:

ثلاث قد حللن حمى فؤادي

ويعطين الرغائب فــي ودادي

نظمت قلوبهن بخـيط قــلبـي

فهن قرابتي يـــوم التنادي

فمن يكُ حلّ من قلب محـلاً

فهن من النواظـــر والسواد

وذكرت القصيدة الأصلية في ألف ليلة، منسوبة إلى المتوكل، ثم قلدها شعراء الأندلس، ونظم الخليفة الأموي الأندلسي، المستعين بالله قصيدة على غرارها، فانتشرت القصيدة أيضاً، واستشهد بها الفيلسوف الصوفي محيي الدين بن عربي، في غير موضع، «الفتوحات المكية» في سياق حديثه عن الحب الصوفي والدوافع النفسية، أما ابن قزمان الشهير، فكتب قصيدة زجلية يذكر فيا الجاريات الثلاث مع تغييرالأسماء: عائشة، زهرة، مريم. ثم انتقلت هذه الصيغ إلى أوروبا بنفس صوفي أو رمزي فقد كتب دانتي أغنية من وحي قصيدة الرشيد:

ثلاث نساء راودن قلبي

كباقة من الورد يتربع في قلبها الحب

الذي هو سيد حياتي

بالغات الجمال،

أمرهن مطاع

إنني أقول ما في القلب

ولا يكاد الكلام يسعفني

ــ ربما يلاحظ القارئ عدم سلاسة القصيدة، لأنها مترجمة ــ

ربما كان العرب أول شعوب العالم اكتشافاً للغناء من خلال الحداء، لكسر رتابة السفر الدائم على رمال لا تنتهي، ولا بد أنهم كانوا يقرنون الغناء بالتراتيل الدينية، الأمر الذي سرى إلى الإسلام

وظهرت مجموعة من الأغاني الأندلسية تدعى كانسيونيرو دي بلاسيو ويرجع تاريخها إلى ما بعد طرد العرب من الأندلس «القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهذه الأغاني على طريقة الزجل العربية، على غرار أزجال ابن قزمان الأندلسي، ولاحظ المستشرق الإسباني خوليان زيبيرا «1834- 1858» إن ما يعادل 85٪ من أغاني المجموعة كتب بهذه الطريقة الزجلية، من بينها الأغنيتان رقم 17- 18، وهما تذكراننا بأغنية هارون الرشيد في موضوعها:

أنا متيم في حب ثلاث عربيات

من حيّان:

عائشة وفاطمة ومريم

ثلاث من حيّأن:

عائشة وفاطمة ومريم

ثلاث من حيّان:

عائشة وفاطمة ومريم

ثلاث عربيات فاتنات

كن في طرقهن لجني الزيتونة

فوجدنها مجتناة

في حيّان:

عائشة وفاطمة ومريم

وجدنها مجتناة

فعدن مغشيات عليهن

ذابلات الألوان

في حيّان:

عائشة وفاطمة ومريم

ثلاث عربيات حسناوات

كن في طريقهن لجني التفاح

فوجدنه مجتنى

في حيّان:

عائشة وفاطمة ومريم

قلت لهن: من أنتن أيتها السيدات

يا من سلبتن حياتي؟

نحن مسيحيات بعد أن كنا عربيات

في حيّان:

عائشة وفاطمة ومريم».

أما آخر صيغة لهذه الأغنية القديمة، في سياق جولتها في شبه جزيرة إيبيريا، فقد عثرت عليها كارولينا ميكايلس في حالة رثة إلى حد ما، كما يقول خوليان ريبيرا، وهي اليوم ربما تكاد تلفظ أنفاسها في بلدة بارادا Parada في البرتغال. لكن الجواري الثلاث، هذه المرة، كلهن مسيحيات، وكلهن تحت اسم ماريا، وهذه هي آخر صيغة لأغنية ولدت في بغداد، قبل ألف عام، وانتشرت في العالم الإسلامي، ثم انتقلت إلى إسبانيا، ولحنها عذب جداً، ذو بعد غنائي جميل: (مي لا صول مي دو ري مي فا مي) تماماً على غرار الزجلية الرباعية. ولا بد أنها على إيقاع اغنية غريب المأمونية. على أن اللحن العربي كان يؤدى من قبل صوت واحد، بينما تغنى القصيدة الإسبانية على لسان جوقة. وقد استلهم جميع الموسيقيين الأوروبيين «في عصرنا الراهن» ممن حاولوا تقليد الألحان الشرقة هذه الصيغة.

حاول علي الشوك أن يبحث عن نهاية الأغنية العباسية، فوجدها لم تلفظ أنفاسها في القرية البرتغالية، ولم تتحدد أنفاسها في سمفونية مندلسون، وأوبرا ميير بير فقط، إذ كتب إلى مستعرب شاب هو خوسيه ميغيل من غرناطة، يستفسر منه عن مصير هذه الأغنية، بعد أن ذكر رحلتها في البلدان والعصور، فأجابه، «مؤكداً أن استقصائك عن هذه المعلومات كان ممتعاً إلى حد أن الموضوع اجتذبني أنا الآخر، فلها علاقة مع واحد من أكبر شعرائنا غارسيا لوركا. فهو يعتبر «الشاعر العربي الذي يكتب باللغة الإسبانية»، والمهم أن لوركا كان قد اهتم، هو الآخر بهذه القصيدة عن الآنسات الثلاث، وألف أو استرد لحنها هارمونياً، كما ترى في النص المدون بالنوتة الموسيقية، المرفق مع هذه الرسالة، وهكذا وصلت رحلة هذه القصيدة – الأغنية، إلى قرننا الحالي، على يد لوركا، وكلماتها رقيقة جداً، وهناك ترجمة إسبانية لأزجال ابن قزمان المشار إليها في كتاب خوليان ريبيرا، وفيها ذكر للأسماء الثلاثة المشار إليها، وهن عائشة، فاطمة، ومريم. وهو زجل مكتوب بلهجة الأندلسيين العربية يرجع تاريخه إلى 1078-1160، وهي السنوات التي تحدد عمر هذا الشاعر القرطبي الشهير، أعني ابن قزمان.

 

محمود سعيد - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم