صحيفة المثقف

ما ينبغي ان نعرفه عن نخلتنا العراقية؟

تمتاز اشجار النخيل بانها دائمة الخضرة، لا تتساقط اوراقها ابدا، تمدنا بالاوكسجين وتمنحنا الظل وتساعد على حدوث التوازن البيئي، تجعل المناخ معتدلا. فتعطي للانسان شعورا بالهدؤء والراحة النفسية، وتعمل على امتصاص المياه الزائدة على الارض، وتجهز الانسان بالغذاء والاخشاب وتعد مصدرا لكثير من الادوية.

انها تقف امام عاتيات الزمن، صامدة  صابرة، لا يهزها عنف الاعصار ولا تزحزحها كثرة الرياح، مهما حملت في ثناياها من قوى البطش والظلام، فجذورها راسخة في اعماق ارضها الطيبة، كما يرسخ حب الوطن في عقول افراده الاغيار،  انها تعلوا في السماء شامخة، مجلجلة بعناقيد الثمر، فكلاهما : العراقي والنخلة، يفيضان بخيراتهما  ويستقيان سر وجودهما من ذات العطاء الرباني ـ المتمثل في الهواء والتربة والشمس ونهري دجلة والفرات.

ومنذ العهد الذي سبق حضارة سومر ولحد الان، كانت النخلة عند العراقيين مصدر غذائهم ومادة خام لصناعاتهم اليدوية الاولية، فمن جريدها صنعوا الكراسي للجلوس والاسرة للنوم والاقفاص لحمل البضائع، كما صنعوا من خوصها الحصران والستائر والسلال والمراوح وغيرها، مثلما استعملوا جذع النخيل لبناء سقوف منازلهم، وان النبي محمد (ص) الذي بنى المسجد الاول في الاسلام في مدينة يثرب في العام الاول للهجرة، كان سعف النخيل وجذوعها ضمن أدوات البناء الاساسية، فضلا عن ان المنبر الاول، كان مكونا من الجريد (د. حسين مؤنس في كتابه حضارة الاسلام)

التمر، هو فاكهة النخيل، يحوي على  مجمل المواد الغذائية الاساسية كالسكريات والبروتين والدهون، فضلا عن احتوائه قرابة عشرة انواع من المعادن والفيتامين.

كان الصينيون القدماء يطعمون اسرى حروبهم بالرز فقط، ليقضون نحبهم بعد اسابيع معدودة، لكن اذا اطعموهم تمرا، عاشوا سنة او اكثر  جاء في كتاب )جولة في عالم الاسطورة واللغة(  للباحث العراقي علي الشوك، بان العرب منذ القدم كانوا يشيدون بمقام النخلة وفوائدها المتعددة، بينما يقول الطب الحديث ان غبار الطلع يهدأ الاعصاب، ويعالج هشاشة العظام، و ينشط عند المرأة تكوين المبيض وينظم عندها دورة الطمث، ويكافح الضعف الجنسي عند الذكور.

اقول : ان اكثر مناطق العالم اكتظاظا بالنخيل وباجود انواعها، هو ارض الرافدين.  فالنخلة هي هوية العراق وعنوان عزه ورمز حضارته، فشعار الدولة العراقية عام 1921 كان متوجا بصورة النخلة كذلك! .

كانت النخلة عند الاقوام القديمة في المنطقة العربية مقدسة، ترمز الى الهة الحب والولادة عند الفراعنة، مثلما كانت ترمز الى الهة عشتار لدى البابليين.

اما في العهد الجاهلي، فكان اهل نجران في الجزيرة العربية، يعبدون النخلة بعد ان يكسوها بالملابس النسائية، لكن قبيلة حنيفة كانت تصنع صنمها من التمر، تأكله عندما يلم بها الجوع.

واستكمالا للمقال اروي للقارئ الكريم الحكاية التالية:

كانت لنا في كربلاء بستان في ماض الزمان نخلة، نسميها (كورانية).  كان طول ثمرها  3ـ4 سم، قهوائية اللون، غامقة لمًاعة خشنة الملمس ثقيلة الوزن، رطبها لذيذ الطعم، عذب المذاق، صادق الحلاوة، (لا نظير له). واذكر اني قدمت يوما لصديق لي في بغداد مقدارا منه، بعد ان علمت انه يمتلك البوما مصورا بالالوان لمجمل اصناف التمور في  العالم، وبعد ان شكرني عاد في اليوم التالي ليخبرني بان البومه يخلو من النوع الذي اهديته اياه، إذ انه اعتبره نوعا، لم يُعرف بعد..

وعندما عدت الى العراق من المانيا بعد اكمال دراستي عام 1964 اخبرني المرحوم والدي بان وزارة الخارجية العراقية كانت قد اتصلت به عام 1959 تسأله فيما اذا كان ممكنا ان يزور الملحق التجاري في سفارة جمهورية الصين الشعبية في بغداد، بستانه في كربلاء كونه يرغب في اخذ صورة لنخلة مخصوصة موجودة هناك:  واضاف المرحوم : لقد دهشتُ عند سماعي الخبر، إذ كيف انهم عرفوا ذلك؟  لكنني مع ذلك ابديت موافقتي ورحبت بمسؤول السفارة وحاشيته بكل سرور.

كانت هذه النخلة معبودة والدي. سمعته يقول لضيوفه يوما: (انني اشعر ازاء هذه النخلة  بأحساس غريب، فكأنما هناك شيء يجمعني بها) ..  فكان كلما خرج الى البستان، لم تغب صورة نخلته المحببة عن باله، بل انما يندفع نحوها شوقا، فيجلس امامها متأملا  يتراى للناظر وكأنه يتعبدها، ينظر الى قامتها الرشيدة بأعجاب، معظما مهابتها وجلال طلعتها، وهي الاطول بين رفيقاتها.  فيستشعر بالهدؤء والسكينة وراحة النفس، أفلا هي ملكة جمال مملكة النبات؟

وبعد ان غادرنا الوالد الى رحاب ربه بشهور، بدت على نخلتنا بوادر الذبول، فبدأ سعفها يفقد نضرة خضرتها تدريجيا، وعندما حان موسم الحصاد توقفت عن العطاء، ثم ماتت بعد حين.

اذهلني الحادث، وتحيرت في معرفة كنهه، ولم اجد له تفسيرا، اهو محض خيال ام شيء آخر؟

 

د. رضا العطار

.....................

* لقد جاء في مجال التكنولوجيا الحيوية غير البشرية للباحثة Florianne Koechlin عام 2008  ـ وهي عضوة لجنة الاخلاقيات الفيدرالي السويسري ـ  بان النباتات لها مشاعر واحاسيس !.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم