صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي بين احتلالين (8)

الهزيمة التاريخية للثورة: الأسباب والنتائج بالنسبة للحزب الشيوعي

لقد كانت قضية المرحلة الانتقالية والدستور المؤقت صفة اشبه ما تكون بحالة عضوية في كل تجارب الانقلابات العسكرية التي تحولت إلى "ثورات" في وقت لاحق. إن السبب العميق والأساسي لهذه الظاهرة تقوم في أن الانقلابات العسكرية قد استبقت وسرقت بمعنى ما إمكانية الثورات الاجتماعية السياسية الفعلية. وهي الحالة التي عاني وما يزال يعاني منها العالم العربي في كل مجرى النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن (الربع الاول من القرن الحادي والعشرين)، والتي ما زلنا نرى صداها واحتدامها في العديد من البلدان التي لم تصل بعد إلى برن الأمان الدستوري الثابت والديمقراطية الاجتماعية والسياسية السليمة. فالعسكر معسكر في الذهن والنفسية والعقلية. وهو لا يعرف غير الأوامر وتنفيذها. بينما الحياة السياسية والحزبية هي أكثر وأشد تعقيدا بما لا يقاس من ذلك، أي كل ما لا يستقيم ولا يستجيب لذوق الذهنية العسكرية المجيشة بأوهام القوة.

فقد عاش ومات جمال عبد الناصر في ظل الدستور المؤقت والمرحلة الانتقالية من تموز 1952 حتى أيلول عام 1970، أي حوالي ثمانية عشر عاما.

وعاش ومات عبد الكريم قاسم من تموز 1958 حتى شباط 1963 في ظل الدستور المؤقت والمرحلة الانتقالية، أي حوالي أربع سنوات ونصف.

وعاش ومات عبد السلام عارف وطرد عبد الرحمن عارف من شباط 1963 حتى 1968 في ظل الدستور المؤقت والمرحلة الانتقالية، أي حوالي خمس سنوات ونصف.

والشيئ نفسه ينطبق على حكم حزب البعث العربي الاشتراكي من تموز عام 1968 حتى الاحتلال الأمريكي في نيسان عام 2003 في ظل الدستور المؤقت والمرحلة الانتقالية، أي حوالي خمس وثلاثين سنة.

كل ذلك يشير إلى أن الدستور المؤقت والمرحلة الانتقالية هي أشبه ما تكون بمرض انتقالي بينهم، كما لو أن احدهم يقلد الآخر ويتفوق عليه في هذا المجال. جمال عبد الناصر أولا، وعبد الكريم قاسم ثانيا، والأخوين عارف ثالثا، وصدام رابعاً. وجميعهم فشلوا وانهزموا كل بطريقته الخاصة.

لقد كانت مسيرة عبد الكريم قاسم بالمعنى السياسي ردة واضحة وجلية للقاصي والداني. إلا أن قيادة الحزب الشيوعي آنذاك أصيبت بالجبن السياسي والعملي في مواجهة الردة السياسية والوطنية لعبد الكريم قاسم بحيث تركت الأمور تسير لحالها كما لو أنها مشاهد أحداث تجري في أحد الأسواق الشعبية! لقد كانت الموقف السياسية لعبد الكريم قاسم تتسم بالأنانية والغباء بقدر واحد. يقابله جبن وخنوع سياسي من جانب قيادة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك.

لقد كانت الردة السياسية لعبد الكريم قاسم، وانشقاق فؤاد الركابي وانضمامه لجمال عبد الناصر، وانهيار الجمهورية العربية المتحدة عام 1961 مجرد مؤشرات عليها. وقابلها في الوقت نفسه صراع داخلي عنيف في قيادة الحزب الشيوعي. فقد شن سلام عادل هجوما ضد عامر عبد الله واتهمه بالعمالة لعبد الكريم قاسم. وأن السبب القائم وراء عجزه عن تمرير سياسته تجاه عبد الكريم قاسم بسبب الكتلة التي كان يقودها عامر عبد الله نفسه، والتي كانت تضم كل من زكي خيري وبهاء الدين نوري وحسين ابو العيس. وبأثر هذا الصراع استجابت اللجنة المركزية لسلام عادل وأعادت تنظيم نفسها. بحيث أصبح سلام عادل الكلّ في الكلّ. وغادر عامر عبد الله إلى أوربا الشرقية. إلا أن سلام عادل لم يغير شيئاً في استراتيجية الحزب. وهو أمر لا يخلو من غرابة. أما تفسيره فيمكن العثور عليه بصورة غير مباشرة في قول ثابت حبيب العاني عن أن روح الجرأة داخل الحزب قد تعرضت للقتل. والتغيير الوحيد الذي جرى هو إصدار (طريق الشعب) كجريدة سرية للحزب. وفيها ارتفعت حدة النقد الشديد لعبد الكريم قاسم.

لقد كان التكتل الرباعي يعمل على نخر الحزب من الداخل. وفي الوقت الذي كان حزب البعث بإمكانياته الضعيفة يفكر بالاستيلاء على السلطة، كان الحزب الشيوعي العراقي بإمكانياته الهائلة آنذاك يهرب من السلطة. وكانت الأحداث المختلفة تحتدم وتؤثر على مسار العملية السياسية. فقد استخدام السوفييت حق النقض ضد انضمام الكويت للامم المتحدة عام 1961. وفي كانون أول من نفس العام جرى إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين. وكذلك إلغاء امتيازات شركات النفط في المناطق غير المستثمرة، ومسيرة أيار عام 1962 استعادت الصراع ثانية بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي. فقد كان شعور عبد الكريم قاسم أو تقديره يقوم في أن الخطر الفعلي عليه يأتي من اليسار وليس من اليمين. وقد كان ذلك يعادل معنى حفر عبد الكريم قاسم لقبره بيده وقبراً للشيوعيين والعراق أيضا.

ولم يغير من سلوك الشيوعيين تجاه هذه الردة الواضحة في السلوك السياسي لعبد الكريم قاسم ما جرى في أيلول عام 1962 من محاسبة التكتل الرباعي. فقد كانت هذه المحاسبة مبتورة. وذلك لأنها لم تجر بمعايير المحاسبة السياسية العميقة المتعلقة بتقييم التكتيك السياسي للحزب وإستراتيجيته البديلة. بمعنى أنها لم تجر ضد ما أدى به سلوكها من تهوين الإرادة الفعالة للحزب وخيانة مهماته الجوهرية آنذاك بالوصول إلى السلطة عبر تذليل الردة السياسية لعبد الكريم قاسم وتنحيته عن السلطة الفردية. إضافة لذلك إن هذه المحاسبة جاءت متأخرة جداً. ولم تستند على كيفية مواجهة الوضع القائم واحتمالات تطوراته المختلفة والاستعداد له. فقد اعترف الكونفرنس الثالث للحزب الشيوعي المنعقد في كانون أول عام 1967 بذلك. إلا انه اعتراف متأخر جداً. بينما نرى زكي خيري يتوصل عام 1994 إلى أنه كان من الضروري إنهاء الفترة الانتقالية لحكم عبد الكريم قاسم! وهو استنتاج يدل أما على جهل أو ضعف الذاكرة أو غباء من طراز خاص لا مثيل له. انه تحسس معنى الهزيمة بعد ثلاثة عقود من الزمن!!

حينذاك كان هتاف الجماهير المنتفضة ضد الانقلابين مدويا بعبارة "باسم العامل والفلاح يا كريم اعطينا سلاح". بمعنى أن روح الجرأة لم تمت كما قيل. فهدير الجماهير يطالب بالسلاح، بينما عبد الكريم قاسم يتجاهل ذلك، أما الحزب الشيوعي فيتقاعس عن قيادتها كما ينبغي في تلك المرحلة الحرجة في المسار التاريخي للعراق. لقد ارتكب عبد الكريم قاسم جريمة كبرى عندما رفض تسليح المنتفضين. وعوضا عن ذلك فضل الاستسلام أمام عبد السلام عارف. كما انه "استنكف" من دفاع الشيوعيين عنه وعن الحزب والشعب والعراق. لقد كانت مسؤولية عبد الكريم قاسم في تلك اللحظات التاريخية هي الأساسية. لقد غدر عبد الكريم بالثورة شأن من غدر فيها من خارجها. كما انه غدر بالشعب الذي أحبه بصدق، لأنه لم يثق به. وتلك كانت من المفارقات المؤلمة أيضا.

إننا نقف أمام حالة تبدو كما لو أنها تمثيلية سخيفة. الدماء السائلة والمحتملة جلية لكل ذي عقل سليم، بينما كان عبد الكريم قاسم يرقص فقط لهتاف الشعب. لقد اختار الانقلابيون ظرفاً اعتقدوا فيه أن العلاقات بين قاسم والشيوعيين بلغت أسوء درجاتها. مع هذا هبت الجماهير ومعهم الشيوعيون دفاعاً عن عبد الكريم قاسم وطالبوا بالسلاح. إلا انه رفض تسليحهم. كما طالب الضباط المحيطين به للانتقال إلى معسكر الرشيد باعتباره أفضل موقع لدحر الانقلابين. كما أن الفرقة العسكرية الأولى للجيش العراقي وكل مدن وجماهير الجنوب كانت ظهيرا لعبد الكريم قاسم . إلا انه رفض ذلك لأسباب تحير العقل النقدي في فهم بواعثها. كان دحر الانقلابين ممكناً. كما أن اندحارهم كان يمكن أن يؤدي إلى تحول عراقي وإقليمي ودولي كبير جداً آنذاك. لقد تم اضاعة فرصة تاريخية كبيرة وهامة للعراق.

إن مجمل الحوادث والمعطيات الواقعية التي سبقت وتزامنت مع الانقلاب البعثي وآثاره اللاحقة تكشف عن حالة شبه سريالية. فهناك معطيات مصورة عن صورة عبد الكريم قاسم فوق دبابات الانقلابين. وكيف إن أحد ضباط الانضباط العسكري الخفر اخبر عبد الكريم الجدة (آمر الانضباط العسكري بعد ثورة تموز واستشهد مع الزعيم عبد الكريم قاسم)، بأن احد الأشخاص اتصل به وأخبره عن محاولة انقلابية. إلا أن عبد الكريم الجدة استهان بالخبر، كما استهان به عبد الكريم قاسم. بينما عرفت قيادة الحزب الشيوعي بالمحاولة الانقلابية قبل ساعات من حدوثها. بينما ضاع خطاب عبد الكريم قاسم الذي سجله في وزارة الدفاع ومن ثم لم يجر إذاعته. ويقال لأن حامله إلى الإذاعة هرب إلى بيته. كل ذلك يكشف عن تخاذل من يسمى بالضباط القاسميين عن الدفاع عن عبد الكريم قاسم والثورة والجمهورية.

ولكننا في الوقت نفسه نستطيع القول، بأن نهاية عبد الكريم قاسم كانت نهاية منطقية لعسكري أناني لا يخلو من الغباء السياسي. لقد اتضح أو بات واضحاً أن الخطة التي وضعها عبد الكريم قاسم لمواجهة الحزب الشيوعي كانت أنانية وذاتية. كما أنها كانت خطة غبية انتهت بنهاية مأساوية لعبد الكريم قاسم وللحزب الشيوعي والعراق. إنها خطة عبد الكريم قاسم الانتحارية! لكنها انتهت بانتحار العراق. مع انه كانت هناك فرصة ملائمة تماماً للعراق في ان يكون نموذجا مبكرا في العالم العربي للدولة الحديثة. وهو نموذج لم ينفصل عن كفاح الشعب العراقي والحزب الشيوعي.

لقد كان انقلاب البعث وقيادته للمؤامرة "التاريخية" على الفكرة الوطنية والدولة والجمهورية صنيعة القوى الخارجية البريطانية والأمريكية، وكذلك أثر مصر الناصرية التي اشتركت من الناحية الموضوعية في هذه النهاية المأساوية للعراق.

كل ذلك يوصلنا إلى تحديد جملة من الأسباب الأساسية وراء سقوط حكم عبد الكريم قاسم، ولعل أهمها هي:

- عدم إنهاء الفترة الانتقالية وتسليم السلطة للشعب كي يدافع عن الدولة والنظام السياسي.

-  سياسة عبد الكريم قاسم المتذبذبة والفردية. وسعيه لموازنة الشيوعيين بالبعثيين والقوميين، الذين انقضوا عليه في الوقت والظرف الملائم لهما.

- تردد الحزب الشيوعي في استلام الحكم عندما كان ذلك مبرراً وممكناً وضرورياً.

-  غياب خطة للحزب الشيوعي لمواجهة الثورة المضادة أو الانقلاب العسكري المحتمل.

- موقف مرجعية النجف، وبالأخص محسن الحكيم ضد الحكم الجديد في العراق.

- التنسيق الامبريالي الرجعي البعثي القومي الناصري ضد الوضع الجديد في العراق، بأثر القلق العميق من تنامي دور الشيوعيين فيه.

- التآمر الامبريالي الرجعي الشرس ضد الحكم الجديد.

-  تأمر شركات النفط ضد حكم عبد الكريم قاسم.

-  تأمر البعث والقوميين وجمال عبد الناصر ضد حكم عبد الكريم قاسم.

- دور القادة القوميين الأكراد الخياني. فالسؤال التاريخي مازال مثيرا بهذا الصدد، وهو لماذا اندلع التمرد الكردي في الحادي عشر من أيلول عام 1961؟ وضمن الصورة اعلاه يكون التمرد الكردي جزء من التآمر على الجمهورية والعراق. الأمر الذي يكشف عن أن التمرد الكردي كان دائماً ومازال ورقة تستغلها القوى الخارجية للتدخل بالشأن العراقي الداخلي. وبالتالي كان التمرد الكردي وسيلة من الوسائل المتممة لإسقاط عبد الكريم قاسم وليس سبباً في سقوط قاسم. (يتبع.....).

 

يوسف محمد طه

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم