صحيفة المثقف

العائد من جبل الموت

فتحي مهذبطردته (أ) مثل ذبابة قميئة تثير القرف والغثيان وتستفز الأصابع المتشنجة لسحلها واستئصال شأفتها ..

لم تعد ترغب في النظر الى وجهه الشبيه بكهف مليئ بالسحالي والعظايا..

لم يعد ذا جدوى .. ذا معنى .ذا نكهة آدمية..فقد ما تبقى من رصاصات الفحولة في جعبة ذكورته..اغتالته عنقاء الحاجة  ودهسه دب المرض الوبيل..

تصيح (أ) بلهجة مغلفة بغلالة البراقماتيزم : أنت كابوس ليلي فظيع سقط من مخيلة  هلامية على فروة رأسي..لعنة تلاحقني الى الأبد..

ثم دفعته بكل ما أوتيت من جنون  وحيوانية صفيقة خارج البيت..

لقد عاشت في ظل سلطته أميرة

ترفل في الحرير والذهب..

تسكن فيلا فاخرة اقتاتت من لحمه ودمه وأعصابه حتى استوت على سوقها..

لم يأل جهدا في اسعادها ومقاسمتها أحلى لحظات الحياة..

وهاهي بعد مرضه لفظته مثل قطعة أثاث غير مرغوب فيها ثم فتحت هذا البيت الفاخر ماخورا تختلف اليه فئة من صائدي  اللذة ومستهلكي الحشيش..

البائس(ب) قطعت رجله اليمنى

اثر حادث مرور رهيب..

وانكفأت عينه اليسرى على ذاتها

غار ألقها وامحت معالم بهجتها

وجمالها صارت عبئا لا يطاق..

عضو ميت تسكنه ظلمة أبدية..

لم يعد بمقدوره مزاولة أي عمل لتأصيل ذاته وفرض صوته في عالم لا يعترف بالضعفاء..

غزته عشيرة وثنية متوحشة من

الأمراض المزمنة والتي تهدده باقامة مطولة في عالم البرزخ..

استنكف منه ذوو القربى  وتحاشاه القريب والبعيد..

اغتدى يتسول في الشوارع المترامة المزدحمة بالأناسي..

الساق اليتيمة التي يجرها مثل قطعة من الخشب اليابس مهددة بالبتر..

ومن خلال عدسة واحدة ينظر الى العالم ويمتص ما بقي من ضوء المسافات..وعلى صدره تخيم بناية هرمة من الهواجس السوداوية.. صار يتنفس ببطء شديد كما لو أن وحشا  عصابيا غرز فكيه في عنقه الهش..

كم تمنى لو كانت له غلاصم سمكة ليتنفس ويتلاشى ضغط هذه الحجارة الكبيرة الملقاة على صدره من أعلى جبل العذاب اليومي..

نواقيس كاتدرائية تقصف شحمة أذنيه المتهدلتين..

أحيانا يشعر بانعدام نصفه الأسفل..باختفاء جذعه الهزيل..

حالة عصبية غامضة تنتابه من حين الى آخر..

كان أمام محطة الحافلات يستجدي المارة مستندا الى عصا

تعج بالنتواءت..

فجأة استحال وجهه المائل الى صفرة فاقعة الى قرية صغيرة ملآى بالأشباح.

عيناه تجمدتا مثل عيني منحوتة اغريقية ضاربة في القدامة..ارتمى على الأرض كتلة من الخشب المتداعي مبتوت الصلة بجوهر هذا العالم الحي..

انهال مطر غزير من الناس حواليه.

سحبت بنت خلاسية  قارورة عطر ..رشت دارة وجهه المبعثر مثل قطع من زجاج الغياب المهشم

أراقت إمرأة في العقد الخامس من عمرها تقريبا ماء باردا غلى جبينه

قال أحدهم: أطلبوا الاسعاف..

قال ثان: أوقفوا سيارة أجرة حالا..

قال شيخ طاعن في العتمة : ذروه

انه قاب زفرتين من الله..

انه يحتضر.. انه يحتضر..

طوقت هذه الجثة الساكنة غابة كثيفة من الوجوه الحائرة..

طفق طائر الوعي يحلق ببطء فوق عش رأسه..

وبحركة بطيئة للغاية شرع شباك عينيه المفتوحتين على عوالم لا مرئية..

أخذ لون وجهه يحمر تدريجيا..

لقد فر لص الموت الى جهة غامضة..

ونجت الجثة من مخالب القبار..

طفق يتحرك بهوادة راشقا تلك الغيمة البشرية التي تحلق بجواره

بنظرة مكتظة بالشكر والمديح..

انها نوبة عصبية حادة..

استوى على سوق وعيه كلية..

تحامل على نفسه..

عاد نصفه الأسفل الى جسده آليا مثل شاة جامحة..

واختفى فجأة في مطاوي هذه السحابة البشرية التي تنتظر الحافلة منذ قرون .

 

فتحي مهذب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم