صحيفة المثقف

(حسين الحكومة) وحسين الناس.. ثانية!

قاسم حسين صالحقبل سنة تحديدا، كنا كتبنا مقالا قلنا فيه: لدينا في العراق (حسينان) يظهران بتناقض حاد في كل عاشوراء.. (حسين) يظهر من المنطقة الخضراء وحسين تغص الشوارع براياته السود. (حسين) الحكومة.. غني مترف تمد له صحون (ابو العراوي) و(المفطح) و(القوزي) والقيمة المطعمة بنومي بصرة وهيل ودارسين وبهارات قيمة.. يتفقدها معمم حكومي من احفاده يلطم صدره بخفه و(نزاكه)، خرج من قصره في (الخضراء) بحمايات وهمرات ورباعيات وسيارات مضلله، يصحبه وزير او نائبه وكبار المسؤولين في الوزارة التي تعود لعائلته!. وحسين الناس.. فقير.. مظاوم.. يقطعون المسافات قاصدينه مشيا على الاقدام، يباتون الليل في العراء.. ويكتفون بلفة فلافل.. ينوحون ويلطمون ويبكون.. ويشكون له ضياع عمر وبؤس حياة وقسوة ضيم ما شهدوه من يوم استشهاده.

ذلك هو المشهد الذي عشناه من خمسة عشر عاما، غير ان عاشوارء هذا العام لن يكون كسابقاته.. فصعود احزاب الاسلام السياسي الشيعي في 2005 هبط في 2018، والأقسى على قادته أن الذين هتفوا بصعودهم واوصلوهم الى السلطة هتفوا الآن بسقوطهم وأحرقوا مقرات أحزابهم.

الذي حصل، وتلك خطيئتهم التاريخية، انهم حين استلموا السلطة (او سلّمت لهم )، دفعتهم سيكولوجيا الضحية الى ان يعتبروا العراق غنيمة لهم.. فتقاسموه، ولم يخطر على بالهم شعب اضطهده النظام السابق وادخله في حروب كارثية وحصار لثلاثة عشر عاما.. فاهملوه تماما، لأن من (قوانين )الضحية انها تفكر في نفسها فقط وتبالغ في تعويض حرمانها.

لم ينتبه قادة أحزاب الاسلام السياسي الشيعي تحديدا الى ان الحاكم الذي يستهين بشعبه يتحول الى مستبد، وكانت بدايات استبدادهم انهم بعثوا بأحد (مناضليهم) الى سطح العمارة المطلة على ىساحة التحرير ليعطي الأوامر بضرب المتظاهرين في شباط 2011.. وتابعوا استخفافهم وسخريتهم من تظاهرات شعبهم سبع سنوات عجاف لسببين آخرين:يقينهم بانهم محميون في منطقة محصنة وكل (قائد) منهم لديه فوج حماية، وأنهم جيران السفارة الآمريكية التي يخافها الجميع. وتجاهلوا ادراك جماهيرهم لحقيقتهم أنهم طلاّب سلطة ومال ولا يعنيهم أمر الناس وان سجلت مدنهم اعلى درجات الحرارة في تموز دون كهرباء، او شربوا الماء المالح مع انهم في اغنى مدينة في العالم!

وغطرسة حكام الشيعة اوصلتهم الى انهم لم يصدّقوا ان جماهيرهم ادركت انهم استغفلوا، وأن أكثرهم عظّوا اصابعهم البنفسجية ندما على انتخابهم اشخاصا خذلوهم واستفردوا بالسلطة والثروة، ورؤيتهم لمبان مختلسة من الحكومة تخفق عليها رايات عاشوراء، وعقارات في ارقى احياء بغداد.. بيعت لمسؤولين وقادة احزاب بثمن بخس، وتهم فساد مخجلة صار يكيلها معممون حسينيون لمعممين حسينيين!.

كنا اشرنا سابقا الى ان التحليل الدقيق لمقولات الامام الحسين يجعلنا نستنتج انها تضمنت، وقبل اربعة عشر قرنا!، نفس القيم التي تبنتها حديثا منظمات حقوق الانسان المتمثلة بـ(العدل - والاخلاق - والحريات - والحقوق – والواجبات).. ونفس التحذير الذي وجهته الامم المتحدة حديثا بان انتهاك حرية الانسان وكرامته يجر الى مآس واحتراب يلحق الخراب بالوطن ويشيع الكراهية والعنف بين مكونات المجتمع.ونفس الهدف الذي تبنته الدول المتحررة في دعواته الإصلاحية إلى صيانة الكرامة الإنسانية، ورفض العبودية، وتحديه الذلة التي يريدها الطغاة للأحرار.وتوعية الناس بدورهم الاخلاقي والاجتماعي والديني في اصلاح شؤون الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنبيههم بأن مواصفات الحاكم العادل هو ذلك يحكم بالحق ويحترم آراء الناس ومعتقداتهم ويجعل القانون معيارا لهيبة الدولة ومشروعية حكمه، باعتماد مقولته: (ولعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله). وتوكيده على الحاكم ان يعمل بتعاليم الاسلام التي تؤكد على قيم العدالة بين الناس في امورهم المعيشية والخدمية وعدم معاقبتهم في ارزاقهم، وان لا يفرّق بين احد من الرعية على اساس القرابة او الطائفة او العشيرة.

والذي حصل ان الجماهير التي كانت قيمها راكدة، مستكينة لغاية 2015.. اخذت تقارن بين قيم حسين الناس وقيم (حسين) السياسيين، اوصلتهم الى اكتشاف انهم كانوا مخدوعين وعلى (نياتهم)، وكانت هي المرة الأولى بعد 2005 التي يشعر فيها حكام الشيعة بالخوف من حسين الناس بعد ان كانوا يعيشون الزهو والتباهي بأنهم حسينيون.. فيما اوصلتهم تظاهرات 2018 الى حالة الرعب.. التي يفترض ان تضعهم امام بديلين: اصلاح انفسهم والتصالح مع جماهيرهم.. وما حصل، او استخدام كل الوسائل (العنف، الأغراء، شراء الذمم.. التخدير بالوعود.. ) للقضاء على التظاهرات.. وقد حصل.. دون ان يدركوا انهم سيكونون ملعونين لعنة (يزيد) في نهاية قد تكون اقبح من نهاية صدام.

ومفارقة تراجيدية سيسجلها الترايخ:ان عطاشى كربلاء في مشهد قتل الحسين بعاشوراء (63) قابله مشهد عطاشى البصرة بعاشوارء (1440)، باستثناء غريب.. ان حاكما فاسدا من سلالة معاوية هو الذي حرمهم فيما الذين حرموا اهل البصرة حكّام من احفاد الحسين!.. وان هؤلاء العطاشى ومعهم الملايين صاروا على يقين من مقولة سيدهم الحسين (اني لا ارى الحياة مع الظالمين الا برما وما الموت الا سعادة (.. وليت من مات في العاشر من عاشوراء هذا العام (1441) بالتدافع.. قد مات في ساحات التحرير بالتظاهر!.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

12 محرّم 1441

12 أيلول 2019

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم