صحيفة المثقف

تربة النسيان

محمد غانيلا غرو ان كل شيء في هذا الوجود له وجهان احدهما ايجابي وآخر سلبي، فقط تتفاوت نسبة غلبة احدهما على الآخر، بذلكم التفاضل يميز العقل الصالح منه عن الفاسد، ولا عجب ان كبرت نسبة الغلبة في شيء ما حتى ظُنّ أنه مفسدة خالصة أو العكس.

من الاشياء الموهِمة في هذا الوجود التي قد يغلب على ظنّ أحدنا أنها مفسدة خالصة قضية "النسيان"، فأي جانب ايجابي سيتبدى لنا من نسيان رقم هاتفي هامّ؟ أو من سهو عن موعد اكثر اهمية؟ لكن سرعان ما يفيق العقل من سباته ويُنفَض عنه غبار الوهم فيصل الى النعم الخفية التي تكمن احيانا وراء هاته المسألة.

ألا نحس أحيانا بمتاهة افكار كثيرة تلخبط الرؤية من حولنا ولولا نعمة النسيان لأُصِبنا بتخمة فكرية قد لا نعرف معها للنوم سبيلا، يرى الناقد الروائي  السعودي المعروف عبد الرحمن منيف أنه "لولا النسيان لمات الإنسان من كثرة ما يعرف، لمات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجري من حوله".

أما الشاعر المصري فاروق جويدة فله صياغة فريدة أوحت لي بعنوان هذا المقال حيث ابدع قائلا:"الله تعالى جعل النسيان أرضا تمتص الكثير من الأحزان حتى ينقذ الناس من أحزانهم"، فيا له من اسلوب بليغ لوصف أمر في غاية الاهمية وله حضور يكاد يكون يوميا في حياتنا.

لكن ليس كل انواع النسيان في حياتنا اليومية صادقة فرب شخص يتظاهر بنسيان أمر ما لينفذ بجلده من ملمة ما، ورب آخر يتعمد نسيان أمور ما رغم تذكره إياها حتى يتسنى له  معاملة شخص ما بالكيفية التي تليق، او كما عبر عن ذلك في شيء من الروعة الكاتب المبدع واسيني الاعرج "نحن لا ننسى أبدا،  ولكن نغمض أعيننا قليلا  لكي نستطيع أن نعيش".

نفس الأمر قد نقوله عن مفاهيم أُخَر كموضوع التجاهل أو الوداع حيث يختلف تمثله بحسب السياق وبحسب نسبة حضوره في كل حالة على حدة، تقول الامريكية ليدي بيرد عن احدى الحالات التي عاشتها فاثمرت لديها الحقيقة التالية" يبقى التجاهل  أسوأ حالات الوداع ويبقى النسيان أرقى أنواع الألم".

وجه آخر للنسيان قد يكون له مو الآخر وجهان، ألا وهو وجه النسيان الذي يحمل صيغة الابتعاد، في حين قد يكون ذلك الابتعاد له وجه آخر غير النسيان وانما رد فعل ناتج عن خوف على الحبيب من المضرة أو غير ذلك من الاسباب التي تدفع طرفا الى الابتعاد المؤقت الى حين من الطرف الآخر، وما أجمل صياغة الانجليزية ليلياس تروتر لهاته الحقيقة بقولها "ليس كل ابتعاد يسمى نسيانا".

في بعض الاحيان لا يستطيع النسيان التغلب على ما هو ملِحّ رغم محاولاتنا الهروب لانشغالاتنا اليومية من ذلك ما يطرأ للمفكرين والكتاب من انشغالات فكرية ملحة قد توقظهم من نوم عميق ليجدوا جوابا لما ظنوا نهم قد نسوه، وهو ما خطه في ابداع انيق احد اهم الكتاب الاسبان المعاصرين خوان خوسي مياس بقوله "إلحاحات الفكر يبدو أنها تذهب، لكنها دائما ما ترجع الى المخ بعد ان تجتاز ما نسميها ماسورة النسيان"

 

د محمد غاني، كاتب- المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم