صحيفة المثقف

السلطان

قصي الشيخ عسكرانفرج الستار، وكان المسرح خاليا، انتظر الجمهور، غير أنّ وقتا غير قصير مرّ ولم يظهر الممثلون. كل ماوقعت عليه الأعين عرش ذهبي يتوسط خشبة المسرح.

أخيرا أطلّ المخرج، رجل بدين قصير أصلع، دقيق الأطراف. كان يبدو ضجرا إلى درجة الإعياء. يشغله شيء يشلّ إرادته. تمعن في الجمهور، ثمّ أخذ يذهب ويجيء وتوقف في المنتصف.

أيها السادة.. قال هذه العبارة متشنجا ثم واصل: أنتم ترون العرش الآن، إن مايمنع البدء هو خلو المسرحية من الملك، من منكم يقبل أن يؤدي الدور؟

ظنّ الجمهور أنّ المخرج يمثل أو إنه يخفي بكلامه السابق مفاجأة من لعب المسرح. طال الانتظار. تطلع أفراد الجمهور في وجوه بعضهم البعض. قال المخرج بيأس:

أيها السادة لاتعتقدوا أني أمزح. أنا بحاجة إلى ممثل يؤدي دور الملك.. نزل عن الخشبة تاركا العرش خلفه. توقف في الممر تفرس بأحد الوجوه:

- هل توافق أيها السيد؟

- كلا

انتقل إلى سيدة تجلس قرب الجدار:

- سيدتي سأغير الملك إلى ملكة أتقبلين؟

- كلا كلا.

 مر على الصفوف. ضجر الجمهور. بدأ يزعق . تراجع المخرج خائفا إلى خشبة المسرح. قال بصوت حزين:

- أيها السادة لا أعتقد أننا يمكن أن نؤدي المسرحية الليلة بدون ملك، لكن الدور لايتطلب أيّ مجهود... الملك هو شخص يجلس على العرش، ويصدر الأوامر فقط.

 توقف عن الكلام. ارتفعت اصوات من القاعة. قال المخرج:

- من حقكم أن تقولوا يسقط المخرج لكني أقول لكم الحقيقة الممثل الملك مات الليلة، هذا مالم أكن أتوقعه.

 توقف عن الكلام ثانية ليرى تأثير عباراته على الجمهور. عاد الهدوء إلى القاعة، واصل الكلام:

لا أحد يستطيع أن ينجو من الموت. الحل الوحيد لبدء العمل هو أن يتطوّع أحد الحاضرين ليؤدي دور الملك.

 استغل الحاضرون صمت المخرج، فعادت الضجة من جديد... ومن آخر صف ارتفع صوت:أنا، أنا. .

 في هذه اللحظة تغيرت ملامح المخرج، وانقلب اليأس في عينيه إلى أمل حقيقيّ.

 قال:حسنا ماعليك إلاّ أن تصعد على الكرسي الذهبي.

 عندما اقترب الشاب من حافة الخشبة، بانت ملامحه تحت الأضواء للجمهو، في الثلاثين من العمر، ذو نظرة غامضة. طويل القامة يرتدي بدلة رماديّة.

 يعلو الصفير والهتاف وتصيح الحناجر بنبرة رتيبة:

 سلطان، سلطان، سلطان.

 يرتد الشاب إلى الخلف ويتمتم: سيدي كانت مزحة مني. لقد دفعوني إلى هنا، يقع المخرج في حيرة. إنه أمام وجه جاد القسمات لايصلح أن يؤدي مزحة ثقيلة . مهما حدث فهو بحاجة إلى شخص يؤدي دور الملك.

 يعلو الصفير والهتاف ثانية، وتصيح الحناجر:

 سلطان، سلطان. .

 اسمي سلطان بن الوالي لذلك صدرت مني المزحة، ودفعتني الأكف إلى هنا .. يصمم المخرج على التعامل مع هذا الوجه الذي يجيد المزاح وهو صارم، فكل من في القاعة يرفض.

 أنت قريب من الخشبة واسمك سلطان؟

 لكن الشاب قاطع بلهجة صارمة:

 إن لي شرطا قبل أن اصعد على العرش الذهبي.

 لابأس سنتفق حين تذهب إلى غرفة الملابس.

 مازال الشاب واقفا لايتحرك . وضع المخرج يده على كتفه، لكن الشاب لم يتحرك قال: مادمت سأرجع إلى التاريخ فلديّ شرط !

 هل تظنني أرفض؟

 حسنا والجمهور؟

 توجّه المخرج إلى الجمهور، حكّ صلعته . قال:

أتحبون أن نبدأ التمثيل؟

 حدثت ضجة – هتف الحاضرون بالموافقة . قال الشاب : شرطي أن توافقوا على كلّ شيء آمر به .

 كان الجمهمر متحمسا لبدء التمثيل. ترنموا صفقت الأكف، ملأت القاعة .. سلطان موافقون، سلطان موافقون!!. .

 توجه الشاب إلى غرفة الملابس. كان يبدو وقورا صامتا، وهو يجلس على العرش بملابس قديمة، كأن التاريخ تراكم على جسده، يحيط به جنود يحملون الحراب، وخلف عرشه حارسان يمسكان سيفين. كل شيء في اللوحة يرمز إلى حدث كبير. الملك صامت. الجنود مستعدون، الحارسان متهيئان لأيّ أمر مفاجيء، بقي الملك صامتا، والممثلون ينتظرون الأوامر بفارغ الصبر . طال الانتظار . ضجر الجمهور.

 بعد لحظات تحرك الملك. نهض من كرسيه . اقترب من حافة المسرح، سبقه الجنود وبقية الحرس . أخيرا نطق: أيها السادة مادمتم قد وافقتم على شرطي فأنا أحكم عليكم بالاعدام !!

 استدار أحد الحارسين نحو المخرج، أما الجنود حاملو الحراب فقد انتشروا بين المقاعد !

 

قصي الشيخ عسكر

...................

نشرت في مجلة العربي الكويتية العد 338 يناير 1987.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم